حلم الإنسان الأزلي أن يمتلك الدنيا، فهو يعلم أنه ذاهب عنها، ولذلك يصبح مطلبه في امتلاك كل ما يمكن امتلاكه ملحّاً، فلقد وجد نفسه وقد أتته فرصة الحياة، ووجد الكون كله مسخّرا له، فلماذا لا يمتلكه ولو إلى حين؟!
التقنية فهمت، بذكائها المعهود، أحلام الناس وأهواءهم، فسعت من بعض الجوانب إلى إشباع الجزء المادي من طموح البشر، وساعدت بني آدم على ارتياد الفضاء، واقتحام كوكب القمر، كما اهتمت بالجانب المعنوي من الطموح البشري، فأتت بالقنوات الفضائية ووسائل الاتصال الحديثة التي تجعل من العالم قرية بل منزلا صغيرا يسكنه كل البشر!
لكن الطفل القابع في قلب الإنسان، لم يرض أبدا بلعبة القنوات والاتصال كنهاية لمدى طموحاته، فهو يريد امتلاكا أكثر واقعية للدنيا بما فيها، وبما أن هذا الطموح الجامح غير متاح عمليا، تدخلت التقنية لتنشر ثقافة الهاتف الجوال، ليصبح بديلا كاسحا للكثير من الأجهزة، فجعلته هاتفا، وربطته بكل المعمورة، وأتاحت فيه فرص التقاط البث التلفازي، وأمدّته بخواص الاتصال بالإنترنت، وهيأته ليكون آلة حاسبة، ودليلا للتليفون، وريموتا للتعامل مع الأجهزة التقنية وعلى رأسها التلفاز، ووسيلة للتراسل مع كل الدنيا دون أي مشقة أو عناء!
الرسالة المبطنة التي حملها التليفون الجوال هي أن الدنيا أصبحت في راحة اليد لبني البشر، فالهاتف بدأ بحجم رأس الفيل، ثم بدأ يصغر ويصغر، حتى أصبح أخيرا في حجم يمكن أن تحتويه راحة اليد، بل وفي أحجام تجريبية يمكن أن تكون معادلة لحجم حبة الفول السوداني أو أقل!
التفاف التقنية جاء لخدمة الطفل القابع في الإنسان، كما جاء وسيلة ضمن (فن الممكن) لتلبية الرغبات الهوائية المسيطرة على الإنسان.
وعلى الرغم من إشارة النظريات إلى أن أحلام الإنسان هي سر توازنه النفسي، وهي القاعدة التحتية للسير في اتجاه الأمام، لكن المصيبة أن البشر لم يستطيعوا اختراع لجام يمنع الأحلام من الانفلات، ولم يقدروا أبدا على صناعة أغلال لتكبيل الطموحات ضد التحليق والطيران، لذلك ما زالت الدنيا تعج بالكثيرين من أمثال هتلر، وما زالت حواء تلد من يريدون امتلاك الدنيا وسيادة عنصر على بقية العناصر دون سبب تجيزه العدالة الإنسانية بأي وجه.
التقنية فهمت اللعبة، ودللت الطفل الكامن فينا، وأتاحت لنا فرصة امتلاك العالم بالهاتف الجوال، لينعم طفلنا بحالة هدوء نسبي، قبل أن يستيقظ بطموحات جديدة، فتتحرك التقنية تارة أخرى، وليستمر اللهاث الماراثوني الذي لا يعرف خطوط النهاية في كل مراحله!