الخط العربي بأنواعه المختلفة وبجمالياته الفريدة واحد من وجوه حضارة لغة الضاد العظيمة التي شرَّفها الله تعالى بحمل كتابه المبين وهدي نبيه الهادي الأمين للإنسانية جمعاء. وكان وما زال الخط العربي مثار إعجاب ودهشة للكثيرين حتى من غير العرب والمسلمين ممن استهواهم الحرف العربي بسحره وروعته وتناسقه مع ما قبله وما بعده من حروف.
واليوم طالت تكنولوجيا الحاسب الآلي هذا الفن الرفيع مثل ما طالت غيره من جوانب الفنون الإنسانية الأخرى وأصبح بوسع أي شخص الآن باستخدام برامج معينة الحصول على وثيقته المراد كتابتها من الطابعة الملحقة بجهاز الحاسوب، مكتوبة بأجمل الخطوط ومن ضمنها تلك الخطوط الزخرفية التي لا يجيدها إلا الموهوبون من الخطاطين.
هذه الخدمة التي يسديها الحاسوب للخط العربي موضع ريبة وشك من قبل الخطاطين اليدويين والتساؤل المشروع هنا هو: (هل خدم الحاسوب الخط العربي أم شوهه؟).
توجهنا بهذا السؤال لبعض من الخطاطين والمهتمين والذين لديهم معرفة ببرمجيات الحاسوب في مجال الخط العربي، فإلى رؤاهم في هذا الصدد:
بداية يرى الدكتور عبد الرحمن المنتشري، عضو هيئة التدريس بقسم اللغة العربية بكلية المعلمين بالطائف وهو خطاط ومن المتعاملين مع البرامج الحاسوبية أن الحاسوب يسيء للخط العربي ويحد من اكتشاف جمالياته ويقول:
(الحرف العربي منشأ الكلمة الكتابي ومنظومة الكلمات تشكل اللغة, واللغة هي أداة التفكير والتعبير وبين هذا وذاك تقع حرية الاختيار والممارسة.
فالحرف الطباعي يعطي هامشا من حرية الاختيار ويحجب كليا حرية الممارسة والتطبيق التي يترتب عليها اكتشاف جماليات وإمكانيات الحرف. وهذا بالطبع يؤدي إلى عزلة كبيرة بين شعوب الوطن العربي وبين متعة وحلاوة ممارسة كتابة لغتهم التي تعمق في نفوسهم مفهوم الارتباط وقيمة الاحترام للغة أداة تفكيرهم والتي يترتب عليه إغداقها عليهم بمكنوناتها الفكرية والثقافية والإبداعية).
ويرى المنتشري أن تطويع الحرف العربي للمعالجة الحاسوبية هو استلاب لجمال الخط العربي ويقول:
(إن تطبيع الحرف العربي ووضعه في قوالب ميكانيكية جامدة كي يواكب تقنيات الحاسوب لهو نوع آخر من أنواع الاستلاب الجمالي للخط العربي ليصبح رقما حسابيا ونسخا مشوها من الحرف اللاتيني المنفرد في تركيبه للكلمات؛ بينما نجد الحرف العربي يتميز في تراكيبه المتصلة كما له إمكانية التداخل بين الكلمات والجمل والمد والحسر بإمكانات لا حدود لها. فالحرف هو أساس اللغة كما أسلفت الإشارة إليه ومن هنا تأتي الخطورة فإذا ما ذوب الحرف العربي في الحرف اللاتيني طمست شخصيته وهدمت اللغة وبالتالي مس تفكير الأمة ومعتقداتها وثقافتها وهويتها، وبذلك يسهل اختراقها وتطبيعها، وبذا تصبح الكلمة الوافدة الموحية ذات الدلالات التي تعمل على طمس الهوية أمرا ميسورا وعاديا وغير ملفت.
والشواهد على ذلك كثيرة انظر إلى مسميات محالنا التجارية وإلى اللافتات والقنوات الفضائية تجد الكثير مما سبقت الإشارة إليه شكلا ومضمونا).
تأثير سلبي وإيجابي
الخطاط عبد الحق قاري تركستاني، مشرف الخط العربي بمركز الموهوبين بتعليم الطائف وعضو لجنة الخط العربي بفرع جمعية الثقافة والفنون بالطائف، عرض رؤيته بشيء من التفصيل ويرى أن الحاسوب أثر سلبا على مستويات عدة على الخط العربي ويقول: (ليس بخافٍ على أحد ما للحاسب الآلي من تأثير على الكثير من مجريات الحياة إن لم تكن جميعها, وذلك بسبب الانتشار الكبير له، وقد طال ذلك التأثير الخط العربي الذي يُعد من الفنون الإسلامية الرفيعة التي اهتم بها المسلمون ولأنه أساس الكتابة وأداتها كان من أساسيات الحاسب الآلي منذ ابتكاره، وقد تطور حاسوبيا كما تطور يدويا من قبل، والسؤال هل هذا التطور كان لصالحه أم ضده؟ في رأيي: أن هذا التطور قد أثّر سلبا في الخط العربي من عدة نواحٍ (اجتماعية ونفسية وفنية)، وإيجاباً في بعض النواحي التي سنأتي على ذكرها.
فمن الناحية الاجتماعية لم يعد هناك أي اهتمام بالخط العربي كما كان سابقاً، فقد اعتمد الكتاب وكل من له صلة بالكتابة على الحاسب الآلي في كتاباتهم الأمر الذي أدى إلى قرب اندثار هذا الفن، كما أن خطوط معظمهم قد ساءت بسبب عدم الكتابة يدوياً، أما من الناحية النفسية فقد أصبحت الكتابة -مع كونها جميلة ومرتبة- مجرد أحرف مصفوفة بشكل إلكتروني آلي، بالإضافة إلى أنها جامدة لا روح فيها ولا إبداع لأن كل حرف هو عبارة عن نسخة مكررة من سابقة أو لاحقة لأنه أُدخل برمجياً في الحاسب على هذا الأساس وبشكل واحد، وأصبح مملاً للنظر.
ومن الناحية الفنية فالتأثير السلبي كان كبيرا حيث ظهرت خطوط كثيرة ومتنوعة بغرض التنويع والإبداع ولكنها ظلت تحت سيطرة الآلة التي تتعامل بالأوامر دون إحساس وأُخضعت لمجموعة من الأوامر والأشكال المحددة التي لا يمكن أن تتعداها أو تخرج عنها بشكل جديد حسب ما تقتضيه الكلمة أو معناها وتأثيره في النفس البشرية، وحتى الخطوط العربية المعروفة كالنسخ والرقعة والديواني والفارسي وغيرها من الخطوط التي أُدخلت في الحاسب وتمت برمجتها لم تسلم من ذلك الإجبار والإخضاع لما تريده الآلة وليس لما يريده الكاتب أو الخطاط.
فمثلاً خط الديواني الجميل الموسيقي والذي يسمى لدى البعض بخط (الدلع) قد فقد موسيقاه وأصبح حاسوبياً مجرد أشكال جامدة خالية من روح الكاتب أو الخطاط الذي أبدعه ووضع قواعده وميزان حروفه وطوره مَن بعده من الخطاطين، بالإضافة إلى بعض التأثيرات الفنية الدقيقة كوضع النقط في الحروف الممدودة والتشكيل والمُدود والحروف المرتفعة والحروف النازلة والحِلْيات قد انعدم التحكم فيها بسبب الآلية والبرمجة السابقة الذكر). ويستطرد قاري قائلا: (وهكذا الحال بالنسبة لبقية الخطوط الأخرى التي لم يبق منها حاسوبياً سوى شكل الحرف واسم الخط، وقد يستثنى من هذا التعميم في بعض نقاطه (الخط الكوفي) في بعض أنواعه لاعتماده أساساً على الخط المستقيم والخط المنحني ولأنه يكتب أو بمعنى أصح يرسم بالأدوات الهندسية).
قاري لا ينكر أن للحاسوب جوانب إيجابية محدودة على الخط العربي يوجزها بقوله: (أما التأثير الإيجابي المحدود فيظهر في بعض الجوانب التي اقتضتها ضرورة الحياة العصرية ومتطلبات عصر السرعة، فمن ذلك مثلاً الرغبة في تنفيذ بعض الأعمال الكتابية بشكل سريع ومتكرر في بعض الأحيان وكثرة التعديل أحياناً، وفقدان الكثيرين لملكة الكتابة والتحرير من المرة الأولى، كما أن الأعمال الخطية لم تعد كالسابق في استخداماتها، ولتوضيح ذلك سنأخذ على سبيل المثال لوحات المحلات التجارية أو لوحات الإعلانات لأنه لا توجد أعمال خطية من أجل الخط كفن في هذه الأيام إلا نادراً غير تلك اللوحات، ولرغبة أصحاب المحال التجارية في عرض أنشطتهم بشكل لافت وعصري للمستهلك وبمقاسات كبيرة تحتوي في معظمها على صور جذابة لمنتجاتهم ومعروضاتهم، ولحرصهم على الكم لا الكيف كانت الحاجة إلى تنفيذ تلك الأعمال حاسوبيا لسهولة العمل وسرعة إنجازه وإنتاجه بالصورة السابقة الذكر، وصعوبة تنفيذه يدوياً، أو لأن تنفيذه يدوياً يكلف مادياً أضعاف ما يكلف تنفيذه إلكترونياً، وأيضاً لندرة القادرين على تنفيذه بالشكل المطلوب ومحاكاة إمكانيات الحاسب الآلي، مع أنه بالإمكان الجمع بين الخط اليدوي وميزات الحاسب الآلي وذلك باستخدام ملحقاته كالماسح الضوئي، ولكن لقلة المجيدين للخط العربي على أصوله تعذر ذلك إلا في بعض الأعمال).
برنامج حاسوبي واحد
يرى الأستاذ قاري جودته وتميزه في هذا الصدد وهو برنامج (كلك) ويقول عنه: (من إيجابيات الحاسوب في الخط العربي ظهور برنامج حاسوبي وهو الوحيد على حد علمي الذي ساعد الخط العربي بشكل غير مباشر، وساعد الخطاطين بشكل مباشر في الكتابة بالخط العربي على قواعده وميزان حروفه، ألا وهو برنامج (كلك 2000) KELk 2000 الذي اختص بخط الثلث وخط النسخ وخط النستعليق والشكستة والتحريري (من أنواع الخط الفارسي).
وسبب تلك الإيجابية كونه يختلف في برمجته عن بقية الخطوط، فهو يتيح لمستخدمه التحكم في شكل الحرف ومكانه ووضعه وكذا التشكيل والمدود والحليات وتغيير شكل الحرف حسبما يتطلبه وضع العبارة المراد كتابتها، ولأن خط الثلث هو سيد الخطوط العربية وتصعب كتابته بشكل صحيح على الكثيرين من أهل الخط لدقة ميزان حروفه واعتماد الكتابة به على التراكيب الخطية، ساهم هذا البرنامج كثيراً في الكتابة بهذا الخط البديع مع المحافظة على جمالياته وقواعده، ونتائجه لا تختلف كثيراً عن الكتابة اليدوية بل إنها تطابقها في أغلب الأحيان لأنه في الأصل خط يدوي سليم وعلى ميزان الحروف الصحيحة والأصلية.
ويحمل قاري بعض مستخدمي ذلك البرنامج وزر تشويه الخط ويقول: (إلا أن المحزن في الموضوع أن هذا الخط العظيم قد أصابه بعض التشويه أيضا، ليس بسبب البرنامج وإنما بسبب مستخدميه غير الخبيرين بخطوطه وبأصولها وقواعدها، فهم مجرد مطبقون للبرنامج أو مصممون وليسوا خطاطين محترفين للخط العربي).
الخلاصة التي يراها قاري في هذه القضية يوجزها في نهاية عرضه بقوله: مما سبق يمكن القول: كما أنه لا يمكن الاستغناء عن الحاسب الآلي في الوقت الحاضر، فإنه أيضاً لا يمكن الاستغناء عن الكتابة اليدوية وتحسين الخط وتعلم الخط العربي واستخدامه والتشجيع على نشره والكتابة به. والحاسب الآلي مهما بلغت إمكاناته في التطور، فلن ترقى إلى جودة وجمال وذوق الخط اليدوي إلا إذا تمت برمجة الخطوط بنفس طريقة برنامج الكلك وتعلم مستخدموها قواعد وأصول الخط العربي ويختم الخطاط قاري بالقول: يبقى الخط العربي فناً يعبر عن حس وذوق كاتبه، ويبقى الحاسب الآلي مجرد آلة دون روح أو حس.
الحاسوب أسرع ولكن..!
الأستاذ محمد مشبب الشهراني الحائز على عدة شهادات وجوائز دولية في الخط العربي ومدرس بإحدى المدارس الثانوية بالرياض يرى أن للحاسوب تأثيرا سلبيا على الخط العربي ويقول: (في العصر الحديث قل الاهتمام بالخط العربي لوجود المطابع، ولوجود خطوط الحاسب الآلي، بل إنَّ الحاسب الآلي أسرع إنجازا، ولم تعد هناك من حاجة إلى يد الخطاط إلا لكتابة المصحف الشريف، أو كتابة عناوين المؤلفات القيمة. وهذا تأثير سلبي واضح، أدى إلى قلة حرص الناس على تعلم الخط العربي وتجويده، فسوف نستخدم الحاسب الآلي في الكتابات الرسمية والمؤلفات بدلا من الخطاط، وسوف نستخدمه في اللوحات المدرسية والإعلانية بدلا منه كذلك، وهذا يفسر لنا قلة معاهد تحسين الخطوط في وقتنا الحاضر. أما من حيث الجودة والجمال فإنَّ مهارة الإنسان بيده تفوق مهارة الآلة، لأنَّ الخطاط يسحر الناس بجمال خطه، ويستوقف الأبصار بذوقه وإبداعه، فهو كالإعجاز البشري، حيث يقف الناظر مصدقًا ومكذبًا أن يرى هذا الخط الجميل الرائع من يد الإنسان، بخلاف الطباعة بواسطة الحاسب الآلي حيث يدرك أنَّ بإمكانه أن يأتي بأجمل منها، طالما أنه الأفضل في استخدام هذه الآلة).
تعطيل للابداع
الأديبة الأستاذة منى شداد المالكي المشرفة التربوية بتعليم الطائف ترى أن الحاسوب أثر سلبا على الخط العربي فمعظم ما يكتب وينشر حاليا يتم من خلاله، والمدير في أي دائرة حكومية يفضل الكتابة عبر الحاسوب وفي هذا تعطيل للطاقات الإبداعية في هذا المضمار. والمسئول يتأثر بتأثير الجهاز وحتى من يقدر له القيام بالبحث فقد لا يكتب بيديه شيئا الآن فالجمع للمادة المطلوبة يتم من خلال الجهاز وعبر النسخ واللصق ولا مجال للكتابة اليدوية إلا في أضيق الحدود.
وتؤكد الأستاذة المالكي بأن كثيرا من الخطوط الموجودة في برامج الحاسب الآلي ليست أصيلة ولا تسير حسب القواعد المتعارف عليها في الخط العربي مثل أحجام الحروف وعدد النقاط لكل حرف أو ما يعرف ب(تشريح الخط ناهيك عن إغفال التناسق والتناغم فيما بين الحروف).
تشويه تراثنا العربي
الأستاذ الأديب طلق المرزوقي وهو أيضا خطاط يرى أن الحاسوب أساء للخط العربي حيث ان في الخط العربي جوانب ونواح تعتمد على إحساس الفنان وتقييمه لها من حيث حجم الحروف والمسافات بينها ونحو ذلك وهذه لا تخضع دوما لقاعدة يمكن برمجتها آليا وبالتالي تعميمها وهو ما تفعله برامج الخط العربي وكذلك الخطوط العربية المنتجة حاسوبيا.
المرزوقي يضيف أن بعض برامج الحاسوب تقوم بتوليد عدد كبير من أنواع الخطوط التي وضع لها مبرمجوها أسماء من عندهم وبعضهم سماها باسمه الشخصي الأمر الذي جعل كثيرا من الخطاطين يتحفظون في الاعتراف بهذه الخطوط ويشككون في أثرها في مسيرة الخط العربي ويرى المرزوقي أن الخط الكوفي هو الخط الوحيد من بين الخطوط العربية الذي يمكن معالجته حاسوبيا وبنجاح لأنه خط هندسي.
المرزوقي يرى أن برمجيات الحاسوب في مجال الخط تقوم بتشويه تراث عربي أصيل أنجزه الفنان العربي والفنان المسلم عبر عدة قرون.
تزاوج اليدوي والحاسوبي
المهندس تركي أزيبي مبرمج حاسوبي يعمل بالاتصالات السعودية بالطائف يرى أن الحاسوب خدم الخط العربي كثيرا لا سيما من يريد مجرد طباعة وثيقة أو خطاب أو بحث أو نحو ذلك فالحاسوب يحقق له غرضه هذا بشكل أفضل مما لو كتب الوثيقة بنفسه في أغلب الأحوال.
أما لو أردنا خط لوحة إبداعية - والكلام للأزيبي- فمن المؤكد أن الحاسوب لن يخدمنا كثيرا لأنه يفتقد للمسة الإبداعية الإنسانية.
المهندس أزيبي يضيف: (لذا فنحن محتاجون للخطاطين اليدويين بجانب الحاسوب ولو تمت المزاوجة بين الخط اليدوي والخط الحاسوبي لخرجنا بمخرجات في غاية الروعة والاتقان وأتمنى أن يطبق هذا الأمر في الخط على كسوة الكعبة المشرفة والتي تتم الكتابة عليها حاليا بالخط اليدوي فقط ولو أضفنا لها إمكانات الحاسوب لكانت أكثر جمالا وبهاء وروعة).
ختاما نرى أن الآراء تكاد تجمع على أن الحاسوب أساء بشكل مباشر أو غير مباشر للخط العربي ولكنه في الوقت نفسه قد خدمه من جوانب أخرى لذا فالحاجة للخطاط البشري ما زالت قائمة وكذلك الحاجة للحاسوب، وبطرائق احترافية يمكن المزاوجة بين اليدوي والآلي لضمان منتج غاية في الروعة والجمال وبالله التوفيق.