في ظل تغيرات القوى التكنولوجية في العالم أوروبا مركز الاختراعات في الماضي تناضل الآن للمحافظة على موقعها
|
* إعداد : محمد شاهين
غالبا ما ننسى مستقبل أوروبا في خضم التركيز الأمريكي على التنافس مع الصين. لكن قدرة أوروبا على التنافس العالمي في مجال التكنولوجيا كانت من أهم النقاط التي ركزت عليها الدورة السادسة عشرة للمائدة المستديرة السنوية حول التكنولوجيا الأوروبية التي عقدت في الشهر الماضي في أثينا باليونان، حيث استقر القرار على المزج بين الرسائل التي خرج بها هذا التجمع الذي استمر مدة ثلاثة أيام.
عقد الاجتماع في مكان قريب من أطلال أكروبوليس، وكان تذكرة بكيفية صعود وهبوط الثروات الذهنية والتجارية للأمم. ففي السنوات الماضية، قدم علماء التكنولوجيا الأوروبيون للعالم البنسلين، وقدموا الرادار، والأقراص المدمجة، وشبكة الإنترنت العالمية، لكن الكثير من المراقبين يشعرون الآن أن روح الابتكار التي تميزت بها هذه المنطقة من العالم تفقد قوتها.
يقول آليكس فيو، الذي يعتبر القوة المحركة لهذه المائدة المستديرة إنه منذ أن اجتمع مؤتمره للمرة الأولى في عام 1990 (تراجعت أوروبا من حيث الإنتاج والحصول على براءات الاختراع. لقد صار دور أوروبا في الاختراعات ثانويا، بينما كانت تقف على قدم المساواة مع أمريكا على الأقل منذ خمسة عشر عاما). ويعتقد البعض أن أحوال أوروبا قد تسوء عما هي عليه الآن، ففي دورة العام الماضي من المائدة المستديرة، ألمح أحد المستثمرين بلهجة حزينة إلى أنه (في ظرف عشرين عاما، ستصير الصين والهند مقرا لمكاتب ومصانع العالم، بينما ستكون الولايات المتحدة الأمريكية هي مقر الاختراع، أما أوروبا فستنضم إلى العالم الثالث). برز على مسرح المائدة المستديرة هذا العام نيكولاس زينستروم، المستثمر السويدي الذي يبلغ من العمر 39 عاما، وهو أول من أعطى العالم شبكة كازا لتبادل الملفات، ثم أعطاه في وقت أحدث محطة تشغيل الهواتف عن طريق الإنترنت المعروفة باسم سكيب Skype. ومنذ شهر واحد فقط، اشترى موقع التجارة عبر الإنترنت إي باي eBay محطة سكيب Skype بمبلغ 2.6 بليون دولار أمريكي، وهذا نصر وحيد أحرزته حركة أوروبية عمرها عامان.
ومن المفارقات العجيبة أن زينستروم ما زال يتفادى الذهاب إلى الولايات المتحدة الأمريكية بسبب تأخر الفصل في القضايا التي رفعتها صناعة التسجيلات الموسيقية على شبكة كازا.
يقول توم درابر، وهو رأسمالي ممن يغامرون بأموالهم في وادي السيليكون: (لقد كانت سكيب Skype جرس تنبيه للكثير من المستثمرين الأوروبيين، فقد أحسوا فجأة بأنهم أوروبيون وباستطاعتهم فعل هذا! لقد احتفوا بها في شوارع إستونيا). لكن زينستروم لم يكن مشجعا بالفعل إلى هذا الحد. فقد كان ينفق معظم وقته في تعنيف جماعة المستثمرين الأوروبيين المغامرين بأموالهم بسبب تقاعسهم عن دعم محطة سكيب Skype في المقام الأول. والشركة التي قدمت تمويلا أوليا للجهد السويدي الجريء كانت شركة أمريكية. أما الأوروبيون فقد ترددوا في الاستثمار في شيء متطرف مثل رؤية زينستروم (أنه في ظرف سنوات معدودة سيعتقد الناس أن دفع مقابل لإجراء مكالمة تليفونية أمر غريب).
ويقول بول دينينجر، رئيس شركة جيفريز برودفيو الأمريكية للاستثمارات البنكية: (الثقافة الأوروبية عموما تنفر من المخاطر.. إنها لا تنفر منها بالدرجة التي ينفر بها اليابانيون، لكن الأوروبيون لا يرحبون بالفشل، بل يتحملونه على مضض). (وعلى العكس، يوجد رأسماليون مغامرون في وادي السيليكون يفضلون التعامل مع المستثمرين ذوي التجارب السابقة الفاشلة باعتبارهم أصحاب خبرة تعلموا منها). ويضيف ديننجر: (الناس في الولايات المتحدة الأمريكية يرغبون في أن يشب أبناؤهم ليصيروا على شاكلة بيل جيتس. أما في فرنسا، فيرغب الناس في أن يصير أبناؤهم وزراء مالية، وهم يدربونهم بشكل يعدهم لهذا).
والحقيقة أن هذا الاتجاه الاجتماعي يؤثر في طريقة التعامل مع الأعمال الوليدة في مجال التكنولوجيا.
يقول فيو: (هناك بلدان ترى أن التجديد جزء مهم في نسيجها.. أما أوروبا فترى أن نسيجها يتكون من التقاليد وطراز الحياة. فقد تشاهد في فيلم من أفلام هوليود مثلاً شخصا يتجه إلى جهاز الكمبيوتر ليبحث عن معلومات على الإنترنت. أما في الأفلام الأوروبية فتجد دائماً مشاهد عظيمة تمثل موائد الطعام).
ويضيف ديننجر: (نلاحظ لدى الثقافات التي تهتم بالاستثمار وتعول عليه مثل كوريا، أو الصين، أن اتجاه التفكير في الاستثمارات يضعه في مرتبة الشؤون السياسية المهمة في الدولة مثلها مثل كافة السياسات الأخرى التي تنتهجها الدولة).
من ناحية أخرى فإننا نلحظ في الفترة الأخيرة ظاهرة عودة الصينيين والهنود الذين تعلموا في الولايات المتحدة الأمريكية إلى أوطانهم لأن فيها فرصاً لهم أكثر مما في أمريكا. تلك الظاهرة التي انتشرت إلى حد بدا يُقلق عدداً من أساطين التكنولوجيا في العالم وعلى رأسهم عدد من رؤساء شركات التقنية العالمية المعروفة.
أمريكا لا ترى أوروبا ذلك المنافس القوي
إن كثيرا من الأوروبيين لا يهتمون كثيراً بأوضاعهم وموضعهم من الخارطة المستقبلية للعالم.
فعلى العكس من وجود الكثير من المميزات في الولايات المتحدة، مثل أفضل الأسواق الرأسمالية، وأفضل الأنظمة التعليمية. هذا بالإضافة إلى الثقافة المفتوحة التي ترحب بالاستثمارات الجديدة.. إلا أن الأمريكيين مرعوبون إلى حد كبير من التقدم الهائل والملحوظ في كل من الصين والهند.
ولا يزال في أوروبا - لا سيما أوروبا (القديمة) - ذلك التوتر الأصلي بين مدخلها المهذب إلى قوانين العمل، التي تضمن أسابيع عمل قصيرة وحماية واسعة للعمال، وبين واقع تنافسها مع نظم اقتصادية أكثر اعتماداً على السوق (أو قد يقول البعض تنافسها مع نظم اقتصادية أشد قسوة).
وممن حضروا المائدة المستديرة أيضاً رودي بيرجر، الذي سبق أن عمل مديراً تنفيذياً لشركات أوروبية وأمريكية، والذي يساعد الآن الشركات الأوروبية على إنشاء مناطق لها في السوق الأمريكي المنافس، ويقول: لا بد للأوربيين من إعادة النظر في إجازتهم التي تمتد إلى ستة أسابيع، فهم بحاجة للتسابق مع العالم بنفس سرعته، طالما لا يعتقدون أنهم أذكى من بقية العالم.
اتحاد الأوروبيين لا يساوي شيئاً
ومن القضايا الأخرى التي تواجه أوروبا، أنها برغم توحيد عملتها وفتح الحدود بين بلدانها ما زالت مجموعة من الدول المتفرقة أكثر منها سوقا واحدة كبيرة للتكنولوجيا.
في الوقت الحالي، تعد أمريكا هي أكبر أسواق العالم لمنتجات التكنولوجيا، إلا أن الصين من المتوقع أن تأخذ منها هذا الدور في يوم من الأيام. يقول برجر: (يمكنك أن تنشئ وتنمي شركة كبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية.. قبل أن تحاول نقلها للخارج. لكن السوق الأوروبية مفتتة.
وإذا أخذنا أيرلندا مثالا، سنجد فيها الكثير من المستثمرين الأذكياء النشطين بدرجة كبيرة، لكن إجمالي عدد سكانها 3.5 مليون نسمة. فلو بدأت في إنشاء شركة هناك لا بد أن تفكر في أن تتعامل مع بقية العالم منذ اليوم الأول، وهذا يضيف إلى أعبائك تحديات كبيرة.
وقد قال عدد ممن حضروا المائدة المستديرة إن الفرص الحقيقية أمام المستثمرين قد تكمن في أوروبا (الجديدة).
ويقول راؤول بايبر، رئيس هيئة فافونياس فينشارز، وهي شركة أوروبية تخاطر في مجال الاستثمارات الرأسمالية: إن بلدان أوروبا الشرقية هي أكبر الفرص المتاحة أمام أوروبا، فهي بلدان تطمح للتغيير، وليس من الواضح ما إذا كانت بقية أوروبا تفكر بنفس الطريقة.
هذه البلدان تنقصها الآن بنية أساسية مالية منظمة وقواعد تشغيل واضحة، ولكن يبقى سؤال كبير: ما هي ملامح هذه القواعد التشغيلية في التجربة الصينية حيث تندفع الشركات للاستثمار؟.
الأوروبيون منشقون بين شرقية وغربية
على صعيد آخر نلاحظ أن هناك مشكلة كبيرة تؤدي لا محالة إلى ضعف القارة الأوروبية من الناحية التنافسية.
تكمن هذه المشكلة في انقسام القارة فكرياً وسياسياً إلى قسمين: أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية. ويكمن سبب هذا الانقسام في أن دول غرب أوروبا تعتبر متقدمة إلى حد كبير عن دول أوروبا الشرقية. ففي دول غرب أوروبا نجد مناهج ممتازة حقا لتدريس الرياضيات والعلوم الهندسية التي تسمح بإيجاد عقول متمرسة ومبدعة، ولديها قدرة على التطوير. ففي بدايات التسعينيات من القرن العشرين، أتت الكثير من أشرس فيروسات الكمبيوتر من الكتلة السوفييتية، حيث يوجد لدى الأطفال الكثير من الأحقاد والكثير من خبرة كتابة برمجيات عالية الكفاءة لأجهزة الكمبيوتر التي عفا عليها الزمن التي يمتلكونها.
يقول برجر: (لذلك يشب الكثير من أطفال أوروبا الشرقية وهم متعطشون إلى مستقبل مهني جيد، مقارنة بأطفال الولايات المتحدة الأمريكية.. فبولندا مثلا بلد واعد جدا، فبينما تنظر إليها أوروبا الغربية باعتبارها مصدر تهديد لصناعتها، إلا أنها لا تقدرها حق قدرها مصدرا للاختراعات الجديدة.
فعلينا ألا نندهش إذا ما ظهر جوجل القادم من هناك.
وبشكل عام فإن كثيراً من الاختراعات والابتكارات الجديدة ما زالت تأتي إلينا من أوروبا. فما زالت هناك طاقات تبدع في هذا المجال تحت المظلة الأوروبية. ولكن المشكلة التي تواجه هذه القارة بقسميها، أو لنقل العائق الكبير هو عدم محاولة التوحيد بحق فيما بين الدول الأوروبية. فلا أجد معنى مثلاً في أن تنظر الدول الأوروبية الغربية بعين الحقد مثلاً لإحدى دول القسم الشرقي كما هو الحال مع هولندا.
وكان يجب على الاتحاد الأوروبي بدلاً من ذلك بذل المحاولات لصهر المجهودات الداخلية والتغلب على روح التنافس الداخلية من أجل إيجاد القدرة التنافسية الخارجية ولكي يمكنها التصدي للمنافسين الخارجيين مثل الولايات المتحدة من جهة، والعملاق الصيني من جهة أخرى.
الصين والنجاح التكنولوجي المبهر
إن من المبهر والمخيف في نفس الوقت بالنسبة لدول العالم الكبرى أن نعرف حقيقة صغيرة وهي أن محاولات إنشاء وادي السيليكون الأوروبي قد بدأت منذ ما يقرب من 25 عاماًَ مضت.
وقد امتدت هذه المحاولات على طول المدن والدول الأوروبية من سنغافورة وحتى الجنوب الفرنسي.. لكن هذه المحاولات قد باءت بالفشل أو لنقل أن المجهودات لم تُثمر حتى هذ الوقت ولم تحمل الروح الرائعة للوادي الأصلي.
وفي المقابل نجد أن الصين قد شارفت على الانتهاء من إنشاء وادي السيليكون الخاص بها في منطقة زونج جوانكون، بل وربما يكون الصينيون قد توصلوا للوصفة الصحيحة لإنشاء مثل هذا الوادي.
(زونج جوانكون) ووصفة نجاح تكنولوجي لأوروبا
قد لا يسهل على اللسان الأوروبي نطق كلمة (زونج جوانكون)، لكنها سرعان ما ستنتشر، حتى أن المستثمرين في مجال التكنولوجيا لا بد أن يتعلموها.
وتقع مقاطعة زونج جوانكون في شمال غرب بكين، وهي منطقة متربة لا تبعد كثيرا عن القصر الصيفي للإمبراطور الصيني القديم. وتوجد بالفعل في هذه المنطقة آلاف من شركات التكنولوجيا المتقدمة، تتبعها مصانع محلية كبيرة وصغيرة، بالإضافة إلى فروع لشركات عالمية بدءا من مايكروسوفت وصن مايكروسيستيمز وحتى سيمنز وإن إي سي.
لكن في الوقت الحالي ترتفع في هذه المنطقة مبان جديدة مصقولة حول جامعة تسينج هوا ذات الصيت، ينتظر أن تتكون منها نواة لتكنولوجية عالمية رفيعة المستوى. في مقابلة أجريت في بكين، الشهر الماضي، مع مينج ميي، الأستاذ بجامعة تسينج هوا والمدير الإداري لمجمع تسينج هواه العلمي المعروف باسم تسينج هواه ساينس بارك شرح مينج أن مرافق المجمع العلمي ليست مخصصة لإجراء الأبحاث فقط، فجامعة تسينج هواة تنشئ بنية أساسية لدعم مجال الأعمال العلمية بأكملها، بدءاً من إعداد رأس المال اللازم للمغامرات التجارية في هذه الأعمال حتى إدارة الممتلكات، مرورا بالخدمات القانونية، بل إن هناك مجموعات لدعم المستثمرين. يقول مينج: (نحتاج إلى ثقافة تمنح للشركات الصغيرة الثقة اللازمة لنجاحها). هذه البنية الأساسية التي توضع في خدمة المستثمرين جزء من الخلطة السرية لوادي السيليكون طبعا، فبإمكانها أن ترتقي بعمل المستثمر في ظرف أسبوع واحد من الطرق البدائية في العمل إلى الوسائل المتقدمة والخطط الصحية.
الجزء الآخر الذي يدخل في تركيب هذه الخلطة السرية هو مؤسسة أكاديمية قوية. يزعم أن جامعة تسينج هواه أكثر الجامعات الصينية تمتعا بالصيت الحسن، فجامعة تسينج هواه لا تقبل إلا ألفي طالب من بين 7 ملايين طالب صيني يلتحقون بالجامعات سنويا.
وبينما تشتهر جامعة تسينج هواه - كجامعة ستانفورد - بامتياز أقسام العلوم والهندسة بها، ففيها أيضا أعلى كليات إدارة الأعمال مستوى. وجامعة تسينج هواه، مثلها بالضبط مثل جامعة ستانفورد، تسمح لأساتذتها وطلبتها بإنشاء شركاتهم الخاصة، بل تشجعهم على ذلك.. لكن جامعة تسينج هواه تتفوق على وادي السيليكون بالبدء بميزة قوية، هي أنها تضم (السلحفاة المائية)، وهو اسم الشهرة للمواطن الصيني الذي يتعلم في الولايات المتحدة الأمريكية ويعود ليفتتح شركته في الصين.
يقول أحمد بهي، وهو من كبار أخصائيي التكنولوجيا بمؤسسة ناشونال سميكونداكتور وأستاذ بجامعتي ستانفورد وبيركلي: (التحق بصفوفي حديثا بعض الطلبة الصينيين الممتازين، وقد وفرت لهم وظائف بمؤسسة ناشونال، لكنهم يريدون العودة إلى وطنهم).
أحد أسباب هذا أن إنشاء شركة في الصين أرخص بكثير من إنشاء شركة في وادي السيليكون.
ولنأخذ مثالاً على ما يسمى بالسلاحف المائية الصينية وهو الطالب تشارلز زانج، فقد تخرج من معهد ماساشوستش للتكنولوجيا في عام 1994، ثم عاد إلى الصين ليفتتح شركة سوهو دوت كوم Sohu. com ببضع من مئات الآلاف من الدولارات.
ويشرح زانج ببساطة كيف رحل من وادي السيليكون الأمريكي ويقول: (المهندسون الصينيون يعملون هناك أكثر من غيرهم مقابل أجر أقل).
هنا، يمكن أن يتذكر المتشائمون أنه قد سبق إثارة مخاوف مشابهة في ثمانينيات القرن العشرين من المنافسين العالميين الجدد، حين بدت علامات تبشر بأن اليابان ستمسك بزمام التكنولوجيا في العالم بشكل لا يبارى.
أنشأت اليابان الكثير من المجمعات العلمية، بل إنها استوردت أمريكيين لتدريس وسائل إنشاء واد للسيليكون.
ونشرت الصحافة الأمريكية تحذيرات شديدة اللهجة عن مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية في تملك زمام التكنولوجيا، لكن اليابان لم تصبح أبدا من مبتكري التكنولوجيا العالميين. فما هو الجديد إذن في هذه المبادرة الصينية الجديدة؟.
يقول جو شويندورف، أحد الرأسماليين الذين غامروا لفترة طويلة بالعمل في وادي السيليكون أن الفرق الأول هو ببساطة (أن الصينيين مستثمرون بالسليقة).
وحتى في ثمانينيات القرن العشرين، حين كانت الاستثمارات الخاصة لا تحظى باعتراف دائم بها، كانت الروح الاستثمارية تسود جميع أنحاء الصين.
ورغم عدم اتضاح المسموح به، ظهرت أسراب صغار الباعة، الذين افتتحوا أسواقا صغيرة مكونة من الأكشاك الخشبية تحت سمع وبصر الحرس الأحمر المدجج بالسلاح.
لا يمكن الآن إيقاف مد الاستثمارات الصينية
كنت أسير في الشهر الماضي بجوار عمارة سكنية في بكين، أتفرج على معدات الشواء الحديدية المقامة على عتبات نوافذ الطابق الأرضي، لكن عتبة إحدى النوافذ كانت مغطاة بالكامل بفتحة مربعة صغيرة.
وحين نظرت من هذه الفتحة، أطلّ عليّ وجه صيني لفحته التقلبات الجوية، أمام رف صغير رصت عليه زجاجات الصودا، وعلب الكبريت، وقطع الصابون. لقد أحسنت صاحبة هذه الشقة تحويل نافذتها التي لا تزيد على ثلاثة أقدام في قدمين إلى متجر خاص صغير. وهناك فارق بارز آخر بين اليابان والصين، هو نجاح الصينيين في تعلم اللغة الإنجليزية.
من الألغاز الخالدة عن اليابان، لماذا لا يتحدث إلا قليل جدا من اليابانيين الذين لم يدرسوا خارج اليابان اللغة الإنجليزية، رغم أن الدستور الياباني الذي وضع بعد الحرب يحتم تدريس الإنجليزية لجميع اليابانيين. وعلى العكس، يتحدث الكثير من الصينيين الذين لم يغادروا أوطانهم أبدا اللغة الإنجليزية على نحو ممتاز. الحق إنه وسواس قومي.
ففي زيارتي السابقة للصين، وصلت في نهاية المسابقة السنوية الثانية للمتحدثين بالإنجليزية، وهو مناسبة قومية، يتنافس فيها 6 ملايين طالب وطالبة للوصول إلى الدورة النهائية في برنامج تليفزيوني يعرض في وقت ممتاز ويختص باختيار أفضل متحدث باللغة الإنجليزية في الصين. لكن الدافع لتعلم اللغة الإنجليزية ليس مجرد الثرثرة مع الأمريكيين، بل لأن اللغة الإنجليزية هي لغة التجارة والأعمال على مستوى العالم الآن.
كما أن مسار سجل الابتكار الياباني يبدو قزما إلى جوار نظيره الصيني.. ويشرح كتاب (عبقري الصين) الذي ألفه روبرت تيمبلتون بالتفصيل أن الصين قد سبقت أوروبا بعدة قرون في مجال الاختراعات، التي تتراوح ما بين العربة التي تدفع باليد، والحديد الزهر إلى الكبريت، والورق والصواريخ.
لقد أنشأ علماء الفيزياء الصينيون مفاعلا ذريا في عام 1958، وصنعوا قنبلة ذرية في عام 1964، وقذائف بعيدة المدى في عام 1966، وأطلقوا قمرا صناعيا في عام 1970م. وقد تضاعف إنفاق الصينيين على الأبحاث وتطوير الاختراعات ثلاثة أضعاف ما بين أعوام 1991-2001، وما زال هذا الرقم في تصاعد. وتضع الصين أكبر استثماراتها في مجالات مهمة مثل تصميم الشرائح المتطورة، والتكنولوجيا الحيوية (البيوتكنولوجي)، وتكنولوجيا الأجسام متناهية الدقة (النانو تكنولوجي). وأخيرا، يوجد لدى الصين عنصر لا تباريها فيه إلا قليل من البلدان، ألا وهو سوق محلي كبير يمكنه أن يوجد حقا معاييره التكنولوجية الخاصة، ويرسخ أقدامها.
جرى العرف على أن أوروبا واليابان والولايات المتحدة الأمريكية هي الدول التي تضع دائما المعايير التكنولوجية، ككيفية إذاعة الإشارات الخاصة بالبث التليفزيوني أو الهواتف النقالة، أو صيغ اسطوانات السي دي والدي في دي. لكن الصين تطور الآن معاييرها التكنولوجية الخاصة، كالفيديو الرقمي والجيل التالي من الهواتف النقالة.
وعلى المصنعين الأجانب أن يتبنوا هذه المعايير إذا ما أرادوا أن يبيعوا منتجاتهم للصينيين. وستتحول أحد هذه المعايير التي طورت محليا إلى معيار عالمي، عاجلا أم آجلا، ما سيزيد من تقوية مركز الشركات الصينية. ليس سهلا أن يقضي المرء وقتا طويلا بين المستثمرين المتحمسين في زونج جوانكون وتسينج هواه دون أن ينتابه القلق على المستوى الذي ستصل إليه الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات المقبلة. فبينما تتناقص أعداد الخريجين الأمريكيين من أقسام العلوم والهندسة، تتصاعد أعدادهم بسرعة في الصين عاما بعد عام. يتخرج في الجامعات الصينية بالفعل من مهندسي الكهرباء المتحدثين الإنجليزية أكثر مما يتخرج منهم في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الشهر الماضي، احتلت الولايات المتحدة الأمريكية المرتبة السابعة عشرة في المسابقة الدولية السنوية التي تجري بين الكليات الجامعية في مجال البرمجة، بينما احتل فريق من جامعة شنغهاي المرتبة الأولى.
وما زالت الدرجات التي تحققها المدارس الإعدادية الأمريكية في الرياضيات والعلوم أقل بكثير مما تحققه البلدان المتقدمة الأخرى، بينما ما زالت مجالس إدارة هذه المدارس تجادل في كيفية تدريس نظرية النشوء والارتقاء. يمكن أن يقدم المتفائلون حججا مضادة لهذه الإحصائيات المقلقة، تتراوح ما بين الطبيعة التعددية لنظام التعليم الأمريكي إلى التطرف في التأكيد على أن البلدان النامية تراهن على مناسبات مثل المسابقات الدولية للبرمجة.
لكن تظل الحقيقة أن الصين توشك أن تشكل تحديا شديدا لما تزعمه أمريكا من أنها ستظل دائما أول مخترعي التكنولوجيا في العالم.
فمنذ عشرين عاما فقط أتى الآسيويون إلى الولايات المتحدة الأمريكية ليروا المستقبل. والآن، على المرء أن يزور آسيا ليرى مستقبل تقنيات مثل موجات الاتصال السريعة أو اللاسلكية.. ومن الصعب ألا يتساءل المرء عن كنه ما سيلي ذلك.
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2002, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|