الهواتف النقالة وجه حضاري مقيد بالأغلال!
|
* بقلم: دانيال شامبو *
في نهاية العام 2003، ذكرت الإحصائيات الدولية أن أكثر من 500 مليون هاتف محمول قد بيع في العالم، كما ذكر أن ثلث سكان اليابان استخدم شبكة الانترنت عبر هذا الهاتف وأن المشتركين الأمريكيين في الهاتف الخلوي أمضوا أكثر من 15 مليار ساعة في التحدث عبره وأرسل الأوروبيون 113 مليار رسالة قصيرة، ولو أن الصين تأتي في رأس القائمة في هذا الباب مع 220 مليار رسالة نصية عبر الهاتف النقال.
هل هي عبودية جديدة؟
كباقي الظواهر المفاجئة عادة، فإن الاتصال المتحرك هو في الأصل حاجة أوجدها الذين يسيطرون على وسائل الإنتاج والذين لهم مصلحة سياسية في توسع دائرة الفردية. فكل شيء يتقرر من جهة العرض. نوكيا، (موتورولا)، (إنتل)، (سوني اريكسون)، (سامسونج)، (وامبوا)، (ميكروسوفت) وغيرها من الشركات المطروحة بضخامة في الأسواق داخليا ودوليا. . وتبذل جهود جبارة لتطوير كل قطاعات السوق وزواياه: المعدات والشبكة ونظام الاستثمار والبرامج الخ... وتستفيد التقنيات اللاسلكية من استثمارات مالية كبيرة على مستوى التحديات المنتظرة حيث فاق عدد الهواتف المحمولة عدد الهواتف الثابتة وكل شيء يدل بأن الانفجار الكبير لرواج الأدوات اللاسلكية لم يحصل بعد. فكثرة الخدمات والأجهزة أدى إلى تبدل اجتماعي كبير. فبواسطة عدد لا يحصى من الهواتف الحمولة ذات الوظائف المتنوعة (حاسبة، ساعة، لعبة، آلة تصوير، راديو، تلفزيون، انترنيت الخ.. ) نسعى إلى التواصل مع العالم اجمع ونحن نتحرك. نطمح إلى ما يسميه الاختصاصيون (الاتصال الدائم). فعالم الحركية صار يغري ويبهر وبالتالي يمكنه أن يتسبب في الفوضى. فمن خلال تطوير أنماط لا تتطابق مع بعضها تأخذ الشركات الكبرى المشتركين رهائن وتقسم السوق بحيث تجعل من الصعب إن لم يكن من المستحيل استخدام آلة واحدة للتخابر وتنزيل المعطيات عن شبكة الانترنت. وتبدو هذه المشاكل مرشحة للتضخم مع المستعرة حول الأجيال المقبلة من التقنيات المتحركة. وبالرغم من تأخرها عن أوروبا وآسيا في مجال الهاتف المحمول إلا أن الولايات المتحدة في وضع (متقدم) في باب إطلاق المنافسة لمزيد من المنافسة.
يصيب التلف مجمل مستويات سوق الأدوات وفي كل عام يرمي الأميركيون وحدهم ما بين 40 و50 مليون هاتف محمول في سلة المهملات. موديلات مزودة بشاشة، آلات متعددة الألوان أشبه بالحلويات، واجهات ثابتة أو قابلة للاستبدال، الموضة تتغير كل ستة أشهر ويتوالى التجديد: التعرف على المتصل من خلال الصوت، آلة التصوير أو الكاميرا الرقمية المندمجة، و الكابل الذي يسمح الدخول إلى الشبكة الخ... والحال أن القطاعات الكبيرة مثل سبرينت وفيريزون في الولايات المتحدة وفودافون في بريطانيا او هتشنسون في هونغ كونغ تتنازع سنويا على تسويق الموديلات الحديثة. بحيث تبقى وحدها الآلات الأكثر تعقيدا قادرة على توفير الخدمات الجديدة التي تريد الشركات الكبرى بيعها للمشتركين من اجل مضاعفة أرباحها.
من تخلف عن الموضة الجديدة من المصنّعين قد يدفع الثمن غاليا! في اليابان، بلد التقنيات اللاسلكية المتقدمة، يغرق المستهلكون تحت سيل من الاستحداثات بسبب المنافسة الشرسة بين قائد القطاع (دوكومو) وشركة دخلت مجددا إلى الساحة هي (كا دي دي اي). في العام 2004 أمنت شركة (دوكومو) 20% من مداخليها أي 9 مليارات دولار من التنزيلات عن الشبكة التي قام بها 42 مليونا من المشتركين في خدمة الموضة على الشبكة. كان السؤال الذي يتوجب طرحه هو: ماذا تبيع هذه الخدمة؟
الجواب: أنها تبيع الأبراج والألعاب والرنّات الموسيقية الهاتفية بصورة خاصة. والحال أنه إزاء هذه النسبة من الأرباح تتدافع الشركات العاملة في القطاع لتقديم (الخدمات) في أنحاء العالم كافة. بلغ نمو الخدمات المتعددة الوسائط المتحركة في الولايات المتحدة وأوروبا مستوى مثيرا للإعجاب وخصوصا أن هذه الخدمات لا تزال تطال عددا محدودا نسبيا من المستخدمين. هكذا تتم إعادة تعريف للوظيفة الاجتماعية للهاتف من خلال المزج بين التحسن الطارئ على الآلات وموجة الاستثمارات الجديدة والمتعددة المصادر في مجال الخدمات المعروضة للبيع. لا يختلف اثنان أن تطور شبكات الاتصال اللاسلكي صار مرتبطا بعوامل متداخلة و غامضة أهمها الدخول على أقسام واسعة من الطيف الكهرومغناطيسي وهو المورد الخفي المستخدم للبث عبر الأقمار الصناعية لأغلب أنواع الاتصال الالكتروني. بين عامي 2000 و2001 بلغت الرهانات على التكنولوجيا الجديدة ذروتها، دفع الخوف بالشركات العاملة في القطاع إلى إنفاق أموال طائلة من أجل الحصول على ترددات باعتها الحكومة البريطانية بالمزاد العلني (33 مليار دولار) والألمانية (48 مليارا) والأميركية (17 مليارا). وكان الهدف احتكار هذه الشركات للجيل الجديد من الشبكات ذات المنسوب العالي. وقد أضيفت الديون المترتبة على هذه الشركات إلى المبالغ الطائلة المنفقة في سبيل شراء الشركات المنافسة كوضع اليد العدائي من قبل فودافون على (مانسمان) بمبلغ 181 مليار دولار، وتسبب ذلك كله في انهيار صناعة المواصلات بين 2001 و2002. ترجم ذلك بتدمير عشرات آلاف فرص العمل غالبا في قطاعات كان فيها النشاط النقابي قويا مثل صناعة الهواتف السلكية. اليوم بلغ التنافس الأعمى مجمل قطاع الاتصالات اللاسلكية وتسبب ذلك بالحول دون تثبيت الأسعار.
مشاكل بالجملة
لقد صاغ النمو الفوضوي لعوالم الهواتف النقالة بكل أنواعها جملة من المشاكل العويصة. ففي الولايات المتحدة وحدها ترتفع يوميا و بشكل حاد الشكاوى حول نوعية الخدمات والطريقة التي تصوغ بها الشركات الفواتير والتي عمدت إلى إضافة رسوم ملحقة بحجة (الضرائب الفيدرالية) كما أشارت استقصاءات الرأي لعام 2004 مثلا إلى أن 55% من المشتركين قد لاحظوا أخطاء كبيرة في فواتيرهم، ناهيك على مشاكل أخرى تدرج في سياق نقص في التغطية والذبذبات في الترددات وإغراق الشبكة إلى درجة قطع الاتصالات حيث لوحظ ان 11 % من المكالمات تنقطع فجأة أثناء الحديث.
ضريبة التقدم!
يرى الملاحظون المختصون أن استخدام الهواتف المحمولة زاد بصورة هائلة بحيث إن الشبكات تتعرض باستمرار للإغراق مما يزيد بشكل مباشر عدد الشكاوى. لكن التشغيل الزائد للشبكات ليس أكثر من مؤشر إذ إن تفسير الخدمة السيئة في الولايات المتحدة هو في أن الهواتف المحمولة لا تعطي نتائج مرضية مثل أسلافها من الهواتف الثابتة). حتى في حالات الطوارئ ومع أن الشركات رفعت شعار الأمان لتسويق مبيعاتها، فإن خدمة الشبكة اللاسلكية تبقى أضعف من الشبكة السلكية القديمة بالرغم من أنها صممت وفق معايير أمان تفوق إلى حد كبير كل ما هو شائع حاليا. في العالم أجمع، تعلم الرأسمالية (المتقدمة) الأجيال الجديدة كيفية الاكتفاء بخدمة بائسة!. هنالك أيضا العامل البنيوي خلف ضعف شبكات الاتصال المتحركة، فمحطات التوصيل غير مزودة بمحركات طوارئ وهي مشكلة غير مطروحة في الشبكة السلكية حيث يمر التيار مع المكالمة في وقت واحد. كذلك فإن ضعف الاستثمارات يجعل الشبكات عرضة لحوادث غير متوقعة كما حصل في أحداث 11سبتمبر 2001م.
يعتبر البعض أن زيادة الطلب على النقال تنبع من تخلف شبكات الاتصالات في بلدان الجنوب وبلدان الكتلة السوفيتية السابقة. وعندما بدأ القطاع الخاص بالاستثمار في تحديث الشبكات كان يلبي حاجة قديمة.
من أين يأتي هذا السعي إلى النقال؟
يأتي من الضغوط الاجتماعية. فالكائن البشري لا يتمتع بفطرة للتواصل الدائم والفاعلون الاقتصاديون هم الذين يقررون تنمية هذه التكنولوجيا أو تلك. والحاجة إلى التواصل الدائم هي مرحلة جديدة من (الخوصصة عبر الحركة) التي ضبطها قبل ثلاثين عاما ريموند وليامز. ويتعزز هذا التوجه بين الانتقال من مكان الإقامة ومكان العمل. وبحسب وليامز فإن ذلك ليس نتيجة آلية للتقدم التقني بل نتاج لميزان القوى التي تؤلف المجتمع. ولدت هذه الدينامكية التوسع المدني في البلدان الرأسمالية. ومن اجل السكن في هذا الحيز الموحش لا مفر من أشكال جديدة للتواصل. هكذا سمح تطور الراديو والتلفزيون. وقد جاء ازدهار الحركية اللاسلكية كنتيجة إضافية لهذا الاتجاه التاريخي المتجذر في المجتمعات الرأسمالية. من الصعب التحرر من التكنولوجيا التجديدية،كما انه لا يعقل العيش من دون هاتف. قبل قرن من الزمن سمحت هذه المعجزة التقنية بربط ملايين المنازل المعزولة عن بعضها. فكان يجب يومها إعادة تحديد القواعد لنمط التواصل الجديد والذي كان يبدو عمليا ومستحبا لكن أيضا متطفلا بحيث يصعب تحمله أحيانا. وقد فرض هذا التغير الثقافي إيجاد قواعد جديدة تتناسب والمكالمة الهاتفية: كيف البدء والإنهاء وكيف نترك المجال للمتحدث معنا الخ، مما ولّد تعميم هذا الوسيط التواصلي لمتغيرات عميقة في العلاقة بين المنزل والعمل، بين الرجال والنساء كما بين الطبقات. لكن النتائج السلبية لا يمكن تجاهلها إزاء هذه التغيرات حيث كانت الهواتف الجوالة وراء 6% من حوادث السير في الولايات المتحدة والتي أوقعت 2600 قتيل و330 ألف جريح سنة 2004. وقد سارعت بلدان عدة إضافة إلى ولايتين أميركيتين (نيويورك ونيوجيرسي) إلى حظر استخدام الهاتف المحمول أثناء القيادة.
لوحت لنا الدعاية التي تطلقها الشركات بالحرية اللامتناهية للحركية الفردية فنتجاوز وطأة حدود العالم القديم. ومنذ فترة قصيرة، تشدد حملات التسويق على بعد جديد من أبعاد هذه التهويمة أي انه يمكن للفرد بفضل الهاتف الجوال الإفلات من موقعه الجغرافي المعروف في المجتمع. بالطبع يسهل استخدام التكنولوجيا اللاسلكية بعض أوجه الحياة اليومية للأفراد والعائلات لكن هذه الليونة تضاعف من الفروقات. ففي مجتمع تتوزع فيه التسلية والكدّ اليومي بصورة غير متكافئة بين الطبقات وحيث إن تمديد حصة العمل لاسيما في الولايات المتحدة، كما البطالة وبيروقراطية الخدمات العامة تجعل حياة الناس أكثر صعوبة، فإنهم يلتفتون إلى التواصل المتحرك من اجل تحقيق تجاوز فردي يصعب الإمساك فيه. زد إلى ذلك (التجارة المتحركة) للهواتف النقالة التي تحولت إلى أداة للدعاية والتسويق إذ تأمل شركة مثل (فودافون) قريبا (إيصال محتوى موجه لكل مستخدم أينما وجد). والمقصود بالمحتوى معلومات تتعلق بالسير والطقس او بالأخبار وحتى الإعلانات. في استراليا بات مشتركو (تلسترا) الآيلة إلى الخوصصة يتعرضون لحملات التسويق، فمن خلال طلب الرقم المسجل على آلات توزيع الكوكاكولا يمكنهم شراء مشروب يضاف ثمنه كما المكالمة إلى فاتورة هاتفهم الجوال. وفي أوروبا أقامت الشركات (كونسورسيوم) فيما بينها تحت اسم (سيمباي) يهدف للترويج إلى استخدام الهاتف النقال كوسيلة للدفع في أنحاء القارة كافة.. هكذا يتقدم عالم اللهو من دون قيد أو شرط كما تعدنا به الاتصالات اللاسلكية المتحركة. مجلة لودروا الكندية
* أستاذ في جامعة مونتريال الكندية
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2002, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|