الألوان.. تقنيات
|
* إعداد: محمد بن زيد الرماني *
إن الجدل دائر منذ مئتي عام تقريباً، حينما كتب توماس روبرت مالتوس كلماته عام 1798م ردا على مجموعة من الكتاب الفرنسيين المتفائلين (إذا أخذنا أي عدد واعتبرناه هو عدد السكان في العالم، فمن شأن النوع البشري أن يتزايد وفقاً للنسب 1، 2، 4، 8، 16، 32، 64، 128، 256، 512 وتتزايد أسباب الحياة الضرورية (ومنها الموارد الاقتصادية) وفقا للنسب 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9، 10
ومنذ ذلك الحين ألصقت صفة المالتوسية بأولئك الذين يؤمنون بأن الجمهرة البشرية يمكنها الضغط على موارد الأرض.
ويؤمن معارضوهم بأن هذا الخوف ليس مبالغا فيه فحسب، بل هو خطر.
وقد ألحقت بالفريقين صفات أخرى، فوصف المالتوسيين بأنهم (معارضو المواليد) و(مجانين البيئة)، ووصف معارضو المالتوسيين بأنهم (مؤيدو المواليد) و(بُله التقنية).
وأيا ما تكن الأوصاف، فمنذ أن كتب مالتوس مقالته (قاعدة عدد السكان)، زاد عدد البشر إلى ستة أمثاله وارتفع استخدام الطاقة البشرية الكلية إلى مئة مثل أو ما يقرب من ذلك. وطال عمر الإنسان المتوقع في كل مكان تقريبا على حد زعم دونلا ميدوز في دراسة لها عن (المسألة السكانية).
وكذا نقص غطاء الأرض من الغابات بمقدار الثلث ومساحة الأراضي المبتلة التي لم تتعرض للاضطراب إلى النصف. وتغير تركيب الجو بفعل التلوث الذي أحدثه الإنسان. ومات مئات الملايين من الأشخاص جوعا، وانقرضت الألوف من الأنواع واستنزفت المناجم وآبار النفط، وواصل الاقتصاد النمو.
تقول دونلا ميدوز في كتاب (ما وراء الأرقام): أحد أسباب استمرار الجدل هو أن التاريخ يقدم مجموعة من الأدلة المختلطة إلى حد بعيد. وإذا طال الجدل الذي يسوده التحمس قرنين تقريبا، فهناك حتما أصالة في الرأي القائل بأن الأدلة معقدة بالقدر الكافي لتأييد الطرفين، ليس هذا فحسب بل إن كلا من الطرفين منهمك في تمحيص الأدلة وفرزها مجمعا ما يؤيد أفكاره المتصورة سلفا فقط.
وباختصار، فلحل اللغز المالتوسي، والتوصل إلى أسلوب للتفكير والتصرف، يمكن أن يهدي العدد المتزايد من السكان إلى مستوى معيشة ملائم يمكن الحفاظ على استمراره داخل نطاق الأرض، يلزمنا معرفة جميع وجهات النظر ومعالجتها باحترام، كما يلزمنا التنسيق بينها ودمجها في وحدة متكاملة.
فهناك أكثر من وجهتي نظر فالجدل لا يقتصر على مؤيدي مالتوس ومعارضيه فحسب.
فأنصار الرأي الأزرق في المسألة المالتوسية (الزرق) يركزون على إمكانية جعل رأس المال ينمو بمعدل أسرع من معدل نمو السكان حتى يمكن أن يكون كل شخص أحسن حالا. ويحدث التقدم، كما يعرفه هذا الرأي، بتزايد رأس المال المنتج، وبناء البنية الأساسية لزيادة فعالية رأس المال وتعليم البشر لجعلهم أكثر مهارة وإبداعا في الحصول على نتاج لرأس المال.
و(الزرق) يرون حولهم نماذج حية تثبت صلاحية رأيهم للتطبيق العملي فأعظم نظم العالم الاقتصادية حيوية ونشاطا وتنوعا وإنتاجا وإبداعا هي حيث تكون الصناعة قوية ويحصل الناس على حوافز مادية في مقابل المثابرة والجدية في العمل أو البراعة أو الاستعداد للتضحية في الحاضر استثمارا للمستقبل.
ويركز (الزرق) على رفع المستوى الكلي للإنتاج، لا على توزيع هذا الإنتاج.
وبعض (الزرق) قلقون من النمو السكاني بوصفه عبئا على الاستثمار.
و(الزرق) يفترضون أن البشر تنافسيون وفردانيون وتستحثهم المكاسب المادية. ويعتقدون أن هناك فروقا حقيقية بين الناس في الفضيلة والكفاءة. أما أنصار الرأي الأحمر (الحمر) فهم هادئون بعد أن قهرهم انهيار الاتحاد السوفييتي السابق. ولكن أسلوبهم في النظر إلى العالم لم يختف بأي حال. فما يراه (الحمر) هو أسلوب المجتمعات في أن تزيد نظاميا ثراء من هم أثرياء فعلا مهملة الفقراء.
و(الحمر) لا يسلمون بأن الذين يزاد ثراؤهم يفوزون بمكافأة عادلة على إنتاجية متفوقة.
و(الحمر) يريدون إصلاح حالات الظلم والاضطهار فهم يؤمنون بأن الناس يهتمون برفاهة الآخرين، وأن ما من شخص يسعد حقا بينما الآخرون تعيسون، ويؤمنون بأن الناس يستجيبون للفرص من أجل فائدة المجتمع الأكبر لا لمجرد المكافأة المادية. والعدالة عند (الحمر) تعني تلبية احتياجات الجميع وعدم التفرقة المنحازة ضد الأقل حظا.
والعمل لا راس المال ولا الموارد الطبيعية، في رأي (الحمر) هو أهم عامل في الإنتاج. وعلى ذلك فيجب أن يكافأ الناس على عملهم. وبعض (الحمر) يضمرون أثرا عميقا من الامتعاض من الناس الذين يرتزقون من الإيجارات أو أرباح الأسهم والسندات المتعلقة بالملكية لا بالعمل.
ومعظم (الحمر) لا يعولون على السوق الحرة وحدها لتكون المسار المؤدي للرخاء والخير العام وهم يرون ضرورة السيطرة الاجتماعية على الاقتصاد حفاظا على استمراره في الأداء وتوفير العدالة.
ومعظم (الحمر)، كا(الزرق) يفهمون التنمية بدلالة الصناعية الواسعة النطاق ولكن بمصانع يسيطر عليها ممثلون للعمال.
و(الحمر) كا(الزرق) يرون أن النمو الاقتصادي هو خير في ذاته كما أنه مفتاح لحل المشكلات الاجتماعية.
ومن ثم، فليس من السهل إيجاد مكان لاحتمال أن تكون الأرض ذات إمكانيات محدودة في الفلسفة (الحمراء). إذ لم يركز (الحمر) حتى وقت قريب على الموارد الطبيعية. كما أن (الحمر) لا يهتمون كثيرا بالنمو السكاني أو البيئة. وإذا كان (الزرق) مولين انتباههم نحو نمو رأس المال والتقنية، و(الحمر) مهتمين بالعمل وأنماط التوزيع فإن أنصار الراي الأخضر (الخضر) حريصون على مراقبة التلوث ونفاد الموارد.
فليس رأس المال ولا العمل في رأيهم هما أهم العوامل الحاسمة في الإنتاج، بل المواد والطاقة. ويقلقهم حجم النظام الاقتصادي بالنسبة للحجم الذي يمكن أن تطبقه البيئة.
وبينما (الزرق) و(الحمر) يجاهدون من أجل زيادة نمو النظام الاقتصادي، فإن الذين ينظرون إلى العالم من خلال نظارات (خضر) يخشون إمكان نمو النظم الاقتصادية والأعداد السكانية إلى حجم أكبر مما يجعلها متواصلة.
والتقدم في عرف (الخضر) يجب أن يصل بالناس إلى حالة اكتفاء لا إلى حالة نمو مادي مستمر. والسبيل إلى التنمية، عند (الخضر) هو خفض الاحتياجات البشرية المفرطة من الإنتاج والتوالد. وهذا يعني تثبيت الأعداد السكانية أو حتى تقليلها والاعتدال في الثراء المادي واختيار التقنيات التي تقوي، بدلا من أن تدمر العالم البيئي. و(الخضر) متفائلون من ناحية التقنية كا (الزرق) و(الحمر)، ولكن فيما يتعلق بالتقنيات التي تروق لهم فقط فهم يعتقدون أن الطاقة الشمسية، لا النووية، يمكنها أن تؤدي ما هو مطلوب. واحتمال الاعتماد على تقنية معممة لحل جميع المشكلات أقل لدى (الخضر) منه لدى (الزرق) و(الحمر).
(فالخضر) يزعمون أن ما من تقنية على الإطلاق تسمح بالزيادة المستمرة في الإنتاج وعدد السكان. ويرى (الخضر) أن التدابير المتعلقة بالسوق والعدالة الاجتماعية قد تكون ضرورية في عالم مثالي لذا (فالزرق) يميلون إلى اعتبار (الخضر) حمرا مقنعين.
أما (الحمر) فيميلون إلى اعتبارهم مجموعة الصفوة الذين يعيشون في أطراف طرق طويلة ملتوية لا يهتمون بالعدالة الاقتصادية والواقع أن (الخضر) ليس لهم مكان مناسب في الطيف الممتد من الأحمر إلى الأزرق.
إن وجهة النظر البيضاء تجمع في بعض نواحيها بين جميع الألوان السابقة. (فالبيض) يرون أن السياسة الجديرة بالاهتمام هي فقط التي تنبع من حكمة الناس وجهودهم وتركيز اهتمامهم لا ينصرف إلى إعادة التوزيع أو تنظيم عدد السكان، أو إنشاء المصانع أو زرع الأشجار، بل إلى تمكن الناس من السيطرة على حياتهم وقراراتهم.
وهذا النموذج يعتبر التقدم هو الاعتماد على النفس محليا. والتقنية المناسبة مفهوم مهم بالنسبة (للبيض) وهي التقنية التي تستخدم أدوات يمكن صنعها وصيانتها على المستوى المحلي. وفي رأي (البيض) أن القروض الضخمة للصناعات الكبيرة تدك التنمية الحقيقية على الأرجح، والقروض الصغيرة جدا هي المرام وحوافز السوق ممتازة ما دامت تساعد الأنشطة الاقتصادية الصغيرة على منافسة الكبيرة.
و(للبيض) منظمات كثيرة شديدة التحمس للاهتمام بالبيئة ولكن (البيض) يعتبرون البيئة بيئة عاملة، أي أن فيها مقام الناس ومعاشهم، لا بيئة يحفظ لها نقاؤها الأصلي بدون إفساد لتعجب السائحين. وهكذا، (فالحمر) يجرون التجارب على فعاليات السوق وبعض (الزرق) يقرون بأنه لا يتعين نبذ السوق كلية بسبب فرض معايير العدالة الاجتماعية ورعاية البيئة عليها وقادة (البيض) يسألون أنفسهم كيف يمكن الارتقاء واستخدام مهارات الإدارة الواسعة النطاق من دون أن يفقدوا القدرة على الاستماع إلى الناس و(الخضر) يقرون بإمكان صون البيئة من دون أن تخيب آمال الناس.
ختاما أقول: إن الأساس الذي يتعين أن تقوم عليه تصوراتنا للتنمية والسكان والبيئة والاقتصاد هو كوكب مزدهر يؤدي وظائفه!! فلم يعد هناك وقت لمواصلة الجدل المالتوسي بلا جدوى لمدة مئتي سنة أخرى قادمة!!
عضو هيئة التدريس *
بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2002, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|