ضغط دمي شأنٌ داخلي، لذلك أكره أن يتلصص عليه الطبيب .. فالشؤون الداخلية لا يحب الناس أن يتدخل فيها الغير، وحتى الدول نفسها أصبحت مصبوغة بحماقات البشر، حيث تزداد حساسيتها في كل أمر يتعلق بشؤونها الداخلية، على الرغم من أن كل شأن داخلي لم يعد بعيدا عن أصابع الآخرين في عالم اليوم أحادي القطبية! التقنية الآن أفرزت أجهزة يمكنها التلصص على ضغط دمك، دون أن يدس الطبيب أنفه في شؤونك الداخلية، ومن ضمن هذه الأجهزة ساعة اليد الرقمية، حيث تم تزويد بعضها بتقنيات تقرأ ضغط الدم علوّا وانخفاضا، وتراقب التحولات الجارية فيه، كما تقرأ نبضات قلبك وتعطيك نتائح قاطعة بعددية الضربات، فتصبح ملما بوضعك الصحي دون انتظار لتقرير الطبيب ومنافيخه ذات الفحيح المرعب ! المشكلة هنا أن التلصص في شؤونك الداخلية لم ينته، فبدلا من أن يتلصص عليك الطبيب، تتلصص عليك التقنية، وبدلا من أن تكتم أنفاسك في انتظار تقرير الطبيب، تجحظ عيناك لقراءة ما تقوله الساعة، وما تكشفه عن مجريات قلبك وشرايينك !!
أحد الأصدقاء يخشى ضغط الدم بشكل هستيري، هو لا يأكل إلا ماسخا، وينفر عن كل دسم، وجيبه لا يخلو من الأسبرين، وفوق ذلك يندر أن يكشف على ضغط دمه، والسبب خشيته من أن يرتفع ضغطه أثناء الكشف، فيقع في الوهم، ويتحول الوهم إلى حقيقة ! هذا الصديق سمع عن الساعة الرقمية التي تقرأ الضغط، فقاطع كل الساعات، تحوطا من أن تكون الساعة - أي ساعة - مزودة، عن طريق الخطأ، بقارئ للضغط، فتدخله الأوهام، وتتنكد حياته توجسا ورعبا ! والساعات الرقمية، بالمناسبة، لم تتوغل فقط في عالم الطب والصحة، لكنها تدخل الآن في قراءة الأعماق للغواصين، وتستعمل لدراسة الأوضاع في الطبقات العليا التي يرتادها رواد الفضاء، وبعض الساعات مزودة بأجهزة إضاءة دقيقة وقوية، وبعضها تحمل بوصلات لمعرفة الاتجاهات، والكثير منها ينبئك بالتوقيت في مكانك وفي عواصم العالم الأخرى، هذا فضلا عن أن بعض الساعات الرقمية مزودة بمفكرة تعمل على خدمتك، فمواعيد الدواء، ومواعيد الاجتماع بآخرين، ومواعيد الأذان، وغيرها.. كلها تصبح في معصمك ورهن يديك !
نعم ضغط دمي شأن داخلي، وأتململ من التلصص عليه، لكنني إذا أصبحت قادرا على الاستغناء عن الساعة الرقمية، وتفادي الأطباء إلا عند الضرورة، فمن يقنع الآخرين باحترام الناس وشؤونها الداخلية.. في عالم لم يعد يعرف أو يعترف.. إلا بالقطبية الأحادية؟!