العشاق في زمن التقنية ليسوا كالعشاق في زمن الدولة العباسية! فالمحبون في تلك الأزمان كانت حالتهم حالة، فلا يستطيعون البوح عن مشاعرهم سواء بالهاتف الثابت أو الجوال، ولا يستطيعون إرسال الرسائل الغرامية إلا بالحمام الزاجل، كما لا يستطيعون بث نجواهم إلا لنسيم الليل كي يحمل أشواقهم للحبيب البعيد!
الآن، في زمن الديجتال والجوال والإيميل، انقلبت الدنيا، وأصبح بإمكان الحبيب الغارق لأذنيه في الحب أن يخاطب حبيبته، وأن يبوح بمشاعره عن طريق وسائل التقنية الحديثة، فيرسل لها رسالة غرامية يقول فيها: (أحبك يا حياة عمري)، وبإمكان الحبيبة أن ترد عليه من جوالها فتقول له: (وأنا أحبك يا بعد عمري) أو أن تقول له: (حل عن حياتي يا ثور)!
التقنية قلبت الدنيا، والناس أصبحوا مختلفين تماما عما كانوا عليه بالأمس. أصبح المسؤولون يستطيعون عقد المؤتمرات الصحفية في نصف الكرة الشمالي، وأصحاب الاستفسارات والأسئلة من الصحفيين في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية! وأصبح صاحب العمل قادرا على إدارة أعماله وهو في الصين، وتكون كل أموره في التمام بجنوب إفريقيا!
حتى القرارات الخطيرة مثل التوكيلات، والتحويلات المالية الكبيرة، وقرارات البيع، أصبحت تطير عبر وسائل الاتصال الحديثة فتحدث مفعولها في ثوان. بل تعدى الأمر كل ذلك ودخلت التقنية في قرارات أخطر مثل (الطلاق) أو عقد النكاح، فيرسل الزوج رسالة جوال لزوجته يقول فيها (أنت طالق) أو يرسل طالب النكاح رسالة لوالد العروس يقول فيها أريدك أن تزوجني ابنتك، فيرد الأب برسالة إلكترونية: (أوافق).
صحيح أن بعض مثل هذه الحالات ما زالت محل أخذ ورد بين أصحاب الاختصاص، لكن الواضح أن التقنية قد أخذت مكانها الفسيح في ميدان اللعبة، وباتت تفرض سطوتها وجبروتها حتى على أخص خصوصيات حياتنا.
إنها التقنيات الاتصالية التي ذبحت الحمام الزاجل وخنقت حتى البريد الجوي! وإذا كان نسيم الليل قد انقطعت أنفاسه بسبب الهيام لعشاق الأمس، فإن الإيميلات ورسائل الجوال قد تولت المهمة للأجيال الجديدة من العاشقين، فامتلأت الدنيا ب (أحبك يا بعد عمري) و(حل عن حياتي يا ثور)!!