يعكف خبراء في مراكز دراسات مختلفة حول العالم على البحث في زرع حاسوب ورقائق رقمية في الجسم البشري. ورغم أن هذه الأبحاث ليست جديدة، فإن التطورات الكبيرة في مجال الحاسوب والاتصالات في السنوات الأخيرة جعلت فكرة دمج القدرات الرقمية للحاسوب بالجسم البشري وخصوصا الدماغ، أمرا واعدا.. فالحالات السابقة لدمج وسائل غير بشرية في الجسم البشري عديدة تتضمن دمج أجهزة كهربائية في القلب والأعصاب والأطراف، إلا أن تقنية علم الأحياء لم تدخل بعد بفاعلية ميدان أعصاب الدماغ وأجزائه. ويتحدث عن هذه التطورات في علوم تقنية الأحياء العديد من الشخصيات حول العالم.
وربما كان أشهر من تحدث في الموضوع أخيرا هو بيل غيتس رئيس شركة مايكروسوفت في احد الاجتماعات في سنغافورة، وقد قال باقتناع كبير وبأسلوب إعجازي: (في يوم ليس ببعيد، سيسمح التقدم العلمي والتقني بزرع الحاسوب في الجسم البشري، فيساعد بذلك المكفوفين في الرؤية، والصمّ في السمع..).
وأضاف: (أنا، شخصيا، غير مستعد لعملية كهذه، غير أن أحد الموظفين في شركتي يلحّ علي دوما بقوله، أنا جاهز متى صار وصل الجهاز ممكنا).
وما نوقش في حلقة البحث هذه، يشير إلى أن العلوم تتقدم بخطى حثيثة نحو تحقيق إنجازات كتلك التي تخيلها بعض الروائيين، مثل تخزين الذكريات على (الرقائق) الإلكترونية، أو التحكم في الأطراف الاصطناعية والأعضاء المزروعة، عن طريق ذبذبات دماغية.
ويرى الباحثون أنه بات من المؤكد أن أجهزة الحاسوب المتطورة صارت قادرة على التفاعل مع ظواهر خارجية في شكل قريب جدا من ردود فعل الحواس البشرية، كالتجاوب مع الصوت واللمس وحتى مع بعض الروائح، كما لو كانت هذه الأجهزة قد طوّرت فعلا حاسة الشم.
تجارب سابقة
في آب 1998 زرع أستاذ علم الاتصالات ونظرية السيطرة في جامعة ريدينغ في بيريطانيا كيفن واريك رقاقة سليكون في ذراعه، كانت معدّة لنقل إشارات لاسلكية، وتمكن من إقامة اتصال بعدد من الأجهزة الإلكترونية في البيئة المحيطة به.
وعندما كان يقترب من مكتبه، على سبيل المثال، كان حاسوب المبنى يتعرف إلى الرقاقة في يده بوساطة الشيفرة اللاسلكية، فيُفتح الباب، وتضاء الأنوار، وتبدأ شبكة الحاسوبات بالعمل، ويوجّه الحاسوب تحية استقبال ودّية قائلاً: مرحباً بك، أستاذ واريك.
كانت هذه التجربة تهدف إلى إظهار عمل الإنسان والآلة معاً مع جمع أفضل ما لدى كل منهما، ولكن إذا كان واريك استطاع الاتصال بالحاسوب بوساطة رقاقة سيليكون مزروعة في ذراعه فلماذا لا يستطيع الاتصال بشخص آخر؟.. لذلك قام بعدها بتجربة ثانية للجمع بين الإنسان والآلة، فربط جهازه العصبي بجهاز زوجته بوساطة رقاقتي حاسوب لا يزيد حجم كل منهما عن حجم طابع البريد.
حاسوب في الدماغ
وفيما تبدو كل تجارب واريك غريبة، فإن ما خطط له العلماء في مجال الدماغ يعتبر أغرب.. فالباحثون في أوروبا واليابان والولايات المتحدة كانوا قد اكتشفوا عدة طرق لزرع الحاسوبات مباشرة في الأدمغة البشرية، علماً أن النتائج الفعلية لهذا الزرع تجاوزت إلى حد كبير مجال الاتصال الفكري بين الناس.
ومن الممكن أن تؤدي هذه التقنية إلى تشغيل الحاسوبات والهواتف الجوالة بالفكر وحده وإلى إعادة بعض الوظائف الفيزيولوجية للمرضى الذين يعانون اضطرابات عصبية المنشأ.
وقد نجح العلماء في جامعة ايموري في أتلانتا بولاية جورجيا الأمريكية في زرع جهاز في دماغ أحد المرضى ومكّنوه من استخدام الحاسوب رغم كونه معاقاً، وذلك بمجرد تخيل حركة أجزاء مختلفة من جسمه، وأمكن أيضاً جعل أحد الأشخاص المشلولين يقيم اتصالاً دون الحاجة إلى زرع أجهزة في دماغه. كان هذا الشخص الذي عولج في جامعة توبنغن Tubingen في ألمانيا، مصاباً بمرض تصلب الأنسجة الذي يسبب الشلل الكامل دون المساس بالدماغ، ومكنه استخدام جهاز ترجمة الفكر TTD من إملاء ما يريده على الحاسوب.
وقد استهل هذه التجربة بكتابة رسالة شكر إلى رئيس فريق العمل عبّر فيها عن امتنانه لهذا الأخير الذي جعله قادراً على التعبير عن نفسه للمرة الأولى بعد 8 سنوات من الشلل، ثم تطورت هذه الطريقة لتمكن بعض المصابين بالشلل الكامل من السيطرة على أشياء كثيرة نذكر منها إضاءة الأنوار وإطفاءها واستخدام معدات طبية وأدوات منزلية، وفتح وإغلاقها الأبواب وتشغيل التلفزيون وغيرها.
كذلك استطاع العاملون في وكالة الأبحاث والتقويم الدفاعية البريطانية في فارنبورو Farnborough استخدام تقنية مماثلة لمساعدة الطيارين في قيادة طائراتهم بقوة الفكر.. فبرنامج حجرة الطيار المسيطر عليها بالفكر معدّ لإعطاء الطيارين قدرة على السيطرة على منظومات الطائرة بمجرد النظر إلى كل منها أو التفكير في الأيقونات المطلوبة الموجودة على شاشة الحاسوب، ولن تسمح هذه التقنية بممارسة القيادة دون استخدام اليدين فحسب، بل ستجعل الطيار يتمتع برد فعل سريع، وبخاصة أثناء المناورات المعقدة التي تكون غالباً خطرة، وهكذا يمكن الطيارين داخل حُجر القيادة المستقبلية أن يمتلكوا أقطاباً مركبة على خوذاتهم لمراقبة الموجات الدماغية، بالإضافة إلى مجموعة من أجهزة الاستشعار البيولوجية المركبة في ملابسهم لمراقبة المؤشرات الحيوية مثل معدل ضربات القلب وضغط الدم.
وإن هذه المعطيات، مع المعلومات المأخوذة من المنظومات الإلكترونية الأخرى في الطائرة سوف تصل إلى برمجة الذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence في حجرة القيادة التي تكون معدة للقيام بدور مساعد الطيار.
وبما أن حاسوب حجرة القيادة سوف يعرف الحالة الفيزيولوجية والذهنية للطيار، وعلى نحو أفضل بكثير مما يمكن أن يعرفه مساعد الطيار الفعلي، فسوف يتمكن هذا الحاسوب من تحليل القرارات وتقديم الحلول البديلة أو يلفت نظر الطيار إلى النتائج غير المتوقعة.
وأثناء تعرّض الطائرة للهجوم يستطيع هذا الطيار المساعد أن ينبّه الطيار إلى الحاجة الماسة إلى إجراء التعديل الملاحي اللازم.
وبالتالي فإن الطيار يستطيع دون أن يصرف انتباهه عن المعركة، أن يتجاوب، بالنظر فوراً إلى الأيقونة الملائمة.
أما إذا فقد الطيار وعيه في الارتفاعات العالية جداً، فإن منظومة حجرة القيادة المذكورة تستطيع أن تعرف ما حصل بوساطة أجهزة الاستشعار البيولوجية، وأن تسيطر بالتالي على الطائرة، ريثما يستعيد الطيار وعيه.
ومع أن هذه التقنيات من نوع جهاز ترجمة الفكر TTD وحجرة الطيار المجهزة بالحاسوب مساعد لا تزال في مراحل التطوير الأولى، فإنها تنطوي على أفق مستقبلي تضيق فيه المسافة بين الإنسان والحاسوب.
وعندما تصبح هذه التقنية أمراً عادياً فإن لوحة المفاتيح والفارة في الحاسوب سوف تصبحان من مخلفات الماضي ليحل محلهما الفكر البشري.
جوانب قانونية
وكان مشرعون أمريكيون قد أبدوا قلقا حيال مدى قانونية إجراء عمليات زرع رقائق إلكترونية في جسم الإنسان سواء للتجارب أو للمرضى بغية حفظ الملفات الطبية وتسهيل التعامل مع المريض في الحالات الطارئة.
ويعتبر هؤلاء المشرعون أن سهولة الكشف عن الملف الطبي لحاملي هذه الرقائق يمس بمبدأ سرية المعلومات الشخصية، وقد يستخدم لمتابعة تحركات المريض.
وكانت الوكالة الأمريكية للغذاء والدواء FDA سمحت بهذه العمليات نظراً إلى فوائدها الطبية للمرضى وللجهاز الطبي.
ويبلغ حجم الرقاقة المسماة VeriChips حجم حبة الأرز، وتستغرق عملية زرعها تحت الجلد قرابة 20 دقيقة من دون أن تتسبب بألم أو تترك أثر جرح. وتحمل الرقاقة شيفرة معلومات مهمة يحمّلها الطبيب إياها، مثل فئة دم المريض وأنواع الحساسية التي يعانيها، وغيرها، علما أنه يمكن استخراج المعلومات بمجرّد مسح الرقاقة ضوئيا.
واليوم ثمة ألف مريض في ولاية نيومكسيكو الأمريكية يعانون أمراضا حساسة، يحملون هذه الرقائق تحت جلدهم، ويعتمدون عليها في متابعة علاجهم. ويذكر أن هذه الرقائق تستعمل حاليا لأغراض أمنية في بعض الدوائر الأمريكية.