قبل أن نسبح في الفضاء النانوتيوب يقود الثورة العلمية الواعدة مليارات الدولارات في انتظار أنابيب الكربون
|
* إعداد: سناء عيسى:
ما الذي حدث لحاضرنا التكنولوجي؟ أين التقدم الموعود؟ أين الحاسبات فائقة السرعة ودقيقة الحجم التي توجد في كل مكان؟ لماذا لم تنفذ تصميمات المنازل التي تعود لحالتها الأصلية بعد الزلازل والأعاصير المدمرة؟ ألا يفترض أن نحجز مقاعدنا في الكبسولات الفضائية لتسبح بنا في أعماق الكون؟ كل هذه المشاعر تدفقت في وجدان أولئك الذين تخيلوا التطورات الكبيرة التي ستظهر بعد اكتشاف أنابيب الكربون الدقيقة التي تعرف ب "نانو تيوب" في العقد الماضي، ثم أصيبوا بالإحباط في العقد الحالي. ولكن لماذا الإحباط، طالما أن الأمر لا يزال في المتناول؟ إذ يستطيع أي شخص أن يكون بحوزته بعض ال "نانو تيوب" nanotube، فمعظم السيارات الأمريكية، وكذلك بعض الأوروبية أيضا تحتوي على بعض أنابيب الكربون الدقيقة، وأيضا الأجهزة الإلكترونية الحديثة ممتلئة بال "نانو تيوب"، ولن يمر وقت طويل حتى يكون ال "نانوتيوب" مصدر الوقود في المعسكرات الخلوية، لقد حدثت الثورة العلمية فعلا، ولكن في غفلة من البشر، ولا يساور أحد الشك في مستقبل أنابيب الكربون الدقيقة، والتي لا يعدو شكلها كونه شعيرات ميكروسكوبية بسيطة، أسطوانية الشكل، تتكون من ذرات الكربون سداسية الشكل، والتي تتشابه إلى حد كبير مع خلايا النحل، ولكنها تشكل أساس أحلام المهندسين.
خواص مميزة
الخواص الكهربية لأنابيب الكربون الدقيقة تفيد في إمكانية إنتاجها في المعادن وأشباه الموصلات، طبقا لطريقة تشكيل ذرات ألواح الكربون، فإذا لففت الكربون كما تلف السيجارة، حيث يتصل طرفا الأنبوب الكربوني، تحصل على "نانو تيوب" موصلة للكهرباء تماما مثل سلك معدني بالغ الدقة، أما إذا التوت الأنبوبة بميل فإنك تحصل على نسخة مصغرة من أشباه الموصلات، والتي يمكن أن تحل محل ترانزستورات السيليكون وهي قاعدة بناء الرقائق الإلكترونية، والأغرب من ذلك أن ال"نانو تيوب" الموصل للكهرباء أفضل من النحاس، مما يجعلها بديلا ملائما في التوصيلات الكهربية الدقيقة داخل رقائق الكمبيوتر، بل وأيضا، تنقل ال"نانو تيوب" الحرارة أفضل من الماس.
والأكثر إثارة في هذا السياق، هو الخواص الميكانيكية لهذه المادة الخفيفة الوزن، فأنابيب الكربون الدقيقة أقوى خمسين مرة من أسلاك الصلب، بينما تصل إلى ربع كثافة الصلب، والعجيب هو أنها مهما تعرضت للكبس، فإنها تنثني وتلتوي دون أن تكسر، وتعود إلى شكلها الأصلي فور السماح لها بذلك، فبعد هذه الخواص الفيزيائية المبهرة، أليس من حق المحللين أن يتخيلوا سيارات بلا خدوش، وسترات واقية للحرائق في سمك الحرير؟
تاريخ عريق
أغرب شيء بخصوص ال"نانو تيوب" هو تاريخها، وليس المبالغات عنها، فبتتبع المراجع العلمية، والجرائد، والمجلات، وحتى الدوريات الأكاديمية يخيل اليك أنها اكتشاف حديث، ولكن الحقيقة أنها معروفة تقريبا منذ قرن من الزمان، فقد حصل عالمان بريطانيان على براءة اختراع من الولايات المتحدة عام 1889 في صناعة أنابيب الكربون الدقيقة، باستخدام غاز الميثان الذي كان معروفاً آنذاك باسم "غاز مارش"، وهي طريقة تشبه إلى حد كبير النظم الصناعية الحالية، ونجحوا في إنتاج أسلاك رفيعة جدا من الكربون في حجم الشعرة، للإضاءة الكهربية، وهذه الشعيرات الكربونية تعود إلى شكلها الأصلي بعد ثنيها ولفها في أشكال متعددة.
لم تكن تلك هي الحالة الوحيدة التي عرف فيها العالم ال"نانو تيوب"، ففي عام1960 ، أنتجت مجموعة بحثية من الشركة القومية للكربون في بارمبا بولاية أوهايو ال"نانو تيوب"، وكذلك مجموعة أخرى من جامعة كانتربوري في مدينة كريستتشرش بنيوزيلاندا في عام 1970، الأسطورة بدأت في عام 1991، عندما قام الباحثون اليابانيون بمعمل الإلكترونيات بمدينة تيسوكوبو اليابانية في شركة "إن إيسي" NEC بقيادة العالم "سوميو ليجيما" بإنتاج ال"نانو تيوب"، وجاء اكتشاف ليجيما ورفاقه بعد سنوات قليلة من مفاجأة اكتشاف شكل جديد لذرة الكربون على هيئة البيضة، وبعد نشر الكتاب المثير لايريك دريكسيلر "ماكينات الإبداع".
الفكرة التي ازدهرت هي النانو تكنولوجي وهي التي تعتمد على صناعة ماكينات متناهية في الصغر، وذلك الحلم العلمي يوفر نظريا حلاً تقنياً لأي مشكلة نتخيلها، فعندما أعلن ليجيما اكتشافه كانت النانو تكنولوجي مرشحة لاقتحام المجال الأكاديمي والحكومي كفكرة تستحق الدراسة، فكان ال"نانو تيوب" هو الحلم العلمي الذي سيغيّر العالم.
أنابيب الكربون المدمجة
مؤسسة واحدة فقط لم تنبهر بأسطورة 1991، هي مؤسسة "هيبريون كاتليست" ومقرها كامبرديج بولاية ماساشوست، ولسبب واحد هو أنها كانت تنتج ال"نانو تيوب" سنويا منذ عام 1983، واليوم 60% من السيارات التي تسير على الطرق الأمريكية تحتوي على مواسير وقود تحتوي على أنابيب الكربون الدقيقة من مؤسسة "هيبريون كاتليست"، فقدرتها العالية على التوصيل الكهربي تمكنها من تبديد أي شحنة كهربية ممكن أن تتولد نتيجة تدفق الوقود، أما إذا كان لديك سيارة رينو كليو أو ميجان، فعندما تدهنها مرة أخرى، ستستخدم ال"نانو تيوب" لجعل الرفارف موصلة للكهرباء، لأنه عندما ترش السيارة بالدهان الاستاتيكي المشحون 20 ألف فولت، فإن الدهان يتجه إلى الأرض بدلا من التطاير، مما يجعل الدهان أعلى كفاءة وأقل تلوثا.
في الوقت الحالي، "هيبريون كاتليست" هي الشركة الوحيدة التي تنتج مئات الأطنان من أنابيب الكربون الدقيقة متعددة الطبقات سنويا، وذلك عبارة عن 10 إلى 12 أسطوانة من الكربون داخل بعضها، طول كل منها 1/100 مليمتر ووزنها نصف جرام، وتبيع "هيبريون كاتليست" ال"نانو تيوب" مدمجة داخل البلاستيك، ولكن هناك شركات أخرى تنتج ال"نانو تيوب" وتبيعه خالصا بالجرام مثل "كاربون نانو تكنولوجيز" بهيوستن و"صن نانو تك" بمدينة نانشنج الصينية.
استخدامات متعددة
مصنعو السيارات ليسوا وحدهم المستفيدين من كفاءة ال"نانو تيوب" في التوصيل الكهربي، فمصنعو الإلكترونيات أيضا لهم نصيب منها، ويتركز استخدامها في جراب حفظ الرقائق وأقراص التخزين المصنوعة من البلاستيك المطعم بال"نانو تيوب" ليبدد أي شحنة كهربية قبل وصولها إلى الرقائق.
بينما تسعد شركات الإلكترونيات باستخدام أنابيب الكربون الدقيقة لتغليف منتجاتها، فإنها ستكون أكثر سعادة حينما تنجح في استخدامها في صناعة الرقائق الإلكترونية، فكل 18 شهرا، يضاعف المهندسون عدد المفاتيح الكهربية (switches) للترانزستورات المكونة من طبقات من أشباه الموصلات والإلكترونات الموصلة داخل رقائق المعالجات، وللاستمرار في هذا الاتجاه، لابد من تكوين ترانزستورات دقيقة من السيليكون، ومن المؤكد خلال سنوات معدودة سنصل إلى حد أن الترانزستورات ستكون صغيرة جدا لدرجة أن الإلكترونات ستخترق طبقاتها العازلة وتؤدي إلى تعطيل عمل الرقائق، لذلك نحن في حاجة إلى ثورة إلكترونية.
أحد مقترحات هذه الثورة الإلكترونية المطلوبة هي ترانزستورات من ال"نانوتيوب" متصلة بأسلاك من ال"نانو تيوب"، وهذا يعتمد على ال"نانو تيوب" أحاديةالسمك(single walled) (مكونة من جدار واحد فقط من الكربون)، والتحدي الرئيسي هو صنعها بسعر معقول.
فلك أن تتخيل أن سعر الجرام من ال"نانو تيوب" يصل إلى 750 دولارا وهو مايعادل 70 مرة ثمن جرام الذهب، السبب الرئيسي لزيادة السعر هو تنقية الأنابيب من الشوائب أثناء عملية الإنتاج.
استخلاص ال"نانو تيوب"
وتعد الطريقة الأساسية لصناعة ال"نانو تيوب" هي تعريض الكربون لأشعة الليزرأو نفخ بخار الهيدروكربون على سطح معدني ساخن، وتكون النتيجة أن ال "نانوتيوب" قد يحتوي على شوائب مثل الرماد المعدني وجزيئات معدنية، ومن الممكن نزع الشوائب الكربونية والمعدنية بغسل "نانو تيوب" في الحمض، إلا أن ذلك يعرض الشكل السداسي (شكل خلية النحل) لجزيئات الكربون للتلف، ومن ثم فقد الخواص الميكانيكية والكهربية المطلوبة، وكان السبق لشركة "اي بي ام" في التخلص من هذه الشوائب، ولكن المعالجات المصنوعة من ال"نانو تيوب" مازالت بعيدة المنال.
و تواجه الاستفادة من خواص ال"نانو تيوب" الميكانيكية بعض الصعوبات، فأطول أنبوبة كربونية أنتجت لم يزد طولها عن 20 سنتيمترا، ووضعها داخل المواد الأخرى مثل الخرسانة أدى إلى نتائج عكسية، وفي الوقت الحالي، فإن ثورة ال"نانو تيوب" لا تزال في مرحلة البلاستيك الممزوج بال"نانو تيوب" متعدد الطبقات (multiwall) منخفض الثمن، وإضافة "نانو تيوب" للبلاستيك يجعله موصلا للكهربية أفضل من النحاس، ويقول ديفيد كارول من جامعة كليمسون في جنوب كارولينا: تتم إضافة ال"نانو تيوب" إلى بعض أنواع البلاستيك الموصل للكهرباء مثل بولي انيلين (polyaniline) مما يجعله أفضل من الموصلات النحاسية، ويمكن استبدال الموصلات النحاسية السميكة في الطائرات بموصلات بلاستيكية خفيفة الوزن مما يؤدي إلى تخفيض استهلاك الوقود.
كفاءة عالية
أكثر مجالات "نانو تيوب" إثارة هو تأثيرها على المواد البلاستيكية المنتجة للجهد الكهربي حال تعرضها لمؤثر خارجي كالضغط أو الحرارة، والمعروفة علميا باسم "بيرو بلاستيك". واكتشف كارول أيضا أن فلوريد البولي فينيلايدين (polyvinylidenefluoride) والمعروف تجاريا باسم بوليمر والمستخدم على نطاق واسع داخل أجهزة الأشعة الصوتية، قد لوحظ تضاعف حساسيته للضغط ثلاث مرات بعد رش "نانو تيوب" على سطحه، والمثير أن كمية ال"نانو تيوب" المطلوبة قليلة جدا وتكفي قطعة واحدة لكل 8000 قطعة بوليمر، ان أحد التفسيرات العلمية للتحسن في خواص "بيزوبلاستيك" الكهربية هو أن "نانو تيوب" تثبت جزيئات البلاستيك التي تفقد هيكلها أثناء إنتاج البلاستيك وتعرضه للسحب والضغط والثني.
وقام كارول وزملاؤه بإضافة "نانو تيوب" إلى الخلايا الشمسية البلاستيكية، ووجد أن كفاءتها زادت 50ألف مرة في تحويل الطاقة الشمسية إلى تيار كهربي عن نظيرتها بدون ال"نانو تيوب". ويحرص الباحثون على صناعة الخلايا الشمسية من البلاستيك لأن البوليمر منخفض الثمن ويمكن إنتاجه بكميات كبيرة، وعندما تسطع أشعة الشمس على ألواح البوليمر، تحرر الإلكترونات والثقوب الموجبة الشحنة لتتوجه إلى الأقطاب الكهربية لتوليد التيار الكهربي.
البعد العالمي
وإلى الآن لم تستطع الشحنات الكهربية المتكونة على سطح البوليمر من أشعة الشمس الحركة من خلال مادة البوليمر، ببساطة لأنها تتجمع مرة أخرى وتولد إضاءة قبل وصولها إلى الأقطاب الكهربية، وبقياس ذلك وجد أن من كل مليون فوتون واحد فقط يولد تيارا كهربيا، ليس هذا فقط ولكن عمره قصير، فبعد ساعتين من تعرضه لأشعة الشمس، يتسلل الأكسجين إليه ويبدد شحنته الكهربية.
ولكن شبكة من "نانو تيوب" على سطح البوليمر تعطي الشحنات الكهربية الطريق إلى الأقطاب الكهربية، ونجح كارول وزملاؤه في رفع كفاءة الخلايا الشمسية من البوليمر إلى 50 ألفاً في المليون بدلا من واحد، مما أطال عمرها وأعطاها جدوى اقتصادية، ومن المعلوم أن الخلايا الشمسية من السيليكون تفوقها بمرات كثيرة، ولكن كارول يتوقع الاهتمام بالخلايا المزودة بال"نانو تيوب" لأنها تستخدم في عمل مجموعات من الخلايا المولدة للتيار الكهربي، ويرى أن الطلب الأساسي لهذه السلعة سيكون من هواة المعسكرات الذين يرغبون في استخدام أدواتهم الكهربية أثناء رحلاتهم الخلوية، ومن المؤكد أن "نانو تيوب" لن تقود كبسولات الفضاء التي تسبح بنا في أعماق هذا الكون الفسيح، ولكن الحقيقة أنها تكنولوجيا قيمتها مليارات الدولارات ولها بُعد عالمي.
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2002, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|