|
بين الإفراط والتفريط!
|
يبوح المرء أحياناً وعلى غير عادته بما لديه من أسرار إلى أقرب الناس إليه، ملغياً بذلك مبدأ السرية أو التحفظ التي تسود عادة العلاقات بين الناس..
يريد في هذا أن يتعرف على وجهة نظر من يتحدث إليه، أو أن يستمع إلى رأي سديد منه، أو مشورة ربما تفيده، أو مشاركة وتبادل في الرأي حول قضية أو موضوع بهدف الاستئناس بالرأي الآخر.
***
المرء معذور أحياناً إن هو أحاط خصوصياته بشيء من الاحتفاظ بها لنفسه..
ومن الطبيعي عدم إفشاء المرء لأسراره في بعض الأحيان، أو تعريف الناس بها، أو نقلها إلى الآخرين دونما سبب يبرر لذلك.
***
لكن بعض الناس يموت على كنز كبير من الأسرار..
يخلف وراءه ألغازاً كثيرة، وأسراراً مهمة، وتساؤلات لا نهاية لها..
وخفايا لا يعلمها أحد بما في ذلك أقرب الناس إليه..
مع أن بعضها من المفيد أن يكون أهله وأصدقاؤه ومن هو قريب منه على علم بها، كل وما يخصه وبما يكون مفيداً أن يعلم به من هذه الأسرار.
***
الغالب الأعم، أن المرء يموت ولا يضمّن وصيته بكل ما لديه..
ولا يُعثر فيها بعد وفاته على ما يجيب على كثير من الأسئلة..
فتضيع بذلك حقوق، وتختفي مطالب، وتغيب معلومات مهمة..
ولهذا السبب كثيراً ما تدب الخلافات بين أقرب الناس من الورثة وذوي الصلة القريبة بمن فارق الحياة.
***
ما عنيته في إشارتي لهذا الموضوع، وفي إشاراتي إلى بعض ما يسود المجتمعات حول هذا الشأن..
أن كتم الأسرار ليس كله شراً، مثلما أنه ليس كله خيراً..
لهذا لابد من المواءمة، وتدبر الأمر، وأخذ النصيحة، والبحث عن المشورة المفيدة، وهذه لا تتحقق إلا بأن يفتح المرء في حياته صندوق أسراره أمام من يثق بسداد رأيه، وأمام من تتوافر فيه الأمانة والصدق والإخلاص.
***
صحيح أنه ليس كل ما لدى المرء يمكن أن يقال، وأنه ليس من المناسب أن يمكّن الغير من أن يتعرف دائماً عليه..
وصحيح أن أموراً تتطلب المصلحة الشخصية للإنسان عدم اطلاع غير صاحبها عليها، أو الإفصاح عنها في غير توقيتها المناسب..
لكن هناك أشياء ربما كان من المفيد إشراك الغير بالحديث عنها، والبوح ببعض التفاصيل عن أمور منها..
وهنا يمكن القول بأنه لابد أن يتدبر المرء شؤونه، ويفكر بما ينبغي أن يقوله لمن هو لصيق به ممن هو موضع ثقته وقناعته بسداد رأيه.
***
إن إبقاء المرء على أسراره محتفظاً بها في ذاكرته، بما في ذلك أسراره الثقافية والتاريخية، إنما يبقي بذلك على مشاكل وتساؤلات كثيرة تورث عنه لغيره لو أنه مات قبل أن يتحدث بها لمن يعنيه أمرها أو يهمه موضوعها..
ولهذا كان على الإنسان أن يوثق ما يراه ضرورياً قبل أن يداهمه الموت على حين غرة، إذ إن الموت يزورنا دون استئذان أو أخذ موافقة من أي منا..
والظاهرة التي أتحدث عنها لها استثناءات ولا شك، ومن يستثنون ممن لا يصنفون ضمن هؤلاء المفرطين في توثيق ما لديهم هم أولئك الذين يبوحون بأسرارهم لفئة من الناس، أو يوثقونها كتابة ويودعونها خزائنهم ليجدها من يعنيه أمرها بعد وفاة صاحبها واضحة ومفصلة وتجيب عن أي سؤال. وليت كل منا يتصرف كما تصرف مثل هؤلاء.
|
|
|
خطوط السكك الحديدية في العالم.. نشأتها وتطورها (3-3) كيف ساهم القطار في توحيد الولايات المتحدة؟!
|
* إعداد - خالد حامد وأشرف البربري
شكل ظهور القاطرة البخارية بمظهرها المثير للفزع في أواخر القرن الثامن عشر صدمة حضارية حتى للشعوب الأوروبية التي وجدت نفسها أمام آلة معدنية ضخمة بمقاييس تلك الأيام تطلق كميات هائلة من الدخان وهي تشق طريقها فأطلقوا عليها اسم (العفريتة).
والحقيقة أن فرنسا شهدت أول محاولة لاختراع قاطرة بخارية قبل ظهور نتائج أبحاث البريطاني واط وميردوخ.
ورغم ذلك فقد كان لبريطانيا قصب السبق في تشغيل أول خط سكك حديدية في العالم. ورغم ذلك فإن دخول القطارات إلى فرنسا تأخر قليلا وسار بوتيرة أبطأ منها في الدول الأخرى.
ففي حين دخل أول قطار الخدمة في فرنسا عام 1832 وهو لم يتأخر طويلا عن بريطانيا فإن نمو خطوط السكك الحديدية في فرنسا خلال السنوات العشر التالية سار بوتيرة أبطأ كثيرا منها في بريطانيا ودول أوروبية أخرى لتجد فرنسا نفسها متخلفة عن بريطانيا وألمانيا وبلجيكا وسويسرا من حيث طاقة النقل إلى عدد السكان.
وقد لعبت الظروف السياسية في فرنسا دورا رئيسيا في تباطؤ نمو السكك الحديدية حيث عانت فرنسا على امتداد القرن التاسع عشر من سلسلة اضطرابات سياسية وصراعات عسكرية.
وفي حين لعب القطاع الخاص الدور الأكبر في تطور ونمو شبكات السكك الحديدية في الولايات المتحدة وبريطانيا نجد أن الأمر اختلف في فرنسا حيث لم تتطور تلك الخدمة سوى بعد تدخل الدولة وإنشاء هيئة حكومية تدير وتشغل وتمتلك شبكة السكك الحديدية في البلاد.
وما أن ترك الفرنسيون القرن التاسع عشر بكل ما شهده من اضطرابات وانقلابات ودخلوا القرن العشرين حتى انطلقت شبكة السكك الحديدية لتنمو بمعدلات سريعة لتصبح في عام 1914 وقبيل الحرب العالمية الأولى واحدة من أكثر أنظمة السكك الحديدية تطورا في العالم ووصل طولها إلى أكثر من 60 الف كيلومتر.
وفي السبعينيات دخل القطار فائق السرعة فرنسا وحقق نجاحا كبيرا خاصة أن فرنسا تحولت إلى نقطة تجمع رئيسية لشبكة السكك الحديدية في أوروبا الغربية التي تربط بين دول الاتحاد الأوروبي.
***
دخول روسيا عصر القطارات
ووفقا لنظرية عالم الجغرافيا السياسية الأشهر ماكندر فإن روسيا والجمهوريات السوفييتية السابقة تشكل (قلب الأرض). وعندما ظهر القطار القادر على طي الأرض بسرعة كبيرة لاختزال الزمن والمسافة اعتبره الروس هبة لربط أنحاء الإمبراطورية المترامية الأطراف في القرن التاسع عشر.
وعلى مدار اجيال كان القطار افضل وسيلة للسفر عبر الأراضي الروسية. وكان خط السكك الحديدية الذي يقطع سيبيريا هو وسيلة المواصلات البرية الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها للربط بين شطري البلاد في أوروبا وآسيا، وهو يجتذب عددا كبيرا من الأجانب في رحلة تستمر خمسة ايام عبر سهل فسيح يخلب الالباب.
ولكن قلة تعرف بوجود خط سكك حديدية خاص بجزيرة ساخالين الواقعة قبالة سواحل اقصى شرق روسيا حيث يمكنك القيام برحلة ليلية يتجاوز طولها اكثر من 800 كيلومتر عبر مناطق يندر بها السكان وتغطيها بحيرات وغابات.
كما ان القطارات ترتبط بواحدة من اكثر اللحظات اضطرابا في تاريخ البلاد. فقد عاد فلاديمير لينين إلى روسيا بالقطار في ابريل نيسان 1917 ليبدأ الثورة الروسية.
ويعد خط سكك حديد ساخالين من أطول خطوط السكك الحديدية في روسيا حيث تستغرق رحلة القطار عبر الجزيرة 17 ساعة اذ يتوقف القطار لفترات طويلة في محطات نائية. ويمتد خط السكك الحديدية على الساحل لبضعة اميال بعد ان يغادر يوجنو ساخالينسك عاصمة الجزيرة وقبل ان يتجه إلى داخل الجزيرة مرورا بالغابات التي يكسوها اللون البني بعد ان اصابت شمس الخريف أوراق الشجر بالذبول.
والحقيقة أن شبكة السكك الحديدية أصبحت العمود الفقري لنظام النقل في روسيا الاتحادية حاليا الوريث الشرعي للاتحاد السوفييتي السابق. وتلعب هذه الشبكة دورا حيويا على مختلف الأصعدة الاقتصادية والعسكرية والاجتماعية. وتملك الحكومة الروسية 100% من شبكة السكك الحديدية في البلاد. ولكنها تعاني الأمراض التي أصابت العديد من القطاعات الاقتصادية والاجتماعية في روسيا منذ أواخر العهد السوفييتي مثل تدهور الحالة الفنية للكثير من القطارات وعدم انتظام التشغيل والخسائر المالية.
وتنقل القطارات 84.8 في المئة من إجمالي حركة الشحن البري في روسيا وحوالي 37.5 في المئة من حركة الركاب. وتمتلك روسيا 17 شبكة سكك حديدية إقليمية ويصل إجمالي أطوالها 86.2 ألف كيلومتر وتخضع لإشراف وزارة السكك الحديدية التي تأسست بقرار جمهوري عام 1992م.
***
القطار الذي وحد أمريكا
ربما لم تلعب السكك الحديدية دورا حيويا في حياة أي دولة كما لعبته في حياة الولايات المتحدة الأمريكية.. تلك الدولة التي تتمدد أراضيها على امتداد قارة كاملة إلا قليلا.
فتباعد المسافات بين الولايات الأمريكية المختلفة شكل عقبة رئيسية في سبيل التواصل بينها منذ عهد الاستعمار البريطاني لها عندما كانت تحمل اسم (المستعمرات الأمريكية المتحدة) قبل الثورة الأمريكية وتحقيق الاستقلال تحت اسم الولايات المتحدة الأمريكية بمقتضى معاهدة فرساي بين الثوار الأمريكيين والسلطات البريطانية عام 1783م.
ولذلك ارتبط نمو وازدهار العديد من المدن الأمريكية الكبيرة حاليا بخطوط السكك الحديدية، حيث كانت العلاقة بين خطوط السكك الحديدية والمدن الأمريكية علاقة تبادلية. ففي حين كانت الخطوط تمد لربط مدن قائمة كانت مدن أخرى تظهر على جانبي الخط.
ونظرا للمساحة الشاسعة للولايات المتحدة فقد أصبحت شبكة القطارات فيها هي الأكبر على مستوى العالم لتصل عام 1923 إلى 258 ألف كيلومتر وهو ما يزيد على طول شبكة السكك الحديدية في بريطانيا بإحدى عشرة مرة.
والحقيقة أن دخول القطار إلى الولايات المتحدة في الربع الأول من القرن التاسع عشر اصطدم بعقبات سياسية واجتماعية وطوبوغرافية على عكس التجربة البريطانية.
وكانت الاستفادة الأولى لطاقة البخار في النقل بالولايات المتحدة هي المراكب البخارية التي استخدمت شبكة الانهار والبحيرات في الولايات المتحدة لنقل البشر والضائع حيث بلغ طول المجاري المائية الملاحية في الولايات المتحدة 2700 ميل تمتد من نيويورك في الشمال حتى نيو أورليانز على ساحل خليج المكسيك في الجنوب.
ولكن نجاح تجربة السكك الحديدية في لندن دفعت بعض الرواد الأمريكيين إلى تحدي الصعوبات بهدف إدخال خدمات السكة الحديد إلى أمريكا الشمالية.
وفي أوائل 1812 كان هناك أمريكي واحد هو جون ستيفنسون يؤمن بأن مستقبل تطور هذه الدولة الناشئة لا يعتمد على النقل قبل القنوات والمجاري المائية وإنما بالقاطرات البخارية التي تجري على قضبان حديدية في البر. ورغم أن ستيفنسون خاض تجربة فاشلة في مجال القوارب البخارية وخسر فيها عشرين ألف دولار فإنه لم يفقد حماسه لفكرة إدخال القاطرات البخارية إلى الولايات المتحدة.
وفي عام 1812 كان برلمان ولاية نيويورك يدرس مشروع شق قناة ملاحية تربط بين نهر هديسون وبحيرة إيري بهدف إيجاد وسيلة مواصلات تربط بين المدن الشرقية ومدن شمال غرب الولايات المتحدة. وعندما تحدث جون ستيفنسون أمام البرلمان قال إن إقامة خط سكك حديدية لقطارات بخارية للربط بين هذه المدن سيكون أرخص وأكثر كفاءة من شق القناة.
ولم تذهب محاولات ستيفنس هباء. فعندما طرح مشروع شق قناة ملاحية تربط بين فيلادلفيا وبيتسبرج ظهر اقتراح بالجمع بين القناة الملاحية وقضبان السكك الحديدية في خط واحد بحيث يتم شق قناة ملاحية في جزء من الطريق ثم استكمال الرحلة عبر قطار بخاري يسير على قضبان حديدية. وبالفعل تم تنفيذ هذا المشروع ليدخل مرحلة التشغيل عام 1832. وفي ذلك الوقت كانت هناك مشروعات مماثلة لمد خطوط سكك حديدية تربط بين المدن الأمريكية وبعضها البعض في مناطق أخرى من الولايات المتحدة.
ومن أوائل الخطوط الحديدية التي أقيمت في الولايات المتحدة خط سكك حديد بوسطن - لويل الذي كان طوله حوالي 26.5 ميل ويضم ثمانية عشر جسرا احدها كان طوله 1660 وخط أهايو - بالتيمور الذي صدر قرار إنشائه عام 1827 ولكن بحلول عام 1830 لم يكن قد تم مد أكثر من 12 ميلا من هذا الخط. وفي أغسطس من ذلك العام كانت الولايات المتحدة قد شهدت تجربة ناجحة للقاطرة البخارية توم تومب التي صممها المخترع الأمريكي بيتر كوبر قطعت خلالها القاطرة 13 ميلا من بالتيمور إلى إليكوت مايلز بولاية ميريلاند. وفي عام 1832 استقبلت قضبان السكك الحديدية الأمريكية القاطرة البخارية الأمريكية التي اخترعها فينياس ديفيز عام 1829م.
ولم يصل القطار البخاري إلى العاصمة الأمريكية واشنطن إلا في عام 1835 وفي عام 1842 وصل كيمبرلاند.
وبعيدا عن التجارب والمحاولات غير المكتملة لجون ستيفنسون يمكن القول إن أول قاطرة بخارية حقيقية تنتج في الولايات المتحدة ظهرت عام 1830 وأنتجتها شركة (ساوث كارولينا رايل واي) وبعد فترة قصيرة تمكنت الشركة نفسها من انتاج محرك بخاري ثان. ورغم البداية المتعثرة للسكك الحديدية في الولايات المتحدة فإنه لم يأت عام 1850 حتى كان طول الخطوط الحديدية فيها أكبر منه في بريطانيا التي شهدت مولد هذه الوسيلة الحديثة للنقل. ففي ذلك الوقت وصل طول شبكة الخطوط الحديدية في الولايات المتحدة إلى ما يقرب من 2500 ميلا.
***
قطارات الانفاق الامريكية
وإذا انتقلنا من الحديث عن القطارات السطحية في الولايات المتحدة إلى الحديث عن قطارات الانفاق في القوة العظمى الوحيدة بالعالم الآن لن نجد أفضل من شبكة قطارات أنفاق مدينة نيويورك عاصمة المال في العالم التي تعد واحدة من أهم وأشهر شبكات قطارات الأنفاق في العالم.
دخلت شبكة قطارات أنفاق نيويورك حيز التشغيل في الرابع من يوليو عام 1904 وهو اليوم الذي يوافق ذكرى قيام الولايات المتحدة الأمريكية. ومنذ بدايتها حققت هذه الخدمة نجاحا كبيرا كما كان الحال في شبكة قطارات أنفاق لندن خاصة أن مدينة نيويورك مدينة اقتصادية من الطراز الأول ما يعني حاجة السكان فيها إلى وسيلة مواصلات سريعة ومضمونة.
وعلى مدى حوالي قرن من الزمان حققت شبكة قطارات أنفاق نيويورك نموا هائلا حتى أصبحت تضم حاليا 22 خطا رئيسيا و468 محطة ويعمل بها حوالي 26 ألف عامل وتخدم حاليا حوالي 1.4 مليار راكب سنويا وهو يعادل حوالي ربع سكان الكرة الأرضية.
***
القطار في قارة آسيا
ومن أوروبا وأمريكا الشمالية انتقل القطار إلى آسيا، تلك القارة شاسعة المساحة مترامية الأطراف. وكان الاستعمار الأوروبي هو كلمة السر في دخول السكك الحديدية إلى تلك الدول، ليس انطلاقا من رسالة حضارية وإنما خدمة للأهداف الاستعمارية الرامية إلى إيجاد شبكة نقل فعالة تتيح له تحقيق أقصى استغلال للموارد الاقتصادية لتلك المناطق.
والحقيقة أن مشروعات السكك الحديدية في منطقة جنوب شرق آسيا والمحيط الهادي اصطدمت منذ البداية بتقسيم مناطق النفوذ الاستعماري للدول الأوروبية ثم بالصراعات السياسية بين الدول الآسيوية في مرحلة الاستقلال خلال النصف الثاني من القرن العشرين.
وتقدم شبكة السكك الحديدية في شبه الجزيرة الكورية نموذجا واضحا على تأثير الصراعات السياسية والعسكرية على تلك الخدمة.
فقد كان الصراع بين شطري شبه الجزيرة المستمر منذ أكثر من نصف قرن أحد المعوقات أمام إكمال أحد مسالك مشروع (سكة القطار الآسيوية العابرة للقارات)، ومع أن لذلك فوائد اقتصادية فإنها قد تشعل تأزمًا في التنافس الصيني الروسي على المدى القريب، كما أنها ستكون ذات آثار سياسية وثقافية واجتماعية وسياحية بوصفها وسيلة مواصلات دولية تربط دولاً مختلفة.
ومع ذلك فقد وافقت حكومتا الكوريتين الشمالية والجنوبية مؤخرا على البدء في ترميم الجزء المدمَّر من سكة الحديد التي تربط جنوب شبه الجزيرة الكورية بشمالها، وطولها 499 كم؛ لتصل العاصمة الجنوبية (سول) بمدينة (شينويجو) التي تقع على الحدود الشمالية الغربية لكوريا الشمالية مع الصين، مرورًا بالعاصمة الشمالية بيونج يانج؛ وهذا يعني أن السكة الكورية ستمهِّد لوصل الجزء المقطوع من مشروع السكة الحديد الطويلة التي تربط بين القارتين الآسيوية والأوروبية عبر الصين وسيبيريا الروسية.
وكان قسم لا يزيد طوله عن 20 كم قد اقتُلع من السكة الكورية منذ اندلاع الحرب بين الكوريتين منذ نصف قرن، حتى التقى الرئيسان الكوريان في منتصف يونيو 2000 واتفقا مبدئيًّا على بدء استخدام السكة.
وكانت السكك الحديد الكورية قد افتتحت في 25 مارس عام 1906 واستغرق بناؤها 733 يومًا من قبل الحكومة اليابانية التي كانت تستعمر كوريا آنذاك، وفق سياستها الساعية الى غزو منشوريا ولاستكشاف المناطق الشمالية من شبه الجزيرة.
وقد كانت اليابان بالرغم من المعارضة الصينية قد ربطت سكة الحديد الكورية بسكة حديد (كوينغوي) التي تربط كوريا بالصين عام 1911 كما قامت اليابان - في الوقت نفسه - ببناء جسر خاص للسكة الحديد على نهر آمنوك الذي يفصل الحدود الصينية الكورية؛ ما أكمل ربط سكتي حديد البلدين بين العاصمة الجنوبية (سول) بمدينة تشانج تشون الصينية في إقليم جيلن، التي ترتبط في النهاية بأقاليم الصين الأخرى.
ويمكن القول إن إحياء خط السكة الحديد الذي يربط بين شطري شبه الجزيرة الكورية يمكن أن يلعب دورا رئيسيا في إعادة التواصل الشعبي والتجاري بين البلدين، كما سيساعد في إخراج كوريا الشمالية من عزلتها؛ نظرًا لعدم قدرة غالبية الكوريين الشماليين على السفر جوًّا خلال هذه الفترة، وقد تكون السكة الحديد أهم من كل الوسائل والجهود الساعية نحو التقارب بين الكوريتين إعلاميًّا وسياسيًّا.
لذلك كانت قضية سكة الحديد من أوائل القضايا المثارة في مساعي التقارب بين الكوريتين؛ حيث يشير أرشيف وزارة الوحدة الكورية الجنوبية إلى أن الحكومتين قد وافقتا على ربط سكة حديد (كيونغوي) منذ عام 1991، وأن الزعيم الكوري الشمالي الراحل كيم إيل سونج كانت له رغبة في إعادة فتح سكة الحديد بين الكوريتين، مشيرًا في حديثه مع مسؤول بلجيكي قام بزيارته عام 1993م الى أن ذلك سيدخل لبلاده أرباحًا سنوية لا تقل عن 1.5 مليار دولار سنويًّا.
وينظر المراقبون إلى الأثر المستقبلي الذي ستحدثه سكة الحديد الأوروبية الآسيوية، وهو مشروع طُرِح منذ سنوات، وبدأ التنسيق في شأنه بين الدول الأوروبية في الاتحاد الأوروبي ودول شرق آسيا، فسكة الحديد ستساعد في تعزيز التقارب الاقتصادي بين دول شمال شرق آسيا ومناطق روسيا الشرقية، وبالنسبة لروسيا فإنها ستربط جزءاً من اقتصادها من خلال هذه السكة بآسيا.
ومن المؤكد أن خط السكك الحديدية بين آسيا وأوروبا سيغير من أشكال التجارة والتنقل بين سكان المنطقة من أوجه عدة: فهي ستساعد على إحداث نقلة نوعية للتحول الصناعي لكوريا الشمالية، وتمهد لتوسيع نطاق عمل شركات كوريا الجنوبية، خاصة أنها ستساعد معظم المشاريع الصناعية لكوريا الجنوبية الموجودة على طول الساحل الغربي لشبه الجزيرة، وستسهل نقل البضائع والمواد الخام بين البلدين.
ثم إن السكة ستكون بمثابة ما أسماه رئيس كوريا الجنوبية السابق كيم داي - يونج ب(طريق الحرير الحديدي) الذي سيربط شمال شرق آسيا بروسيا وآسيا الوسطى من الدول المستقلة منذ العقد الماضي، والمتطلعة لخط اتصال بري يربطها بآسيا لتقليل الاعتماد على روسيا، وستقلل من المدة التي تستغرق فيها عملية شحن البضائع الكورية بحرًا وهي أسبوعان لتكون أسبوعًا واحدًا من كوريا عبر (طريق الحرير الحديدي) إلى أوروبا، وحسب تقدير آخر فإنها ستخفض كلفة ومدة الشحن بالنسبة للمصدرين الكوريين بنسبة 30% على الأقل، وستستفيد منها الصين كذلك بتصدير سلعها من الأقاليم الغربية.
***
ربط آسيا بأوروبا
ووفقا للمخططات بعيدة المدى فلن تكون كوريا الجنوبية هي نهاية المطاف بالنسبة لخط سكك حديد آسيا - أوروبا. فهناك خطة أخرى في جنوب شرق آسيا لتربطها بأوروبا لتكون إحدى أطول سكك القطارات في العالم، حيث سيبلغ طولها عند اكتمالها 15 ألف كم، وتشق طريقها من سنغافورة إلى اسكتلندا لتربط أقاصي آسيا بأقاصي أوروبا بهذا الشكل، لأول مرة في التاريخ تتراوح المسافة التي ما زالت قيد الإنشاء من السكك الحديدية بين 1800 كم - 2000كم في بعض الدول الآسيوية، كما أن أحد طرق السكة الحديد يستوجب حفر نفق تحت خليج البسفور لربط الجزء الآسيوي بالأوروبي من تركيا، وبالرغم من أن الفكرة ليست جديدة فهي تعود إلى ما قبل أكثر من 40 عامًا، فإن التطورات الأخيرة فيما يخصها تنبئ بقرب تحقق الحلم خلال فترة تتراوح ما بين خمسة إلى ثمانية أعوام.
وكانت ماليزيا قد دعت لإحياء الفكرة منذ عام 1995 عندما تحدث عنها رئيس وزرائها في ذلك الوقت (د. مهاتير محمد) في القمة الآسيوية الأوروبية في بانكوك، وساهمت ماليزيا بخمسة ملايين (رنجيت ماليزي) (1.3 مليون دولار) لدعم إعداد الدراسة الشاملة للمشروع، وتكفلت وزارة المواصلات الماليزية بمهمة الإشراف على متابعة التنفيذ.
وما زالت العوائق قائمة؛ فالاستشاريون الماليزيون وهم المنسقون للمشروع الآن أوقفوا أعمالهم لفترات متباعدة؛ لأن بعض دول آسيا الفقيرة ما زالت لا تبدي اهتماما حقيقيا بتحديث بلادها. بالإضافة إلى العلاقات غير الودية بين شطري كوريا.
إلى جانب المشكلة الفنية، التي تتعلق باستخدام الدول الآسيوية خمسة مقاسات مختلفة لعرض السكة الحديد، الذي يعني عدم قدرة القطارات على اجتياز هذه الدول جميعها.. لكن أحد الخبراء قال: إن المقاسات المختلفة للسكك الحديدية لن تبطئ حركة السلع والأفراد بصورة كبيرة؛ حيث إن هناك معدات حديثة اليوم تسهل نقل حاويات البضائع من قطار لآخر، أما الأفراد فكأنهم يغيِّرون طائرتهم عندما يهبطون للترانزيت في أحد المطارات. لكن العائق الأصعب من ذلك هو أن بعض الدول المعنيَّة بالمشروع لم توقِّع بعض الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي تضمن سرعة التنقل مع قلة التكلفة الجمركية عبر الحدود المتعددة.
وتقول دراسات الأمم المتحدة: إن رسوم الحمولات والبضائع تشكل القاسم الأعظم من عائد المشروع وليس ما يدفعه السائحون؛ لأن النقل بهذه السكة عابرة القارة الآسيوية سيكون أرخص من الإبحار عبر المحيطات والبحار، ومن المؤمل أن تثبت السكة فاعليتها من حيث التكلفة، وستأخذ الرحلة على الأكثر 28 يوماً بالقطار الذي يسير بسرعة متوسطة 48 كم - ساعة، مقارنة بـ 35 يوماً في البحر.
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|