تصوروا لو أن ذكاء الناس أصبح يقاس بالجيجابايت، فهل سيكون ذلك وسيلة عادلة لمعرفة الإمكانات العقلية لكل إنسان؟
الحسابات تقول إن الإجابة ستكون نعم، لأن المسألة ستكون هنا سعات تخزينية، فمن يستوعب معلومات أكثر، يكون الأكثر ذكاء من غيره.
لكن عقل الإنسان ليس ماعونا للتخزين، فهو عقل جبار وخلاق، يكتسب الخبرات، ويقوم بالتحليل الدقيق لأحداث الحياة بشكل تلقائي دون جهد، ويمزج بين معلومات متباينة وخبرات متنوعة ليصوغ أسلوب تفكيره، فضلاً عن أنه يملك بطارية أخرى اسمها العاطفة، وهي بطارية تتدخل بشكل أو بآخر لتفرض حساباتها ومنطقها، فيكون لها تأثيرها الملموس على ما ننتهجه من قناعات ورؤى.
ووسائل قياس الذكاء التقليدية أصبحت متعارفا عليها، رغم أن الكثيرين لا يرتاحون للوسائل الحسابية في الحكم على ذكاء الإنسان وغبائه.
لكن القياس لذكاء الحواسيب وأوعية المعلومات الإلكترونية ليس محل خلاف، فإذا كان الفلاش ميموري ذا سعة تخزينية تصل لأربعة جيجابايت، فهذا يعني درجة من الذكاء تصنفه في مكان ما بين رصفائه من الأجهزة الشبيهة.
ولو جاء زمان تقاس فيه أمخاخ البشر بالجيجابايت، فسيتم صرف شرائح ذكية تعريفية بكل شخص، فيتقدم للوظائف العامة حملة هذه الشرائح، ويتم تصنيفهم، فالأمخاخ سعة عشرين جيجابايت مثلا تكون مناسبة لطيف من الوظائف، والأمخاخ التي تسع مائة جيجابايت تكون مناسبة مع طيف آخر من الوظائف، أما الأمخاخ التي لم تسمع بالجيجابايت، وكل ما تعرفه هو الكيلوبايت والميجا بايت فهذه سيكون لها أيضاً أوعيتها ووظائفها التي تناسبها.
وبالطبع فإن وجود تصنيف للأمخاخ سيحتم وجود هياكل وظيفية تراعي هذا الأمر، فتتم هيكلة الأجور وفقا للسعة العقلية لأصحاب كل وظيفة، وسيتلاشى الأدعياء والانتهازيون والطفيليون، وستصبح الوظيفة لمن هو جدير بها.
يقول البعض إن عقل فلان يزن بلدا بكامله، ومثل هذا الحديث يشير إلى رجاحة عقل ذلك الشخص، وهذه الرجاحة ستكون مشكلة المستقبل، فالجيجابايت لا يعرف رجاحة التفكير، بل يعرف المنطق الرياضي البحت، وهذا يدلل على أن غياب العاطفة ليس هو العيب الوحيد في قياس الذكاء الإنساني بالجيجابايت، هذا عدا الإشكاليات التي ربما لا تخطر بالبال عند التطبيق العملي لحوسبة أمخاخ الناس.
الذكاء التقني إضافة لا يمكن إنكارها أو التقليل من أثرها، لكن الذكاء الإنساني الخام هو الأصل، وهو الذكاء الذي صنع الحواسيب وجعل الجيجابايت أحد قياساتها، كما مزج بشكل مدهش بين العواطف والمشاعر والمنطق، فكان ملبياً لمتطلبات الروح والعقل، وكان متناغماً مع مكونات الإنسان بكل حاجاته المادية والمعنوية.