ها هو شهر شعبان يُوشك على الرحيل، مسرعاً وبلا تمهل، فلا يترك بذلك لنا فرصة كافية لالتقاط أنفاسنا، أو التفكير بما آلت إليه علاقاتنا بربنا، وصِلتنا بعباداته على مدى الشهور الأحد عشر التي مضت بين رمضان ورمضان.
وهكذا إذاً تمضي الساعات والأيام والشهور والسنون بسرعة غير عادية، فلا نفيق معها ولا نصحو عندها، إلا وقد امتدت سنوات أعمارنا، وأخذنا مركبها إلى حيث خريف العمر، واعتلال الصحة، والدنو من التقاعد الحقيقي الذي لا تقوى معه أجسادنا على تحمُّل العمل الجاد وممارسة متطلبات الحياة الضرورية.
* * *
ومع هذا الرحيل والوداع لآخر شهر من شهور السنة التي تسبق أحب الشهور إلى نفوسنا، وأقربها إلينا، حيث بهاؤه وجماله ومتطلباته، وحيث تفرده بما لا مثيل له في باقي الشهور، بما يتوافر فيه من فرص للتقرب إلى الخالق وتلمُّس رضاه.
إنه شهر رمضان، بأيامه المعدودات، من نفرح ونسر لقدومه، بأجوائه الروحانية التي تظللها لمحات خالدة في مسيرة الإسلام، وتكسوها مظاهر غاية في الأهمية، كي تحفّز كل مسلم على ممارسة ما يُرضي الله، ويقربه إليه بالقول والعمل، ضمن شعائر ورث تفاصيلها وإيضاحها وتفسيرها الخلف عن السلف.
* * *
هذا هو شهر رمضان بأيامه المباركة، ولرمضان جلاله، فهو الشهر الذي نزل فيه القرآن الكريم، وهو شهر القيام والتهجد، وشهر البر والخير، وفيه ليلة القدر التي يطمع كل مؤمن إلى نيلها، بحكم أنها تعادل ألف شهر، وهو شهر الفتوحات والغزوات والانتصارات، وبنهايته ومع انفضاضه يحتفل المسلمون بالعيد السعيد، أملاً ورجاءً بأن يكون صيامهم وقيامهم وعباداتهم قد لاقت الرضا والعفو من رب غفور رحيم.
ومن منا بلا أخطاء أو تقصير نحو خالقه، فلا يجد حينئذ مبرراً لإعلان توبته وتلمُّس عفو ربه والسعي نحو رضاه، لا أحد بكل تأكيد يزعم بأنه نقي من الأخطاء، وأنه بلا ذنوب ارتكبها، ومن غير ممارسات ربما أنه خالف بها شرع الله وإن كانت دون قصد أو تعمُّد منه.
* * *
وهكذا يهل شهر رمضان من جديد، ضيفاً كريماً، ووافداً عزيزاً وغالياً وأثيراً على النفس، لنغسل به أجسادنا مما شاب أعمالنا وممارستنا من أخطاء، إذ ليس هناك من وقت وفرصة آن لنا أن نهتبلها أفضل من استثمار شهر الخير والبركات بمزيد من العمل الصالح النافع المفيد الذي علينا أن نمارسه ليلاً ونهاراً خلال هذا الشهر الكريم علنا نفوز بدار الكرامة وأعني بها الجنة التي وُعد بها المتقون.
وعلينا في هذا الشهر الكريم أن نتذكر الأحباب والأقربين الذين كانوا معنا في شهر رمضان من العام الماضي، فإذا بالموت يغيّبهم عنا، فلا نسعد بالصوم معهم هذا العام، لنبقى مع كل أحزاننا وأسانا على فقدهم ودعواتنا لهم بالرحمة والغفران كما لو أنها جزءٌ من أجواء شهر رمضان، تذكيراً بما سيؤول إليه كل منا حين يكون تحت الثرى، فلا يبقى من شيء نُرضي به خالقنا إلا بما قدمناه في دنيانا قبل أن يأتي يوم الحساب، فاللهم ارحم موتى المسلمين، واغفر لهم ذنوبهم وكفّر عنهم خطاياهم وارزقهم من كريم جودك وكرمك، ووفقنا معهم بما يرضيك وأعنا في حياتنا وقبل أن يحل المصير على طاعتك وشكرك وذكرك وعبادتك، وأعنا على صيام وقيام شهر رمضان يا شفيع يا معين.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «2» ثم أرسلها إلى الكود 82244