ورحل رمز الحزن والألم.. إبراهيم طالع الألمعي
|
رحل عنَّا شاعرٌ عاش عقوداً أربعة تسيل حزناً وألماً.. رحل عنَّا راضياً مرضياً بشاعريّته التي لم يكن قلبه ينبض بمستوى
نبضها..شعرُ عبد الله الزمزمي يجبر القارئ - بعد موت شاعرنا - أن يعودَ إلى القضية الإنسانية الأزلية الوحيدة وهي:
ما أُسْمِيَ (الموت) أو بتعبيراتٍ - ما - العدميّة..فقد كان كلّ الأدباء في جنوبي المملكة يقرأون ديوانيه اللذين صدرا
ويتسابقون على دواوينه المخطوطة خلال يوم العزاء الأول.. وأعترف بعد هذه التجربة أنني استوعبت من جديد معنى
التخليد أمام جبروت الفناء.. لكن دعني - أخي القارئ - أحاول بعضاً من التفصيل لك عبر عناوين أرجو أن أوجز فيها
تلكم السُّدُم التي نراها حين يسقط أمامنا المبدعون علّني بالكتابة أجد بعض عزاء لي وللوسط الثقافي في عَلَمٍ شعريّ
فقدناه وكان إسهامنا الاجتماعي في عذابه ووفاته جليّا لنا كلنا (مع العلم أننا نعلم من القدريّة أنها قد تكون قتلي إياك
بإرادتي)..
أولاً: موت الشّعراء
الشّعراء يا سادتي لا يموتون، فمن قال بأن امرأ القيس أو حسان أو جريرا أو أبا الطيب المتنبي أو ابن زيدون أو صفي
الدين الحلّي أو أبا القاسم الشابي أو نزارا القباني أو مفدي زكرياّ أو الجواهري أو البردوني أو الزمزمي وغيره من أرباب
القلوب الشاعرة، من قال إنهم ماتوا فإن فهمه الموتَ محدود. لقد استطاعوا مصارعة الفناء فصرعوه بخلود الصورة
والكلمة المعبّرة التي نسخت لنا الحياةَ وأشعرتنا باستمراريّتها رغم غياب الأجسام، ومن هنا يا سادتي الشعراء لكم أن
تعلموا أنكم بشاعريّتكم تستنسخون حياةً خالدةً بدلاً عن عابرة وقد سبقتم من يحاولون الخلود مخبريّا عن طريق
الاستنساخ... تخيلْ أخي القارئ أننا يوم عزاء شاعرنا نقرأ له:
أَياَ مُضْرِمَ الْوَجْدِ فِيْ أَضْلُعِيْ
تَرَفَّقْ فَماَ كُنْتُ صَخْراً أَناَ
تَأَمَّلْ بَواَعِثَ شِعْرِيْ تَجِدْ
أَنِيْناً، حنيناً، صدًى مُوهنا
أَناَ الْعُمْرُ يَصْرخُ فيه الشّقاء
وحيناً يُغَرّدُ فيهِ الهَنا
وهَذِيْ الْقَصاَئدُ فِيْ بَوْحِهاَ
مرايايَ تَنْطِقُ بَعْدَ الْفَنا
إذاَ حدّثَ الشّعْرُ عَنِّيْ غدا
فأرْهِفْ لَهُ خاَفِقاً لَيِّنا
فخاصرةُ الشِّعْرِ حَساّسة
وأخْشَى عليها بأن تُطْعَنا
إذا ما وَجَدْتَ بِقلبِ القَصِيْدِ
مشاعرَ صِدْقٍ فَتِلْكَ أَناَ
لقد كان عبد الله الزمزمي يعيش معنا أيام عزائه، لأنّ الموت العدميّ لا يخص الشّعراء...
ثانياً: قصّة شاعر
لست بصدد سيرة تقليدية للشاعر هنا بمقدار ما أودّ أن أفضي به عن سيرته المأساوية كأنموذجٍ لفقرنا الحضاريّ إلى حدّ
العجب في بلدٍ حباها الله من الخير ما نراه ونعرفه. نعم نحن فقراء مدقعون ما دمنا لا نملك إطارات من مؤسسات المجتمع
المدني المتحضر بالقوانين لا بالسلوك الشخصي المبني على مبادرات الواعظين أو إمكانات المسؤول كشخص وجيه مليء
يسهم بما يستطيعه في ما يمكن أن يصله.
عاش الشاعر - عبد الله الزمزمي مريضاً بالقلب - في زمن استبدال القلوب والدّماء -، وأسهم كلّ المحيطين به - من
ذوي النّفوذ القادر على إسماع الصّوت - في إهمال شأنه، ولم يكن من الّذين يستطيعون الوقوف أمام النافذين لأسباب
شاعريّة يحملها ونعلمها عنه. وقبيل موته بيومٍ واحدٍ اكتشف رئيس النادي الأدبي بأبها الأستاذ الرائد - محمد بن حميّد
(الذي عاش نقيباً ورئيس رابطة لأدباء المنطقة وسيبقى بإذن الله) اكتشف وجوده في وضع سيئ في مستشفى عسير مع
عدم وجود أهل الاختصاص والمكان الملائم لحالة مثله، فلم ينمْ نقيبنا ليلتها حتى قابل سموّ الأمير- خالد الفيصل وحصل
منه على أمر بتحويله إلى المستشفى العسكري وقرّر له إعانة عاجلة من صندوق الأديب، غير أن القضاء سبق كلّ
هذا..
قضيّتي في هذه السّيرة: ما الذي يمنعنا مِنْ إنشاء رابطة للأدباء على مستوى المملكة والمناطق؟؟ وما هي السّلبيّة التي
تترتب على إنشاء مثلِ هذه الرابطة التي يمكن أن تصل بين أدبائنا ومفكرينا ومبدعينا الّذين لا يمكنهم أن يكونوا في
واجهة المسؤول، وقد يواجهون صعوبات لا يحتملونها لعرض قضاياهم ومشاكلهم؟؟ وأدعو هنا أستاذنا - محمد الحميّد
أن يتبنى هذه الدّعوة منّي باسم زملائي إلى تشكيل رابطة للأدباء يتولّى بإمكاناته تأسيسها لأنني أشكّ في أن تحظى كثير
من المناطق بمثل ما قدّمه هنا من ترابط بين الأدباء، ثمّ إنّه ترابط إنساني لا يحكمه قانون ولا مؤسسة مدنية تطالب بحقوق
هؤلاء، وما قام على سلوك إنساني لا تُضْمَنُ قانونيّته..
ثالثاً: عبد الله الزّمزمي شاعراً
شاعرٌ لا ينظمُ الشّعر ولا يُفَكْرِنُهُ، بل ينساب له انسياباً عجيباً في اللفظ والصورة. وهو من الملتزمين بالعمود الشعريّ
العربي القديم، لكنّ قدرته المعروفة وانثيال شعريّته يمكنانه من ملك الصورة الحديثة في ما يقابل الكلمات. وهو قادر
بشكلٍ عجيب على الجمع بين عمودية الشعر القديم وتلافي ضعف وحدة الموضوع، فنجد النص الواحد متّحداً في
موضوعه دون الوقوع فيما وقع فيه كثير من الشّعر التقليدي من تشتت في الوحدة الموضوعية..
يَنْتمي - رحمه الله - إلى من يربط الشّعر بالقضية، ولا يكتبه لمجرد التعبيرية أو الإعلاميّة، ولا يهتمّ بالنشر، ويرفض أن
للإعلام والإعلاميّين دخلاً بالأدب، فالإعلام إعلام والأدب أدب، لذا لم يكن حريصاً على النشر، وحرص النادي على
طباعة ديوانين من شعره ولم يزل بقية شعره مخطوطاً...
وهو - كما أعلم - شاعر الحزن والألم فلم أجد له حتى الآن نصاً يخرج عن إطارهما، وهذا الحزن لا ينبع من معاناته
الشخصية التي عاشها فحسب بل يمتلئ بحزن الشعراء على المصائر العامة والهموم الطويلة الأجل في الأمتين العربية
والإسلاميّة..
وسأزعمُ أن قصيدته الآتية جزء منها من أجمل ما قيل في الأوطان، بل هي أجمل ما قِيل في المملكة لوطنٍ يمرُّ بمأزق - ما
- في الهويّة، ولذا نجد الشّاعر يستخدم الجماليات المجردة أكثر من التعبير الحسّي، لأنّ التعبير الحسّي يسهل حيثُ مأزق
الخلط بين الإنسان وهويّة الأرض:
وَطَنٌ وَأَلْفُ قَصِيْدَةٍ وَيَظَلُّ وَجْهُكَ ياََ وَطَنْ
أحْلَى مِنَ الْكَلِماَتِ تَزْهُوْ فَوْقَ أَشْرِعَةِ الزَّمَنْ
وَمِنَ الصَّباَياَ الْمُتْرَفاَتِ بِحُسْنِهِنَّ وَإِنْ فَتَنْ
كَمْ ياَ وَطَنْ
لَكَ بَيْنَ أَجْفاَنِيْ وَطَنْ
بالأَمْسِ مَرَّ بِكَ الرَّبِيْعُ وَأَنْتَ مَوْعِدُناَ غداً
فَإِذاَ عَشِقْتَ قَصِيْدَةً بِتْناَ نُرَدِّدُهاَ مَعاً
وإذاشَدَوْتَ إلى الْحَياَةِ نَقُولُ أَنْصِتْ ياَ زَمَنْ
لِقَصاَئِدِيْ بِكَ فَرْحَتاَنِ وَنَبْضُ قَلْبٍ مُرْتَهَنْ
والْوَرْدُ أن لَمْ تَعْتَصِرْهُ لِمَنْ سَأَغْرُسُهُ إِذاً؟
وَلِمَنْ سَكَبْتُ الْعِطْرَ فِيْ كَفَّيْكَ تِذْكاَراً لِمَنْ؟؟
إِنِّيْ لَيَصْفَعُنِيْ اغْتِراَبِيْ عَنْكَ ياَ أَغْلَى وَطَنْ!!
خُذْ مِنْ فُؤاَدِيْ ماَ تُرِيْدُ وَلاَ تُساَفِرْ ياَ وَطَنْ
في هذه الشاعريّة الصادقة المتألقة يظهر جليا التعبير عن الوطن بالمعاني دون أن يُسعف الشاعر مصطلح المكان بتجسيده
المباشر، حتى عَبّر عنه بالغربة التي اعتاد عليها الشعراء...
وأذكر بالمناسبة من الطرائف التي حدثت في العقد الماضي: أن الأستاذ الأديب - إبراهيم شحبي كان مشرفاً على مجلة
(تهامة) التي كانت تصدر في إحدى ثانويات محافظة رجال ألمع فأخذ قصيدة للزمزمي كتبها عندما وقف على قبر - خالد
بن الوليد في حمص وأراد نشرها في المجلة فمنعت المدرسة ذلك على اعتبار أنها ليست إسلاميّة!! وقد دعاني ذلك الموقف
الطريف إلى كتابته (في زاويتي - دروب) تلكم الأيام عن هذا وضمنت تلكم المقالة كتابي (الموت إلى الداخل) فلْيَرْجِعْ
إليه من شاء حتى يعلمَ أننا عانينا من صحوة الجهل قبل أن يكتشف ذلكم السِّبتمبريون بكلّ اتّجاهاتهم، ويعلمَ أيضاً أن
مصطلح (تيارات) لدينا ليس إلا مصطلحاً رُكِّبَ تركيباً على المفاهيم وليس على التَّتيير وذلك بسبب الجهل المركّب
(وهو جهل من لا ينبغي له الجهل) وبسبب حاجة الناس هنا كغيرهم إلى الانتماء إلى قنوات حضارية بعد ذوبان الانتماء
الإقليمي والقبلي وحتى الآيديولوجي... غير أنني سأحاول زيادة الطرافة بإمتاع القارئ هنا بذكر ما أمكن إيراده من
أبيات تلكم القصيدة (غيرالإسلاميّة):
عنوان النص: وقفة أمام قبر خالد بن الوليد - ديوان: هذا أنا - إصدار نادي أبها الأدبي،وكذلك كتابي: الموت إلى
الداخل، ومنها:
يا مسجى من بعد طول الجهاد
كيف ألفيت طعم هذا الرّقاد؟
هل سمعت النداء يسري جريحاً
وا أسى السيف والقنا والجـواد
هل يثار الغبار يومـــــاً
وتعلو راية الحق رغم كيد الأعادي؟؟
لست تدري ولست أدري ولكنْ
حسبنا أننا على ميعاد
قف أجبني يا دهر وارحم
عزيزا جرحتْ كبره يد الجلاّد
كم تأمّلت حول قبرك حينا
مقلا ملؤها دموع الحداد
إنّ منْ عاشَ عاجزا عن وفاء
ميّتٌ دون مجده لنْ يفادي
....
وإلى الملتقى أغنّيك بشرى
بوصال الأمجاد والأعياد
هذه عينة من قصيدة وُصمت بأنها غير إسلاميّة ومنعت من النشر في مجلة تعليمية، وهذه أيضاً حكاية من مآسي معاناة
الشعراء، ولكم أن تتخيّلوا (كاريكاتورياً) ذلكم المفتي وذلكم الشاعر، لأنّ الجهل وفرضَهُ يُعتبر أقسى أنواع الظّلم،
ولذا أقول: إن الألم في شعر عبد الله الزمزمي هو: شخصي، واجتماعي، وأمميّ، وإنساني، ولو كانت حالته الشخصية هي
العامل الوحيد في ريادته شعر الحزن والألم لما كان مضطراً لحمل الهموم الكبرى بنجاح ولما استطاع نقلها إلينا بتلكم
الشاعريّة الرائعة...
رحم الله شاعرنا ووفقنا إلى القدرة على التشكّل الحضاري إلى درجة لا نرثي بها مبدعينا قبل أن نقدم لهم كل الممكنات
عن طريق منظمات مجتمع مدني يسمح فيه بالتشكّل الإيجابي.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|