|
لماذا ومتى وكيف نختلف؟!
|
قد تقسو الظروف على الإنسان، فلا يملك بعضنا ممن مسّه ولو سهمٌ واحدٌ من قسوتها حيلة للتغلُّب عليها، ولا وسيلة قادرة للانتصار في موقف كهذا، أو الظَّفر بما تتمنّاه النفس ويرتاح له الضمير.
وقد يواجه المرء الكثير من التحدِّيات وقسوة هذا النوع من الظروف، دون أن تكون لديه القدرة على الصمود أمامها، فيتأثَّر مع الزمن مزاجه وسلوكه وتعاملاته وكلُّ ما يؤثِّر في شخصيته، بما قد يكون سبباً مهماً بما شابها من متغيِّرات.
***
وفي ضوء هذا..
ومثلما قلنا..
فنحن أمام حالة ينبغي التعاطي معها باهتمام، في ظل ما نشهده من مستجدات في سلوك وتصرُّفات بعض أفراد مجتمعنا، فمثل هذه الظروف، قد تكون مؤثرة وجاذبة لبناء شبكات إرهابية جديدة ومتطوّرة في حياة وسلوك الناس باستثمارها لهذا الهدف.
وإذا سلّمنا بهذا التوصيف لتصرُّفات الإنسان وطبيعة سلوكه وقابليته ليكون حاضناً ومستعداً وحملاً وديعاً لما يمليه عليه غير الأسوياء من عارفيه وجلسائه، وأمكننا أن نمسك بالخيط الرفيع عن أسبابها، فعلينا أن نتأكد أولاً مما قد يؤدِّي إليه ذلك من تأثير في تصرفات الإنسان نسبة إلى طابع الظروف في سلوكه التي نتحدّث عنها، وبالتالي علينا أن نتعامل مع ما يليها من تصرُّفات مضرّة على مستوى الأفراد والمجتمع والدولة، بما يحمي الجميع من أضرارها.
***
إنّ أيَّ كلام عن المناهج الدراسية، أو الخطاب الدعوي أو الإعلامي، وأيّ حديث عن المنتديات أو النشاطات غير المنهجية في مدارسنا، وما يقال عن دور البيت أو المدرسة، وتأثير الأصدقاء أو الشارع، هو كلام حقيقي، فهذه هي مصادر ثقافة المجتمع، وهي المموِّل الحقيقي للإرهاب أو حماية المجتمع منه بقدر ما تصدِّره لعقول الشباب من أفكار.
وإنّ المراجعة المطلوبة لشؤوننا كما يطالب بذلك بعضنا، لا يعني بالضرورة إلغاء الجيِّد منها، كما أنّه لا يعني استيراد ثقافات أو ممارسات تتعارض مع قيمنا وأخلاقنا وقبل ذلك ديننا الذي هو عصمة أمرنا.
وفي مقابل ذلك، فإن الإصرار على الجمود وعدم التحديث، واعتبار أنّ ما هو قائم في أيِّ شأن من شؤون حياتنا كافٍ عن أيِّ تعديل أو تحسين أو إضافة، وبالتالي فلا ينبغي مسّه أو إحداث أيِّ تغيير فيه، هو خطأ جسيم يبقي الجميع على مرمى حجر من الاعتداء على كلِّ ما هو جميل مما نحبه ونتمناه ونسعى إليه.
***
ولهذا يجب أن نقبل بالحوار، ونرحب بالرأي الآخر، ونتعامل مع المستجدات في هذه الحياة بما يخدمنا ويقوي من إرادتنا، ويحصّن دولتنا من أي سبب من أسباب الضعف والخوف دون أن نخوِّن أحداً أو نتهمه في دينه ووطنيته.
ولا بد من كل صاحب رأي أو موقف أن ينأى بنفسه عن هذا الترصد البغيض لما يُكتب في صحفنا، وأن يقبل بمبدأ الحق لكل المجتهدين في التعبير عن وجهات نظرهم، وأن نتيح لكلا الطرفين في ذلك فرصاً متساوية في حدود أدب الحوار وأخلاقياته.
***
إن أخطر ما تواجهه الدول والمجتمعات والأمم في حاضرها ومستقبلها حين يتحول الحوار فيما بينها إلى عناد وصراع وتصادم غير عاقل على الأفكار ووجهات النظر المتباينة، وبخاصة حين يتبيَّن للعقلاء أن نقاشاً فاسداً يجري على الساحة، وأنه قد يقود إلى إيجاد شرخ في جسم المجتمع، وبالتالي يؤجج حياة الناس نحو إشعال الفتن وإشاعة المزيد من الأعمال الإرهابية التي لا يستفيد منها أي أحد.
والرسالة التي ينبغي أن نؤديها جميعاً نحو الوطن والأمة، هي القبول بما يفيدنا جميعاً من أفكار، فلا ننكفئ على أنفسنا بحجة الخوف من الغريب، والشك بكل جديد، والحذر من أي طرح لم نألفه من قبل، بداعي أن ذلك سوف يقودنا إلى ما يدمر قيمنا ويؤثِّر على سلوكياتنا وأخلاقياتنا.
ومثله، فإن من الخطأ أن نطالب بما يمس الثوابت، أو أن نرحب بما يتبيّن لنا بأنه غزو أجنبي لقيمنا واختراق مشبوه لتعاليم ديننا، إلاّ إذا اتضح لنا أن هذا التخوّف ليس له ما يبرره، وأن ما يُعترض عليه لا يعدو أن يكون أوهاماً وادعاءً في عقول وتفكير بعضنا، فهنا علينا أن نترك العربة تسير دون أن نلقي بالاً أو نعطي أهمية لهؤلاء، وأن نمضي بحماس وتفاعل مستجيبين لما يكون حينئذ قد تأكد لنا أنه في صالحنا ومصلحتنا.
***
فالعالم يمضي سريعاً، يتطور وينجز، بينما نحن نتخاصم ونختلف، ونترصد لأخطاء بعضنا، وننشغل عن مصالحنا، وقد آن الأوان لنتدبر أمورنا حتى لا يفوتنا القطار ونحن نتفرج.
فالقطار يتسع الآن لنا، كما اتسع من قبل لغيرنا. أما في المستقبل، فقد يتعذَّر عليه استقبال المزيد بعد أن يكون قد سبقنا إلى مقاعده أولئك الذين اختلفوا ليتفقوا وتحاوروا لكي يتصالحوا، فالله الله أن يؤخرنا الاختلاف - غير الرشيد - عن بلوغ حقنا في ركوب القطار قبل أن يتحرك وحينها لن ينفع الندم.
خالد المالك
|
|
|
واشنطن تكشف الوثائق السرية لسقوط بغداد (1-2) أوهام صدام جعلت الغزو الأمريكي للعراق مجرد نزهة!!
|
* إعداد - محمد الزواوي
لقد أدى سقوط العاصمة العراقية بغداد في أبريل عام 2003 إلى فتح الملفات السرية لحكومة حزب البعث العراقي بقيادة صدام حسين، التي كانت تعد واحدة من أكبر الحكومات قمعًا ووحشية في التاريخ المعاصر.
ولأول مرة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية لن تضطر الأجيال الحالية إلى التخمين ومحاولة استنتاج ما حدث في كواليس تلك الحرب، فقد وقعت في أيدي العراقيين وقوات الاحتلال الأمريكية العديد من الوثائق السرية والمخاطبات الحكومية التي من شأنها كشف ما دار في قلب بغداد قبيل تقدم الدبابات الأمريكية واحتلالها ساحة الفردوس في قلب العاصمة، معلنة انتهاء حقبة صدام حسين ومعاونيه.
وقد قامت الولايات المتحدة بإجراء دراسة شاملة لكافة وثائق الدوائر الداخلية لنظام صدام حسين، ودراسة سلوك النظام في تلك الفترات الأخيرة التي سبقت الغزو، وقد قامت دورية (فورين أفيرز) الأمريكية بنشر تفاصيل تلك الوثائق في عددها الأخير، وقد شارك في تجميع ذلك التقرير كل من كيفين وودز وجيمس لاسي ووليامسون موراي، وسردوا أهم تفاصيل التحقيقات التي أجريت مع رموز النظام السابق، وكبار قادة الجيش العراقي، إضافة إلى ترجمة آلاف الوثائق الرسمية العراقية، وذلك في مشروع استغرق عامين بعد غزو العراق.
وقد قامت وزارة الخارجية الأمريكية برفع صفة السرية عن بعض تلك الوثائق في فبراير الماضي، وقد نشرت الدورية أهم النتائج التي أسفرت عنها تلك التقارير.
(عاصفة الصحراء) عام 1991
وكان النظام العراقي قد شهد حالة من الهدوء النسبي في أعقاب عملية (عاصفة الصحراء) عام 1991 وإخراج النظام العراقي من الكويت، وقد ظل النظام العراقي يتلقى تقارير متفائلة من كبار قادته العسكريين عن حالة البلاد وآمال النظام ومستقبله، وقد وصف نائب رئيس الوزراء العراقي السابق طارق عزيز الرئيس العراقي صدام حسين بأنه (كان واثقًا جدًا) من أن الولايات المتحدة لن تجرؤ على مهاجمة العراق، وأنها إذا قامت بشن هجوم بري فسوف تنهزم سريعًا.
ولكن ماذا كان مصدر ثقة صدام حسين؟ من خلال مخاطبات صدام حسين بدا أنه كان مقتنعًا بأن فرنسا وروسيا سوف يعارضان أي عمليات عسكرية لغزو العراق من الولايات المتحدة، وقد صرح طارق عزيز أن ثقة صدام حسين كانت تنبع من اعتقاده الراسخ بأن المصالح الاقتصادية المشتركة بين العراق وفرنسا وروسيا سوف تحول دول وقوع مثل ذلك الغزو، وأضاف عزيز أن (فرنسا وروسيا استطاعتا أن تحصلا على عقود تجارية وعقود خدمية مع العراق نظير ملايين الدولارات، لذلك فإن هناك اتفاقًا ضمنيًا بين العراق وبينهما أنه في حال فرض عقوبات فسوف تعارض الدولتان ذلك، كما أن الفرنسيين كانوا يريدون رفع العقوبات الاقتصادية عن العراق لحماية تجارتهم وعقودهم الخدمية في البلاد، كما كان صدام مقتنعًا بأن للفرنسيين دافعًا لكي يثبتوا أنهم عضو هام في مجلس الأمن، وأنهم يستطيعون استخدام الفيتو لإظهار أنهم لا يزالون يمتلكون القوة والنفوذ بين دول العالم).
أوهام صدام
وقد صرح إبراهيم أحمد عبد الستار الرئيس السابق لأركان الجيش العراقي أن صدام حسين اعتقد أنه حتى في حالة عدم تأييد أصدقائه الدوليين لموقفه فإن أمريكا إذا ما شنت هجومًا بريًا فسرعان ما سوف تذعن أمام الضغوط الدولية المتزايدة لوقف الحرب، وقد صرح المترجم الشخصي لصدام حسين أن الرئيس العراقي كان متأكدًا من أن قواته الأرضية المتفوقة سوف تظهر (مقاومة بطولية، وسوف تتصدى للهجوم الأمريكي بصورة كبيرة تجبرهم على وقف تقدمهم البري)، كما أكد صدام حسين بعباراته الشخصية أن (العراق لن تكون أبدًا مثل أفغانستان، فإننا لن نسمح للحرب بأن تتحول إلى نزهة للجنود الأمريكيين والبريطانيين.. مستحيل أن يحدث ذلك!). وحتى مع بدء هجوم طلائع القوات الأمريكية بريًا ظل صدام متمسكًا بعناده وموقفه بأن الولايات المتحدة سوف تقنع بأي نتيجة حتى ولو متواضعة ولن تواصل هجومها لتغيير النظام، كما أضاف عبد الستار أنه (لم يكن هناك قائد عراقي واحد ظن أن قوات التحالف سوف تصل إلى بغداد بحال من الأحوال).
وظل صدام حسين مقتنعًا بأن نظامه سوف ينجو من تلك الحرب، وربما كان هذا هو السبب الرئيس في أنه لم يصدر أوامره إلى قواته بإشعال آبار النفط أو فتح السدود لإغراق الجنوب بالمياه، وهو ما توقعه الكثير من المحللين الأمريكيين، والذين اعتقدوا أن تلك التحركات سوف تكون من أولى أسلحته لوقف الزحف الأمريكي المتقدم عبر حدوده الجنوبية.
وقد أكد طارق عزيز أن (صدام حسين كان يعتقد أن هذه الحرب لن تقود مطلقًا إلى تلك النهاية، وهي غزو العراق)، فقد كان صدام يعتقد أنه إذا ما كانت حساباته الاستراتيجية صحيحة فسوف يحتاج النفط من أجل تدعيم نظامه لذا لم يقم بإشعال الآبار، وحتى في ظل عبور الدبابات الأمريكية للحدود العراقية، فقد كان حدوث ثورات داخلية هو الشغل الشاغل لدى صدام حسين، وكان همه الأكبر هو قمع أية ثورات تحدث في فترة ما بعد الحرب، لذا أراد المحافظة على الجسور فوق نهري دجلة والفرات سليمة دون أن تمس وأن تظل الأراضي في الجنوب جافة بدون إغراقها بالمياه لتحركاته التالية، وهذه هي كانت الأسس التي قام صدام بتشكيل استراتيجيته عليها، ويؤكد التقرير أن كبار القادة العسكريين العراقيين لم يتفقوا مع تلك الافتراضات المتفائلة لصدام حسين، وكانوا يحملون وجهة نظر أكثر تشاؤمية، وصرح زهير طالب عبد الستار النقيب مدير الاستخبارات العسكرية العراقية السابق أنه فيما عدا صدام ودائرته الداخلية، كان الجميع يعلمون سرًا أن الحرب سوف تستمر حتى يتم غزو العراق واحتلاله كاملاً.
وقد اعترف قائد قوات الفرقة الأولى بالحرس الجمهوري أنه (لم يكن هناك شيء يمكن عمله لوقف الأمريكان بعدما بدأوا في الغزو)، وقد صرح سلطان هاشم أحمد الطائي وزير الدفاع أن (خبراء الجيش العراقي فوجئوا بكافة التحركات الأمريكية، فقد كنا نعلم ما هي التحضيرات المطلوبة، وما الذي سيحدث في حالة عدم نجاح تلك التحضيرات، وحتى لو كانت لدينا دفاعات حقيقية فإننا لم نكن لنستطيع وقف الأمريكان، ولكن ما كان في استطاعتنا فقط هو أن نزيد من أعداد القتلى في قوات التحالف)، وحتى بعد دخول الحرب فترات حرجة في أواخر مارس 2003 كان صدام يبدو لا يزال معتقدًا أن الحرب ستسير في الطريق الذي توقعه، وهو أنه حتى إذا لم تستطع العراق أن تتنصر في تلك الحرب فلن تخسرها، أو على الأقل هكذا بدا لصدام حسين.
وفي ذلك الوقت كانت القوات الأمريكية تستمع إلى تصريحات وزير الإعلام العراقي آنذاك محمد سعيد الصحاف والذي كان يؤكد أن القوات العراقية تحقق نتائج كبيرة وأن الأمريكان لا يتقدمون، وكان من الواضح من خلال الوثائق أن صدام حسين والمحيطين به كانوا هم أيضًا مقتنعين بكلام الصحاف وما تصدره آلتهم الإعلامية، فقد أكدت الوثائق أن العراق في الأيام العشرة الأولى من الحرب طالبت روسيا وفرنسا والصين عدم تقديم أو دعم أي مبادرة لوقف إطلاق النار، وذلك لأن صدام كان معتقدًا بأن مثل تلك التحركات سوف تعطي شرعية لوجود قوات التحالف في العراق، وفي 30 مارس أعتقد صدام أن استراتيجيته كانت تعمل بصورة جيدة، وأن هجمات قوات التحالف بدأت تخبو وأن مصيرها إلى الزوال.
وفي هذا اليوم أصدر الفريق عبده حمود السكرتير الخاص لصدام حسين أوامره لوزارة الخارجية العراقية بإبلاغ حكومات فرنسا وروسيا أن بغداد سوف تقبل فقط (انسحابًا غير مشروط) من القوات الأمريكية، وذلك لأن القوات (العراقية الآن تنتصر في المعركة والولايات المتحدة قد غرقت في مستنقع الهزيمة).
وفي هذه اللحظات كانت الدبابات الأمريكية على بعد مائة ميل فقط من بغداد، وتقوم بإعادة التزود بالوقود من أجل المعركة الأخيرة.
الفاعلية العسكرية
في عام 2003 كان الجيش العراقي يئن تحت وطأة 13 عامًا من الاشتباكات شبه المتواصلة بين القوات الجوية الأمريكية والبريطانية، إضافة إلى النتائج المتراكمة للعقوبات، كما كانت البلاد تعاني من الآثار التراكمية لفشل سياسات النظام العراقي، وهذه الضغوط كلها قد ساعدت على دفع الجيش العراقي إلى حالة من الفوضى والوهن، فقد كانت المهمة الرئيسة للجيش العراقي هي ضمان الأمن الداخلي لصدام، وكان الجيش العراقي قلقًا من كل شيء داخل العراق عدا القتال في تلك الحرب، وظل يركز على الأشياء غير العسكرية. وأكبر دليل على عدم تركيز الجيش العراقي على الحرب المقبلة هو وضع القوات الجوية العراقية، وما كانت تعانيه قبيل الحرب، فلم تقم بشن طلعة جوية واحدة ضد قوات التحالف أثناء الغزو، وطبقًا لقائد القوات الجوية والدفاع الجوي العراقي السابق حامد رجاء شلح، فإن صدام ببساطة قرر قبل شهرين من الحرب أن القوات الجوية لن تشارك، فيبدو أن صدام قد اعتقد أن كفاءة وعدد القوات الجوية ومعداتها سوف تزيد الوضع سوءًا إذا ما شاركت في الحرب ضد قوات التحالف، وبالتالي فقد قرر أن يوفر قواته الجوية للاحتياجات المستقبلية، وأمر قادته بإخفاء طائراتهم، وهذا القرار كان دليل آخر على أن صدام حسين لم يعتقد أن القوات البرية للتحالف سوف تصل إلى قلب العراق، وكان متأكدًا من أن نظامه سوف ينجو بصرف النظر عن صورة الحرب وتحولاتها.
ومن أجل تطبيق قرارات صدام بالمحافظة على القوات الجوية قامت القوات العراقية بتحريك معظم طائراتها بعيدًا عن المجال الجوي للعمليات، وقامت بتمويه تلك الطائرات بأفرع النخيل أو دفنها في الرمال لإخفائها عن أعين القوات الجوية لقوات التحالف، والتي قامت بعد ذلك باستخراجها بعد انتهاء الحرب، ورفض صدام حسين لاستخدام قواته الجوية العراقية يعد تكرارًا لما فعله أثناء عمليات (عاصفة الصحراء) عندما أمر جزءًا كبيرًا من قواته الجوية بالهرب باتجاه الحدود الإيرانية، ولكن في عام 2003 كان الوضع مختلفًا، ورفض صدام لجوء طائراته إلى إيران، وأكد لمساعديه أن (إيران أصبحت أقوى الآن من ذي قبل، وهم لديهم بالفعل جزءًا من قواتنا الجوية)، وتؤكد تلك الوثائق أنه وفي خضم تلك الحرب وفي ظل وجود القوات الأمريكية على الأبواب والتهديدات بإزالة نظامه إلا أن صدام حسين كان لا يزال يفكر في التوازنات الإقليمية بينه وبين إيران.
وفيما يتعلق بأسلحة الدمار الشامل حاول صدام أن يقنع نصف العالم بأنه لا يمتلك أسلحة دمار شامل، في حين أراد إقناع النصف الآخر بأنه يمتلك تلك الأسلحة بالفعل، ويشير التقرير إلى أنه لو قام صدام بالتعاون الكامل مع مفتشي الأسلحة، لكان ذلك هو أفضل قرار يتخذه في ظل عدم وجود أسلحة في العراق، ولكن صدام قرر أنه من المستحيل أن يتخلى عن أوهامه بامتلاك السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل، وذلك لأن مثل تلك الأسلحة في حوزة العراقيين كان لها أثر جيد على الموقف العراقي في العالم العربي، كما أشارت الوثائق إلى أن علي حسن المجيد المعروف بعلي الكيميائي بسبب استخدامه للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين الأكراد في قرية حلبجة عام 1987 لم يكن مقتنعًا بأن العراق به أسلحة دمار شامل، ولكنه صرح بأن العديد من أفراد الدائرة الحاكمة في العراق فرضوا هذا الافتراض، وظلوا مقتنعين بأن العراق لديه بالفعل أسلحة دمار شامل، وظل هذا الشك موجودًا حتى في أعلى المستويات المقربة من صدام حسين، والذين كانوا لا يزالون في شك من وجودها.
وقد صرح علي الكيميائي أن صدام حسين عندما سئل في لقائه مع أعضاء مجلس قيادة الثورة عن أسلحة الدمار الشامل أكد أن العراق ليس لديه أسلحة دمار شامل، ولكنه رفض بصورة قاطعة أن يقوم النظام بتبرئة ساحته وإزالة كل الشكوك من حوله، وقال: إن مثل تلك التأكيدات سوف تشجع (الإسرائيليين) على مهاجمة العراق.
وفي أواخر عام 2002 مال صدام حسين في النهاية إلى محاولة إقناع المجتمع الدولي بأن العراق كان يتعاون مع مفتشي الأمم المتحدة، وأنه لا يمتلك أسلحة دمار شامل، ثم عمل جاهدًا في نهاية العام مع نظامه على مقاومة أية مزاعم يمكن أن تؤيد وجهة نظر أمريكا بأن العراق لا يزال يمتلك أسلحة دمار شامل، وأكد العراق أنه سيفتح أبوابه أمام كافة مفتشي الأمم المتحدة وذلك (لمنع بوش من أية ذريعة تخول له بدء الحرب وغزو العراق)، ويبدو أن سياسة صدام التي انتهجها في النهاية بالتعاون مع الأمم المتحدة والتأكيد على عدم وجود أسلحة دمار شامل في العراق قد ساهمت بالمصادفة في أن عززت موقف أمريكا من غزو العراق، فقد حصلت الاستخبارات الغربية على العديد من وثائق الاتصالات الداخلية السرية بين المسئولين العراقيين، ومن بينها مذكرة صدرت عام 1996 من مدير الاستخبارات العراقية، يأمر فيها كل المسئولين (بضمان عدم وجود أية معدات أو خامات أو أبحاث أو دراسات أو كتب تتعلق بتصنيع الأسلحة المحظورة (الكيمائية والبيولوجية والنووية والصواريخ) في مواقعكم). وعندما ذهب مفتشو الأمم المتحدة إلى تلك المواقع الخاصة بالأبحاث والتخزين، اكتشفوا بعض الوثائق التي تركها الموظفون وراءهم لبرامج لها علاقة بأسلحة الدمار الشامل.
وفي عام 2002 قامت الولايات المتحدة باعتراض رسائل تم تبادلها بين اثنين من قادة الحرس الجمهوري العراقي يناقشون فيها إزالة عبارات (غاز الأعصاب) من (التعليمات اللاسلكية)، كما علمت أمريكا عن وجود تعليمات (لبحث المنطقة المحيطة بمعسكرات مقار القيادة والوحدات عن أي مواد كيماوية، والتأكد من أن المنطقة خالية من التلوث الكيميائي، وكتابة تقرير عن ذلك)، ولكن المحللين الأمريكيين نظروا إلى تلك المعلومات على أنها تأتي في إطار سياسة الخداع العراقية التي استمرت لعشر سنوات، ولم يكونوا يعلمون أن تلك المعلومات هذه المرة كانت تعكس محاولات النظام في التأكيد على أنه يتعاون مع الأمم المتحدة ليس إلا، فقد كان صدام يريد من تلك التعليمات أن تزيل الشكوك عنه، ولكن تلك الرسائل التي تنصتت عليها أمريكا أدت إلى مضاعفة الشكوك بوجود أسلحة دمار شامل، وواقعة منع مصطلح (غاز الأعصاب) من المحادثات اللاسلكية للقادة العسكريين استشهد بها كولن باول في خطبته أمام الأمم المتحدة في 5 فبراير 2003 على أنه نموذج لسوء نوايا النظام العراقي، ومن ضمن العوامل الأخرى التي قللت من كفاءة الجيش العراقي هي تلك العقوبات التي فرضت على العراق لأكثر من 12 عامًا، والتي أدت إلى قصم ظهر الجيش الذي لم يكن يستطيع شراء معدات أو قطع غيار جديدة أو حتى الحصول على الأموال لشن مناورات وتدريبات قوية، وقد قام صدام حسين بإنشاء لجنة الصناعات العسكرية كوسيلة للحفاظ على كفاءة الجيش والتغلب على الآثار السلبية للعقوبات، وكانت تلك اللجنة تهدف إلى خلق قدرات جديدة بالجيش وتجاوز الآثار المعنوية السيئة الناجمة عن سوء التدريب وانخفاض المعنويات بسبب المعدات غير الصالحة، ويبدو أن صدام كان ينتظر من تلك اللجنة المستحيل أو اختراعها لأسلحة جديدة ترفع من الحالة المزرية للجيش العراقي.
الكذب في دولة الخوف
وقد أظهرت إحدى وثائق لجنة الصناعات العسكرية في تقريرها السنوي للميزانية التي صدرت عام 2002 أن اللجنة كانت مسئولة عن أكثر من 170 مشروعًا بحثيًا بميزانية تقديرية تبلغ حوالي 1.5% من إجمالي الدخل القومي العراقي، وقد قسمت اللجنة مشاريعها على مجالات مختلفة مثل المعدات والهندسة والصواريخ والإليكترونيات والأسلحة الاستراتيجية والمدفعية والقوات الجوية.
وقد صرح أحد كبار المسئولين العراقيين أن قادة اللجنة كانوا خائفين جدًا من صدام حسين، وعندما أمرهم بإطلاق برنامج جديد لصناعة سلاح كانوا يعلمون أن العراق غير قادر على تطويره أكدوا له أنهم يستطيعون إكمال المشروع بمنتهى السهولة، وعندما سألهم صدام في وقت لاحق عن مدى تطور المشروع - والذي لم يكن له وجود أساسًا - أكدوا له أن كل شيء يسير على ما يرام، وقاموا بفبركة رسوامات هندسية لإظهار مدى التقدم في العمل، وهذه السلسلة المتواصلة من التقارير المفبركة والخاطئة فسرت لماذا أن صدام حسين كان متفائلاً في حساباته الاستراتيجية على المستويات العملياتية والاستراتيجية والسياسية، وقد أكد طارق عزيز أن المسئولين في لجنة الصناعات العسكرية كانوا كذابين، لقد كذبوا على الجميع وليس صدام حسين وحده، وكانوا دائمًا ما يؤكدون أنهم يعملون وينتجون ويديرون خطوط إنتاج الأسلحة الجديدة من أجل الحصول على مزايا من صدام حسين على هيئة أموال وسيارات وأشياء أخرى، لكنهم كانوا مجرد كذابين، فبعد كل هذا العمل وتلك الأموال، وإذا ما كانوا حصلوا فعلاً على الأسلحة السرية فلماذا لم يتم استخدامها؟. ولكن أعضاء لجنة الصناعات العسكرية لم يكونوا وحدهم الكذابين، فإخفاء الحقائق كان أمرًا شائعًا بين معظم الأعضاء الموثوق فيهم في الدائرة الداخلية لصدام حسين، وبخاصة عندما تكون الأخبار المتوفرة غير سارة، وربما تعكس خللاً في وظيفة أولئك المسئولين أو تؤثر على تقييم صدام لقدراتهم.
فقد صرح أحد كبار مسئولي حزب البعث السابقين أن (صدام كانت لديه فكرة عن القدرات التقليدية والأخرى غير التقليدية الكامنة والتي تستطيع العراق أن تصل إليها، ولكنه لم يحظ مطلقًا بصورة دقيقة عن الأوضاع، وذلك بسبب السلسلة الطويلة من الكذب الذي كان يدور في مثل تلك الأحوال، فالعديد من التقارير كانت زائفة، في ظل محاولات من الوزراء لإيصال صورة وردية وإيجابية في التقارير التي كانت تقدم إلى سكرتير صدام الشخصي، والذي كان يمررها بدوره إليه).
وفي السنوات التي سبقت غزو العراق كان الجميع حول صدام حسين يعلم مدى حاجة الرئيس العراقي إلى سماع الأنباء السارة بصورة ثابتة، وعلموا أنه من مصلحتهم العليا إشباع جوعه وتغذيته بمثل تلك المعلومات الزائفة.
* (الجزء الثاني: الاسبوع القادم).
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|