الرأسماليون الأمريكيون يرون في الهند فرصة مربحة لاستثماراتهم بلا تكاليف تذكر
|
* إعداد - محمد شاهين
إذا قدت سيارتك في عاصمة التكنولوجيا الهندية بنجالور خاصة في طريق هوسور، حتى ولو كانت الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، فسترى ومضات صادرة عن أدوات عمال اللحام العاملين في إنشاء مبان جديدة لتكون مقارا لشركات البرمجيات العالمية. ولو قرأت إعلانات شركات التكنولوجيا التي تبحث عن مهندسين ليعملوا بها، لوجدتها تتوسل إليهم لقبول العمل بها. والاتجاه نحو طراز حياة وادي السيليكون، صار يغزو بنجالور، بدءاً من الطرق المختنقة بالزحام حتى الوظائف الجديدة التي تشبه العمل من خلال شبكة الإنترنت.
وتأتي الفرصة من قدرة شركات الولايات المتحدة الأمريكية على استغلال العمالة الكثيفة والأسواق المتنامية في الهند في مجال التكنولوجيا لصالح منتجاتها وخدماتها التكنولوجية. وهنا، يتضح التهديد فورا: فالوظائف التي تشمل عددا من القدرات الهندسية والتقنية، والتي كانت متوافرة ذات يوم في الوادي، قد هاجرت إلى الهند. ومن منظور المستقبل البعيد، سيأتي يوم تنافس فيه الهند وادي السيليكون مركزا للتجديد في مجال التكنولوجيا.
وقال رفيق دوساني، وهو من قدامى الأساتذة الباحثين بجامعة ستانفورد، وخبير في الانفجار التكنولوجي الهندي: ينبغي أن يقلق وادي السيليكون؛ لأن بنجالور قد تضارع وادي السيليكون في ظرف خمس إلى عشر سنوات من الآن. وأضاف قائلا: (أما الآن، فقد يتزايد نقل العمل الهندسي من الدرجة الثانية، أي الذي لا يقع على قمة سلم التجديد، ليؤدى في الهند). تشمل مثل هذه الأعمال الهندسية خدمة العملاء، والتحكم في جودة البرمجيات، والبرمجة عموما، وكلها - بحسب قول دوساني -: (تنتقل إلى الخارج. وستظل تنتقل).
وقد لاحظ آش ليلاني، رئيس القسم الدولي ببنك وادي السيليكون أن وادي السيليكون كان يزدهر دائماً في ظل التحديات التي يواجهها، ويعتقد معظم المراقبين أن هذا الوضع سيظل على ما هو عليه. هذه المنطقة هي مركز موجات رأس المال الصناعي المغامر، وهو مورد ثابت لتمويل الأفكار الجديدة، والجامعات العالمية رفيعة المستوى، وشبكة من الشركات والمفكرين العاملين في مجال التكنولوجيا الذين لا نظير لهم في أي مكان. ويقول كريستوفر ثورنبيرج، وهو من قدامى الخبراء الاقتصاديين في هيئة UCLA Anderson Forecast للتنبؤات العملية: يرجع نجاح بنجالور جزئيا إلى أن أهل وادي السيليكون يرحبون بالعمل معهم.
وقال ب.ف. نايدو، مدير شركة سوفتوير تكنولوجي باركس الحكومية بالهند: إن الشركات العاملة في بنجالور قد صدَّرت في العام الماضي ما قيمته 6.3 بليون دولار أمريكي من البرمجيات والخدمات، أي أكثر من 35% من إجمالي صادرات البرمجيات والخدمات من الهند، وقيمته 17.3 بليون دولار أمريكي. ومن المتوقع أن تجني الصناعات التكنولوجية الهندية في العام الحالي إيرادات تزيد على 28 بليون دولار أمريكي، وهو ما يزيد بمقدار ثلاثة أضعاف عما جنته من دخل منذ خمس سنوات. وقد لعبت الشركات متعددة الجنسية دورا كبيرا في الثورة التكنولوجية، حيث قدرت قيمة العمليات التي أحيلت إلى متعهدين في الهند بحوالي ثلثي ثروة الشركات الخمسمائة المتعددة الجنسيات مجتمعة.
***
(سحر) وادي السيليكون
تدخلت الشركات المتعددة الجنسيات أيضا في تشكيل الصناعات التكنولوجية بإنشائها مجمعات صناعية كبيرة في الهند، فشركة أوراكل لها في الهند طاقم من العاملين يبلغ عدد أفراده 7000 مهندس وغيرهم من المهنيين المتخصصين في التكنولوجيا، كما استثمرت شركة إس آيه بي SAP الألمانية المتخصصة في صناعة البرمجيات بليون دولار أمريكي في الهند في عام 2004م وحده، ولها حوالي 2000 موظف بالهند، يعمل معظمهم بمجال البحث وتطوير الأعمال. أما شركة إنتل فلها حوالي 2800 موظف هندي من العاملين بمجال التكنولوجيا في بنجالور. كما أعلنت شركة سيسكو مؤخرا أنها تستثمر 1.1 بليون دولار في الهند، وأنها ستزيد موظفيها هناك بمقدار ثلاثة أضعاف، فهم الآن 1400 موظف، تزمع رفع عددهم إلى أكثر من 4000 موظف في غضون السنوات الثلاث المقبلة، من أجل تطوير منتجات للسوق الهندية.
ويقول نارندرا جادهاي، رئيس قسم البحوث الاقتصادية بالبنك الاحتياطي الهندي: إن الاستثمارات الأجنبية التي تدفقت على الهند في بدايات تسعينيات القرن العشرين كانت أقل من 100 مليون دولار أمريكي سنويا، أما اليوم، فتبلغ قيمة هذه الاستثمارات حوالي 5 بلايين دولار أمريكي.
وتساعد شركات وادي السيليكون - من أصغرها إلى أضخمها، كشركة أوراكل مثلا - في دفع عجلة هذا التغير، إذ تتهافت على توظيف عدد متزايد من المهندسين، وإنشاء مبان جديدة تخطف الأبصار. إنهم يحاولون استيراد (سحر) وادي السيليكون بحقن تلك الثقافة الصغيرة الجديدة المقتبسة من ثقافتهم بروح المخاطرة، التي تتميز بالتجديدات، وإنشاء مكاتب زاهية الألوان، ملحق بها غرف لألعاب تنس الطاولة واليوجا بغرض الاستجمام.
تقول المهندسة المعمارية جيسي جاكوب، التي ازدهرت أعمالها منذ بدأت جحافل الأمريكيين في الوصول إلى الهند في السنوات الأخيرة: (... ما أن قدمت شركات وادي السيليكون إلى بلادنا، وأدخلت فيها المكاتب المبنية على أحدث طراز، لم تستطع الشركات الهندية أن تظل متخلفة عنها). فقد استأجرت الشركات هذه المهندسة لإنشاء مكاتب مزودة بجدران مكسوة بورق حائط منقط، ومقاعد معلق بها لعب من القماش المحشو بالبقول الجافة، وأطواق للعبة كرة السلة.
وقد صارت المطاعم الليلية مكتظة بالعاملين في مجال التكنولوجيا، فترى فيها المهندسين الشبان وقد تدلت من آذانهم سماعات أجهزة الآيبود، وأصحاب مكاتب التوظيف يديرون هذه المطاعم لجذب موهوبين جدد لعملائهم من أصحاب الأعمال الأمريكيين.
والشبان الموهوبون الذين يعملون في مجال التكنولوجيا بالهند هم من كانوا يعملون بالوادي في نهايات تسعينيات القرن العشرين، حيث أصبحت تنهال عليهم فرص عمل عديدة بمرتبات ضخمة، ويلتقون بمن يبحثون عن أمثالهم من العاملين، مثل شركات أرقام التليفونات التي يتصل بها العملاء عشوائيا، وشركات البرمجيات، التي تبتكر طرقا متجددة لاجتذاب مثل هؤلاء الشبان للعمل لديها.
وقد قال ريشي داس، الذي يعمل في شركة استشارية للتوظيف عبر الإنترنت، وهي شركة للبحث عن العاملين في بنجالور: (... الكثير من أصحاب الأعمال لا يرغبون في التواجد في المجمعات التكنولوجية... فهم لا يتحملون أن يلتقي أصحاب شركات التوظيف بموظفي شركتهم يوميا في المصعد. وتخشى الشركات من وضع أسماء موظفيها على موقعها على شبكة الإنترنت خوفا من أن يتصل بهم أناس يغرونهم بتغيير وظيفتهم).
ووفقاً لمعايير الأجور في الوادي، حيث يتقاضى المهندسون ما بين 79000 إلى 125000 دولار أمريكي سنويا، ما زال العاملون في الهند يساومون من أجل رفع أجورهم، رغم أن تصاعد المرتبات قد يخفض من هذه الميزة في نهاية الأمر. تتراوح الأجور في الهند ما بين 7000 دولار أمريكي سنويا للمهندسين المبتدئين الذين يعرفون باسم (المستجدون) وتصل إلى ما بين 25000 و30000 دولار أمريكي للمهندسين ذوي الخبرة.
لقد صارت بنجالور جزءا حيويا من استراتيجيات الكثير من شركات الصناعات التكنولوجية، التي تسعى إلى الحصول على عدد كبير من الأيدي العاملة الرخيصة، وفتح أسواق جديدة، لتتمكن من المنافسة على مستوى كوكب الأرض. فالنظام التعليمي الهندي الذي لا يعلى عليه، والذي يشمل معاهد تكنولوجية هندية رفيعة السمعة، يخرج أكثر من 100000 شخص من العاملين بمجال التكنولوجيا سنويا، وذلك وفقا لتقديرات الهيئة القومية لشركات البرمجيات والخدمات التكنولوجية بالهند.
***
جو مفعم بالإثارة
على الشركات العاملة في مجال التكنولوجيا في ظل الاقتصاد العولمي أن تتواجد خارج بلدانها إذا أرادت أن تبيع منتجاتها في بلدان ذات ثقافات مختلفة.
وقد قال بريان ستول، المدير الإداري الرئيسي لشركة آجايل Agile العاملة في مجال البرمجيات، التي يقع مقرها في سان خوزيه، ولها عمليات في جميع أنحاء الكرة الأرضية، ومنها سوزهو بالصين وبنجالور بالهند: (... إنه عالم تحتدم فيه المنافسة، وستزداد احتداما... لقد خرج هذا الجني من القمقم، ولن يعيده أي شيء إلى قمقمه).
إن استراتيجية بنجالور تمكن الشركات من تحقيق نمو سريع. خذ مثلاً شركة نت ديفايس NetDevices، وهي شركة تعمل في مجال الإنترنت ويقع مقرها في منطقة سينفال، أسسها ثلاثة من المهندسين السابقين لشركة سيسكو. ابتكرت هذه الشركة نوعا جديدا من أجهزة التعامل مع شبكة الإنترنت يجمع بين عدد من خدمات الاتصال المختلفة، وهي تقوم بأكبر قدر من تطوير إنتاجها في بنجالور. يعمل 125 موظفا لصالح شركة نت ديفايس في الهند، منهم 100 في بنجالور.. وبذلك، تمكنت هذه الشركة من توظيف عدد من العاملين أكبر مما كان يمكنها توظيفه في وادي السيليكون، ما ساعدها على شحن أول شحنة من منتجاتها في ظرف 18 شهرا.
وقد قال لداي بيري، نائب رئيس الشركة، إنه لو كانت معظم وظائف هذه الشركة تؤدى في مقرها بالوادي لكان لديها عدد أقل من العاملين، ولاحتاجت إلى ثلاث أو أربع سنوات لتشحن أول شحنة من منتجاتها. وأضاف: (... لقد لعبت الهند دورا كبيرا كعامل مساعد لشركة نت ديفايس، ليس في مجال الأعمال الهندسية فقط، بل أيضا في مجالات التسويق والخدمات). والشركات الصغيرة على وجه الخصوص تأمل في استغلال بنجالور كقاعدة لما ترغبه من تجديدات.
***
سبل الوصول إلى أسواق جديدة
قال ناي بوهلر، رئيس العمليات التي تجرى في الهند لصالح شركة وايز تكنولوجي Wyse Technology التي يقع مقرها في سان خوزيه: (... نحن نجري عمليات البحث والتطوير هنا. وشركة وايز هي التي تبتكر شفرة البرمجيات اللازمة للجيل الجديد من الأدوات الحاسبة المحمولة قليلة التكلفة في مجمعاتها الفخمة ببنجالور، التي تضم 161 موظفا، منهم 71 مهندسا. ومن المتوقع أن يتضاعف عدد أفراد فريق بنجالور في ظرف عام.
أما شركة سيمفوني سيرفيسز Symphony Services التي يقع مقرها في بالو آلتو، فقد نمت خلال ثلاث سنوات فقط لتصير شركة يعمل بها ما يزيد عن 2600 موظف في جميع فروعها في شتى أنحاء العالم، 95% منهم يعملون في مقارها في الهند، ومعظمهم في بنجالور. تقدم هذه الشركة لعملائها من الشركات الأمريكية خدمات البرمجيات، التي تشمل عمليات معقدة مثل صياغة وتحليل البيانات.
وقال آجاي كيلا، رئيس فرع شركة سيمفوني سيرفيسيز بالهند، الذي عاد من وادي السيليكون إلى بنجالور منذ عامين: (... كل هذا عمل من أحدث طراز... هذا تجديد في الابتكار. إن قيمتنا في تصاعد).
وتتيح بنجالور كذلك سبلا سريعة للوصول إلى أسواق جديدة. لقد أنشأت سانتا كلارا شركة صغيرة هي جولاي سيستمز July Systems، التي توفر برمجيات تجعل الشركات تبيع محتويات للهواتف المحمولة، من نغمات المحمول حتى الألعاب. وتقوم جولاي سيستميز بتطوير إنتاجها بالكامل في بنجالور، حيث يعمل جميع مهندسيها.
وقد قال جروبراساد كريشنامورثي، مدير إدارة الإنتاج بها إن وجود الشركة في بنجالور مهم لفهم سوق الهواتف المحمولة الذي يزداد اتساعا في آسيا. وأضاف: (... نحن نحصل على معلومات من آسيا عن اتجاهات الأسواق).
***
طفرة في بلد فقير
إن الاقتصاد العالمي يجلب ثروة جديدة إلى بلد عانى من فقر تاريخي. تتزايد في بنجالور الآن مباني الأسواق متعددة الأدوار (المولات). وترتفع أيضا أسعار المساكن.. ففي حي بالم ميدوز الراقي ببنجالور، نجد أن سعر المسكن المبني على طراز مساكن الضواحي بكاليفورنيا، الذي كان يباع بسعر 120000 دولار أمريكي، قد يصل الآن إلى 600000 دولار أمريكي.
وقد تحدثنا مع ب.م. جايشانكار رئيس مجموعة آدارش التي أنشأت حي بالم ميدوز ومديرها التنفيذي، ورئيس جمعية البنائين ببنجالور، فقال لنا: (... سيظل السوق مدينا لنا بالعرفان). ويتوقع جايشانكار أن يزيد دخل مجموعة آدراش بمقدار ثلاثة أضعاف، فيزيد من 25 مليون دولار أمريكي في 2004م إلى 75 مليون دولار أمريكي في عام 2005م (قد يبطئ تقدير السوق لنا بعض الشيء، لكن الطلب علينا سيستمر).
لكن الأموال التي تدخل إلى الصناعات التكنولوجية قد تقاس أيضا بمقاييس أكثر تواضعا، فشوارع بنجالور تزدحم بالسيارات الحديثة من السيارات الكورية المبتدئة حتى السيارات الفارهة من طراز SUV، التي تحل محل سيارت الريكشا ذات العجلات الثلاث المستخدمة سيارات أجرة. وفي عام 2003م، باعت شركة ترايدنت هيونداي البنجالورية 32000 سيارة، وهي الشركة التي تبيع السيارات لمصانع السيارات الكورية. ويقول سمير شوظري، المدير الإداري لهذه الشركة إنها ستبيع في هذا العام 65000 سيارة. وقال إن كل ما يحتاجه المهندس الشاب ليتمكن من شراء سيارة ما كان ليحلم أن يشتري مثلها أبدا هو الحصول على درجة جامعية ووظيفة جديدة في مجال التكنولوجيا. وأضاف: (... نحن نسلم أحيانا 100 سيارة في اليوم، وفي مثل هذه الأيام تظل أبوابنا مفتوحة حتى منتصف الليل...).
لكن الثروات الجديدة تخلق المشكلات أيضا. فالطرقات تختنق بزحام المرور، وقد يقطع المرء مشوارا طوله 10 أميال فيما يزيد عن الساعة. وتضاف مئات السيارات الجديدة يوميا إلى الشوارع التي حفرت السيارات فجوات فيها، والمزدحمة بالدراجات النارية، وسيارات السباق، والعربات التي تجرها الخيول، والبقر.
فطريق هوسار شريان يفيض بسيارات الباص التابعة لشركات الصناعات التكنولوجية التي تنقل العمال إلى المدينة الضخمة المتخصصة في الإلكترونيات، وهي إحدى أبرز المجمعات التكنولوجية ببنجالور، وفيها مقر شركة الخدمات العملاقة إنفوسيز تكنولوجيز Technologies Infosys.
إن حلول ثروات فورية بأمة تبلغ نسبة التعليم فيها حوالي 60%، ويعيش 25% من سكانها في حالة فقر، قد زاد من الأحقاد الطبقية. وقد تظاهر النشطون في العمل العام أمام بوابات شركة إنفوسيز لمطالبة الشركة بتوظيف المزيد من أهل البلد، وليس مجرد خريجي الجامعات الهندية من الصفوة. وقد أرغم ارتفاع تكلفة المساكن من لم يستفيدوا من الازدهار الذي حل بالبلد على السكنى في أماكن تبعد كثيرا عن مقار أعمالهم.
وقد قال سرينيفاس بهات، الذي يعمل سائق سيارة في شركة وايز تكنولوجي: (... الأغراب هم الذين يعملون في مجال تكنولوجيا المعلومات... والعاملون في هذا المجال من أهل بنجالور قلة. أهل بنجالور لا يقدرون على تكلفة إيجارات المساكن).
لكن بهات يرى أن حياته قد تحسنت جدا منذ عمله بشركة وايز. فالشركة تعلمه مهارات استخدام الكمبيوتر. ويمكنه الآن تحمل نفقات تعليم ابنته ذات الأعوام الستة في مدرسة أرقى. وحين سألنا بهات عما يتمناه لابنته، ابتسم وقال إنه يأمل أن تصير مهندسة.
***
مشكلة الألفية الجديدة
كانت البداية يمكن إرجاع ازدهار العمل في الشركات الأجنبية الذي حول مسار اقتصاد هذا البلد جزئيا إلى اكتشاف تكنولوجي حدث في عام 1995م. ففي ذلك العام، وجد مهندسو شركة تاتا للخدمات الاستشارية أن مجموعة البرمجيات المسماة كيسباك CasePac التي طورت لتحويل الشفرة للعمل على أجهزة آي بي إم يمكن أن تستخدم أيضا لتغيير حقول البيانات في برامج أخرى.
وقال نجاراي لياري، وهو من قدامى المديرين التنفيذيين بمكاتب شركة تاتا في هذه المدينة التي تعتبر قلب الصناعات التكنولوجية الهندية المزدهرة: (لقد أدركنا أن هذه التقنية يمكن أن تستخدم لحل مشكلات آل Y2K. وقد سعت شركات من مختلف أنحاء العالم إلى الحصول على خدمات مكاتب شركة تاتا بالخارج لإصلاح (خطأ الألفية) كما كان يُسمى، وتصاعد دخل الشركة من أقل من 170 مليون دولار أمريكي إلى 2.24 بليون دولار أمريكي في السنوات التي تلت ذلك.
هذه قصة نجاح توضح كيف تغيرت ثروات الهند في بضع سنوات، حيث إن الصناعات التكنولوجية الناشئة في البلد قدمت هذه الخدمات بتكلفة طفيفة أقل من التي تقدمها بها نظيرتها الغربية. إن الهند تدخل مرحلة جديدة مهمة من تطورها الاقتصادي، مبنية على أساس هذا النجاح.
وما أن توظف الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات شركات غير معروفة لتدير لها مكاتب استقبال الدعم وتطور تطبيقات الكمبيوترات المركزية، حتى تحسن الشركات الهندية من صورتها كشركات تمد السوق بطرز من أجهزة الكمبيوتر تحمل أسماءها التجارية، وتعمل في مجال تطوير البرمجيات، وتقديم الخدمات الاستشارية، وغير ذلك من كل ما يخطر على البال تقريبا في مجال التكنولوجيا. وحيث إن قوات العمل الشابة ذات الدراية بالتكنولوجيا قد ضخت دماء جديدة في عروق الحركة الجديدة، تعد هذه الحركة تقدما كبيرا نحو الاستقلال الاقتصادي، الذي ستكون له تفرعات عريضة لبلد سبق له الوقوع تحت الحكم الاستعماري، وخاض تجارب في الاشتراكية والفقر المدقع.
ويرى المحللون أن الهند أمامها فرصة محلية ضخمة، وفرصة للتصدير تتجاوز العمل لصالح شركات أجنبية. ومن المتوقع أيضا أن نرى قائمة الشركات المضاربة في البورصات العالمية تحوي عدداً لا بأس به من شركات التكنولوجيا الهندية. تعكس الروح الاستثمارية النامية في الهند في شكل غزوات لسوق الأدوات الإلكترونية الاستهلاكية، وهي سوق تشتد فيها المنافسة، ظلت لفترة طويلة تعتبر ساحة تسودها اليابان، والصين، وكوريا الجنوبية، وغيرها من الدول الآسيوية، إضافة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
فمثلا، ربحت شركة تاتا مؤخرا صفقة لإنشاء شبكة هواتف محمولة آمنة بيئيا لناقل أمريكي، بينما تصمم شركة ويبرو تكنولوجيز Wipro Technologies المنافسة لها أجهزة لإذاعة الموسيقى الرقمية من طراز MP3 لأوروبا، وتليفزيونا بشاشة مسطحة لشركة أمريكية. ولا تقتصر مثل هذه المغامرات الاستثمارية في سوق السلع الاستهلاكية على أكبر الشركات العاملة في هذا المجال، فشركة سيليترونيكس التي يقع مقرها في بومباي تنتج صناديق لأجهزة تليفزيون تلتقط بث الأقمار الصناعية تنتجها شركة تقع في أمريكا.
وقال رامش إيماني، رئيس قسم الحلول الهندسية المطلوبة والإنتاج الهندسي بشركة ويبرو: (سيشبه تطورنا التطور الذي حدث في تايوان)، ملاحظا أن الهند ستركز على تصميم أجهزة الكمبيوتر أكثر مما ستركز على تصنيعها.
وبالرغم من أنه لا يوجد في الهند التي يبلغ عدد سكانها بليون نسمة إلا 100 مليون جهاز هاتف، تشمل خطوط الهاتف الأرضية والخلوية، لكن من المتوقع أن يزيد هذا العدد إلى 250 مليون جهاز في العامين القادمين. لا تزيد تكلفة خدمات الهاتف الخلوي عن 4 إلى 7 دولارات أمريكية شهريا، كما ستقدم الهواتف المستقبلية خدمات حجز تذاكر السفر إلكترونياً بالإضافة إلى الخدمات الأخرى الموجودة في عدد من البلدان الشرق آسيوية الناهضة تقنياً.
أما شركات صناعة أجهزة الكمبيوتر فتهدف إلى التصدير لأسواق استثمارية أخرى داخل الهند وخارجها. فمثلا، تنتج شركة VXL Instruments أجهزة كمبيوتر مكونة من أجزاء أساسية فقط لشركات مثل أير فرانس وجووديير لصناعة إطارات السيارات. وتبيع شركة فينال كوادرانت سوليوشانز FinalQuadrant Solutions التي تقع في نيودلهي جهاز كمبيوتر مركزيا لصناعة السفريات. وكعامل من عوامل فتح السوق أو لنقل كمحاولة لجذب العملاء الذين لا يدفعون إلا مبلغا متواضعا مقابل الحصول على الجهاز، قال المدير آنجو جوبتا: (كل سفرية نتوسط في بيعها تنجز بقوة كالسفريات التي تباع عن طريق الإنترنت). والشركة التي ربحت مليون دولار أمريكي من عملها عبر الإنترنت باعت معظم منتجاتها في أوروبا، وهي تتوسع حاليا في الولايات المتحدة الأمريكية. تدفع لشركة فينال كوادرانت رسما طفيفا عن كل ليلة تحجز فيها غرفة في فندق أو تذكرة لمرحلة من السفر من خلال الجهاز.
وربما تكون الأعمال الاستشارية مجال التوسع الطبيعي لشركات الخدمات الهندية.
فالشركات القوية التي لها مصانع ومكاتب خارج بلدانها، مثل تاتا، وويبرو، وإنفوسيز للتقنية بدأت في إجراء عمليات استشارية كثيرة كثمرة من ثمرات عمل هذه المصانع والمكاتب. وكل واحدة من هذه الشركات (الثلاث الكبار) شهدت نموا في الدخل السنوي يتراوح ما بين 30% إلى 50% في السنوات الخمس الماضية، وهي نفس الفترة التي شهدت فيها الشركات الغربية ثباتا أو انخفاضا في الدخل.
ومعظم الاستشارات التي تقدمها هذه الشركات تدور حول كيفية تنفيذ الخدمات التي تقدمها هذه الشركات بالفعل على أفضل وجه. لكن الالتزامات طويلة المدى ستضعها في تصادم مع الجيوش الهائلة من أصحاب الأعمال في الشركات الأمريكية الكبيرة لعدة سنوات قادمة.
هذه الأمور تفسر السبب في تزايد إصرار الرأسماليين الأمريكيين المغامرين على أن يحرص كل منهم على عمل يبدأ في السعي إلى الحصول على تمويل للحفاظ على وجوده في الهند. فقد يتكلف إنشاء شركة في الولايات المتحدة الأمريكية ما بين 50 -70 مليون دولار أمريكي، أما لو استعملت الشركة عمالة رخيصة نسبيا من خارج أمريكا فقد يتكلف إنشاؤها في الهند ما بين 12-20 مليون دولار أمريكي.
يمكن أن تتخذ الأعمال الأمريكية - الهندية كل الأشكال الهجينة. فبعضها ولد في الولايات المتحدة الأمريكية، وأنشأ أقساما للبحوث والأعمال الهندسية في الهند. والبعض الآخر ولد في الهند، لكنه وضع المستويات العليا من إدارته التنفيذية في أمريكا. بل إن البعض قد أنشئ في الهند وتقع مقاره بها، مثل شركات تيجاس Tejas وتلسيما Telsima.
***
من التعتيم إلى الفساد
التحديات ما زالت موجودة.. فمع إضافة 600 سيارة جديدة يوميا للسيارات التي تذرع طرقات بنجالور، تفاقمت أزمة المرور. فالرحلة التي طولها خمسة أميال من وسط المدينة حتى مدينة الإلكترونيات، وهي أهم محاور الصناعات التكنولوجية، قد تقطعها السيارة في ساعة. وما زال الطريق السريع الذي كان من المفترض أن يتم في العام الماضي خليطا من المناظر المنفرة وأكوام الأسمنت. والكهرباء همٌّ ملِّح آخر. يحدث في كل مدينة وولاية هندية فاقد في الطاقة الكهربية بشكل يكاد يكون منتظما. وقد تسبب القصور في شبكات توزيع الكهرباء في إحجام الشركات الأجنبية عن بناء مرفق لصنع أشباه الموصلات في البلد. وقد وقع مستثمر من كوريا الجنوبية اتفاقية ابتدائية لإنشاء مسبك للشرائح الرقيقة بجوار حيدر آباد، لكن الكثير من المصادر تشك في أن هذا المشروع سيقطع شوطا كبيرا، بسبب احتياجات المصنع الممتاز من المياه والطاقة.
من ناحية أخرى تشكو شركات الصناعات التكنولوجية أيضا بشكل دائم من نظام الضرائب الهندي. فمن الإيجابيات، أن واجبات الاستيراد الهائلة التي كانت موجودة فيما مضى تخف تدريجيا حتى تكاد تتلاشى، وأن الحكومة قد سنت قوانين تطلب دفع فوائد تعادل التي تقدمها أماكن مثل الصين وتايوان، ومنها قانون يعطي شركات تصدير المنتجات التكنولوجية عشر سنوات سماح تُعفى فيها من ضريبة الدخل.
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2002, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|