الإنترنت ... قرب المسافات الجغرافية أم وسّع الصراعات الثقافية ؟!
|
هل يكفي وجود الإنترنت اليوم لإنشاء (قرية كونية)؟ وهل هذه القرية الكونية التي يتباهى الجميع بالتحدث عنها موجودة فعلاً؟ وما دور هذه التقنية الحديثة في العولمة؟ الجواب ليس بالبديهية التي قد يأتي فيها ذكر هذا التعبير على ألسن الناس والمتخصصين ورجال الدولة أحياناً. فالإنترنت وتعريفه وطبيعته وتأثيراته ما زالت موضع بحث، والأسئلة التي يطرحها لم تجد حتى الآن أجوبة شافية ولا يتوقع أن تكون موضع حسم قريباً.
أحد هؤلاء الباحثين ممن آل على نفسه اتخاذ الموقف النقدي من الإنترنت في مواجهة مواقف (تمجيدية) لهذه التكنولوجيا وإيجابياتها يرفض حتى إطلاق تسمية (ميديا) عليها. فهي لا تعدو أن تكون بنظره (قسطلاً) أو تقنية لنقل المعلومات من دون أن تشكل وسيطاً أو وسيلة إعلامية بالمعنى الجماهيري الذي اتخذه كل من التلفزيون أو الراديو. فمدير الأبحاث في المجلس الوطني للبحوث العلمية الفرنسي ومدير مجلة (هيرميس) المتخصصة في قضايا الاتصال دومينيك وولتون (Dominique Wolton) يبدو وكأنه يطلق النار على (القرية الكونية) رافضاً التسليم بدور للإنترنت في تقارب البشر وتواصلهم، ومؤكداً في أكثر من مناسبة على دور عكسي لوسيلة (نقل المعلومات) هذه كعامل يظهر أكثر فأكثر عمق الهوة بين الثقافات.
الإنترنت ليست وسيلة إعلامية
وانطلاقاً من هذا التعريف يرى وولتون أنه من غير المناسب وصف الإنترنت على أنه وسيلة إعلامية للاتصال الجماهيري أو (ميديا). وينطلق في رأيه هذا من نقاط عدة تفرق بين طبيعة الإنترنت كوسيلة نقل للمعلومات وطبيعة الوسائل الإعلامية. فهو يرى أن وسائل الإعلام الحقيقية (التلفزيون والراديو والصحيفة) تعرض خدماتها لجمهور يمكنه أن (يشتريها) أو لا.
في المقابل فإن الإنترنت يبقى في مجال الطلب، أي أنه ينتظر أن يأتي الجمهور إليه بحيث يأخذ منه ما يريده فقط من معلومات في الوقت الذي يحدده المتصفح للشبكة وليس بحسب ما يرغب منشئ الموقع. ويضاف إلى ذلك افتقار شبكة الإنترنت إلى برنامج محدد ينظم نقل المعلومات منها إلى المتلقي.
أما النقطة الثانية التي يتحجج فيها وولتون
في تعريفه فهي أن تأسيس أية وسيلة إعلامية يترافق أولاً مع تحديد الجمهور الذي تتوجه إليه هذه الوسيلة، وهو ما لا يمكن تطبيقه على الإنترنت الذي يبقى جمهوره غير محدد، فهو يتوجه إلى أي شخص من دون تحديد مواصفاته، أي ما يفضل البعض تسميته (المواطن العالمي) وهو كائن غير موجود أصلاً.
الاتصال لا يخلق تواصلاً
لا يدعي وولتون نفي إمكانية الإنترنت في تأمين معلومات واسعة وبالتالي إعلام المستخدمين حول قضايا كثيرة حول العالم، غير أن ذلك برأيه لا يؤمن تواصلاً بين هؤلاء الأفراد. فنحن نشهد برأيه ثورة تكنولوجية كبرى غير أنها قد لا تعني بالضرورة ثورة في التواصل والتفاهم بين البشر مستخدمي هذه التكنولوجيا.
فهذه التكنولوجيا تسمح بحسب وولتون (بوصل مئات أو ربما آلاف الأشخاص ممن لديهم الاهتمامات نفسها كالمعجبين بفنان أو بإذاعة معينين، أو الصيادين مع بعض، غير أن التحدي يكمن في جمع أفراد لا يملكون الكثير من النقاط المشتركة).
وهو ما لا يرى وولتون أن الإنترنت قادر دائماً على تأديته، على عكس وسائل الإعلام الجماهيرية التي تبدو بنظره أكثر قدرة على التعامل مع المتناقضات وجمعها.
وبالتالي يفقد الإنترنت بحسب وولتون القدرة على إنشاء مجتمع متجانس كما يأمل البعض، بل على العكس فإنه يعزز المتناقضات بين الثقافات، فالزيادة في ضخ المعلومات يؤدي إلى زيادة الوقت الذي يحتاجه الأفراد والمجموعات لفهم بعضهم البعض. والتساوي في القدرة على الوصول إلى المعلومات لا يعني أيضاً بالضرورة تساوياً في القدرة على التعاطي مع هذه المعلومات وتفسيرها.
من هذا المنطلق يرفض وولتون النظريات التي
اعتبرت عند بداية ظهور الإنترنت أنه سوف يسرق جماهير التلفزيون والصحف والراديو ويلغي وظيفة الصحافي، بل على العكس إنها البداية، فمع تزايد كميات المعلومات التي تضخ على الشبكة تزداد الحاجة إلى وسطاء كالصحافيين والمحررين والموثقين للمعلومات قادرين على تصفيتها وتنظيمها وتحديد أهميتها.
ديموقراطية الإنترنت أم ليبراليتها؟
تنتشر نظرية تؤكد على دور الإنترنت في نشر الديموقراطية في العالم من خلال الانفتاح المعلوماتي الذي تقدمه متخطية بذلك الحواجز الجغرافية. وإذا كان الحديث عن نشر الديموقراطية وتعزيزها يبقى في كثير من الأحيان عرضة لعوامل مختلفة، منها عدد مستخدمي الشبكة في منطقة أو دولة معينة وبالتالي إمكانية أن تحدث فئة صغيرة من هؤلاء المستخدمين تغييراً جذرياً على مستوى الأنظمة التسلطية، مع الإشارة إلى أنه في غالبية هذه الأنظمة تخضع الشبكة لتقييد ومراقبة شديدين.
يرى وولتون أنه من الغباء التحدث عن نشر للديموقراطية في ظل هذا الواقع. فكما يستخدم تنظيم (القاعدة) الإنترنت كذلك يستخدم في نشر الإباحية أيضاً، غير أنه يمكن اعتبار الإنترنت برأيه وسيلة للتحرر في بعض الأحيان بحسب مستخدمها. فهذا الأمر وان كان لا ينطبق على وضع الإنترنت في الصين حيث يخضع لعملية ضبط كبيرة، إلا أنه قد يكون صحيحاً في حال استخدامه من قبل جمعيات كمنظمة العفو الدولية مثلاً مما يعزز تحرراً للفكر السياسي.
وبالتالي فإن مستقبل الإنترنت ودوره يعتمد بحسب وولتون على الاتجاه الذي سيغلب في سلوكه، فإما هو ذو اتجاه إنساني أو اتجاه تجاري. فإذا كانت التجارة قد عززت تاريخياً الاتصال بين البشر إلا أن الحال مختلف اليوم، إذ إن العملية حصلت ببطء، في حين أن أداة كالإنترنت تعمل بهذه السرعة وفي عالم يشهد تغييرات سريعة قد لا تنطبق هذه النظرية عليها، بل إن ذلك من شأنه تعزيز الهوية الثقافية الجماعية واختلافاتها مما قد يقود إلى الحروب. لذلك يبدو وولتون أكثر ميلاً إلى اتجاه أكثر إنسانية للإنترنت يتمثل في وضع سياسات واضحة تضبط محتواه. فهو لا يرى في تنظيم الشبكة عاملاً مضاداً لحرية الشبكة. إذ لا توجد حرية من دون قواعد.
.....
الرجوع
.....
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2002, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|