المقالة مثل القصيدة، ومثل اللوحة، تبدأ بفكرة عامة، ومعها أفكار ضبابية تختص بالمعالجة.
لا أعرف كاتباً واحداً يلتزم التزاماً صارماً بالفكرة الأولى لمقالته، فللقلم تعريجاته، وللفكر تهويماته، ولطقس الكتابة أثره الطاغي على العمل.
بالأمس مررت بحالة غريبة لكنها لم تكن الأولى، فقد أنهيت كتابة الزاوية، وبدأت في إعداد العدة لإرسالها عبر الإنترنت لتأخذ طريقها الى النشر. الأمور كانت طبيعية حتى قبيل لحظة الإرسال، وفجأة توقف الجهاز الحاسوبي عن أي استجابة لأوامري، حاولت حفظ المادة فلم أستطع، حاولت نسخها فلم أستطع، حاولت طباعتها فباءت كل المحاولات بالفشل!
استنجدت بمن أثق في قدرته وخبرته، فلم يستطع تقديم العون، سألت عن الحل فقالوا لا حل سوى إعادة تشغيل الجهاز لترويض حالة العناد التي أصابته.
نعم كان ذاك هو الحل الأسهل لتليين الجهاز الحرون، لكن المفاجأة هي أن إعادة التشغيل كانت تعني فقدان المادة، لأنني كتبتها في جهاز يتبع لأحد مقاهي الانترنت، والمقاهي تزود أجهزتها ببرامج تزيل على الفور كل الملفات التي يضيفها العملاء، وهذه الإزالة تتم تلقائيا بمجرد قفل الجهاز أو إعادة تشغيله!
زبدة القول ان المادة طارت، فبمجرد إعادة التشغيل، اختفت المادة بشكل كامل، وبات من الضروري كتابة زاوية جديدة.
كان طيران الزاوية أمرا أليما على نفسي. الحل كان يكمن في أمرين: فإما الاعتذار عن الزاوية في هذا الوقت الحرج، أو إعادة كتابتها مرة أخرى. وهنا قمت بالاتصال بالزميل المسؤول عن المتابعة، وأعلمته بالأمر، واتفقنا على محاولة كتابة الزاوية مرة أخرى، فإذا اكتملت في وقت مناسب جرى نشرها، وإن لم يحدث فليس من خيار سوى تأجيلها .
هنا بدأت المشكلة الحقيقية، فعندما حاولت استرجاع الذاكرة لإعادة ما كتبت وجدت الأمر عسيرا، بل كانت هناك استحالة للملمة كل تهويمات الفكر وتعريجات القلم، فقد اختلف الطقس الكتابي، وتغيرت الحالة الشعورية الأولى تجاه النص، وتغيرت الركائز الضبابية لمعالجة المادة.
الحل النهائي كان كتابة موضوع جديد بفكرة جديدة، وقد حدث ذلك بالفعل، وتم الأمر حوالي منتصف الليل، ليجد طريقه للإخراج قبيل سويعات قليلة من مواعيد الطباعة.
ذاك كان بعض حق القارئ علينا، نفضفض به الآن ليعرف أن (الشديد القوي) وحده هو ما يحول دون ظهور المادة أحيانا، وأن اللوم الذي يصلنا من الغياب تكون وراءه حالات مشابهة، لا نملك لها دفعا، ولا نستطيع إزاءها شيئا!!