أبو أوس إبراهيم الشمسان ل :«2 2» مفهوم «الفصاحة» مايزال يمثل مشكلة في أذهان الناس إبراهيم الشمسان
|
* حوار علي سعد القحطاني:
تحدث الدكتور أبو أوس إبراهيم الشمسان عضو هيئة التدريس بقسم اللغة العربية، كلية الآداب، بجامعة الملك سعود في الجزء الأول من الحوار عن سيرته العلمية وملاحظته للضعف اللغوي السائد في أوساط المتعلمين وفكرة إنشاء مجمع لغوي لمعالجة هذا الضعف، وفي هذا الجزء الثاني نستكمل حوارنا مع الضيف الكريم ليتحدث لنا عن اللغة المحكية وعلاقة تعريب العلوم بمعالجة الضعف اللغوي وعن أزمة المصطلحات والصراع بين اللغويين والمبدعين.
اللغة المحكية
* أليست اللغة التي يتحدثها الناس عامية متهمة بإشاعة الضعف اللغوي ويدعو كثير من المفكرين إلى تجنبها؟
اللغة المحكية حقيقة كالشمس لا تغطى بالمنخل وثمة فرق بين أن نجمعها لدرسها وتحليلها وأن نجمعها لتعليمها؛ وأما ما يدعوني إلي القول بجمعها انها لغة العرب، وما لغة المعاجم إلا لغة كهذه اللغة أنتجها عرب مثل هؤلاء ولكنهم دونوا بعض اللغة ووصل إلينا كثير لم يدونوه، وأنتج الناس عبر السنين طائفة من الألفاظ الصحيحة الفصيحة المستحقة لأن تأخذ مكانها في المعجم العربي، وأن تأخذ مكانها من الاستعمال. والفرق بين اللغة المحكية واللغة الفصيحة يسير إذا استثنينا الإعراب. وطالما سئلت عن كلمة أو أخرى أهي عربية؟ ويقصد السائل أهي فصيحة. والمشكلة في أذهان الناس متعلقة بمفهوم الفصاحة؛ إذ هو في أذهان الناس اللغة العربية التي يصادفونها في كتب التراث وهي اللغة المعربة. ويظن كثير من الناس أن العامية منبتة صلتها بالفصحى. والأمر ليس كذلك. فمن المعلوم أن لهجات الجزيرة العربية قديمة قدم اللغة الفصيحة إن لم تكن سابقة عليها. واللهجات اليوم زاخرة بألفاظ ليست في المعاجم. فهل نعدها عربية أم نهملها وننكفئ على ما في بطون المعاجم وكتب اللغة؟ والحق الذي لا مرية فيه عندي أن المسافة بين اللهجات والعربية الفصيحة ليست واسعة كل السعة فمعجم اللهجات في معظمه موروث، وأما ما فيه من دخيل فشأنه شأن الدخيل في الفصيحة أيضاً. وكثير من أنظمة الفصيحة نجده في اللهجات، وأما أوضح مظاهر الاختلاف فهو ترك الإعراب في اللهجات لاستعاضتها عن دلالته بدوال أخرى مثل تقديم الفاعل، ومثل المحافظة على الرتبة.
وأما الكلمات التي لا نجدها في معاجمنا فمن حقنا أصحاب اللغة أن نستعملها ونستفيد منها ما لم تصادم أصلاً لغوياً؛ ولا شك أن حاجة الناس وهم أصحاب لغة دعتهم إلى توليد كلمات تفي بأغراض تواصلهم. وإن من واجبنا اليوم إن كان متعذراً علينا استعمال الفصحى في حياتنا اليومية أن نقارب بين المستويين الفصيح واللهجي، ويكون ذلك بالتخير في فصحانا والارتقاء بعامياتنا على خصوصياتها الضيقة.
تعريب العلوم
* ما علاقة تعريب تعليم العلوم بمعالجة الضعف اللغوي؟
العلاقة أننا نسمع بين حين وآخر الشكوى المريرة من ضعف العربية على ألسنة الناس وأقلامهم. ومن أعجب الأمور أن تسمع هذه الشكوى من الأطباء والصيدلانيين وغيرهم من المتخصصين بالعلوم التطبيقية. ومثار العجب أن هؤلاء تلقوا تعليمهم باللغة الأجنبية وهم يعلمون أيضاً باللغة الأجنبية. وهؤلاء من أشد الناس حرصا على استمرار تعليم العلوم باللغات الأجنبية. وفي كل موقع من مواقع خدمات الجمهور كالمطارات والمستشفيات تجد اللغة الأجنبية هي اللغة السائدة من الناحية العملية. كل هذه الأمور تدل بجلاء على علة من العلل التي أضعفت العربية، فهي ليس لها مكان يقتضي الحرص عليها والتمكن منها وإيلاءها الرعاية الكافية. فهي في التعليم العام مقرر من المقررات المزعجة، وهي في ميدان العمل بلا وظيفة تذكر. إذ لا يأبه بما يقع فيها من خطأ إلا الغيور عليها لدوافع ذاتية. ولعل الدعوة لتعليم العلوم بالعربية سبيل إلى بعث الاهتمام بها؛ فهي كغيرها من اللغات صالحة لتعليم أي علم ولها من التاريخ المشرف ما يشهد لها بذلك. قد يحتج من يرى الإبقاء على اللغات الأجنبية أن تلك اللغات كالإنجليزية هي اللغة العالمية التي هي همزة الوصل بينهم في كل مكان. وهذا أمر لا ندفعه، فهو أمر مشهود؛ ولكن لا ينبغي أن تحتل الإنجليزية بهذا محل العربية. اللغة كائن حي في استعماله حياته وفي إهماله مماته، ونحن نرى في المعجم العربي ثروة لفظية معطلة بسبب إهمالها لتغير ملابسات الحياة التي أوجدتها، وكذلك نشهد إهمالاً لبعض تراكيب العربية جهلاً بمنافعها. وبعض المعالجة في نظري إفساح الميدان للعربية.
المصطلحات
* لعل معلمي العلوم بلغة أجنبية لا يجدون في العربية من المصطلحات ما يفي بأغراض تعليمهم كل الوفاء.
لا جدال يحتج الذين يصرون على تعليم العلوم التطبيقية باللغة الإنجليزية بأن مصطلحات تلك العلوم غير ميسورة في اللغة العربية. وهذه الحجة باطلة مدفوعة، إذ إن المجامع اللغوية ومراكز التعريب قد اجتهدت في وضع المصطلحات المختلفة ونشرتها في دورياتها لمن أراد المتابعة. ومما يثار أيضاً أن وضع المصطلح العربي ليكون مماثلاً للأجنبي أمر متعذر لاختلاف اللغتين في طريقة توليد الكلمات؛ إذ اللغة الإنجليزية تتخذ من إلصاق الكلمات طريقة لتوليد المصطلح، أما العربية فهي لغة اشتقاقية، ومتى استخدمت الإلصاق فيها نتج من الألفاظ ما يمجه السمع وتعافه النفس.
والجواب أن النحت والتركيب بأنواعه وسائل عربية إلى جانب الاشتقاق يمكن بها توليد الألفاظ والمصطلحات. والأمر المهم الذي يغفل عنه المحتجون هو أن اللغة في الأصل اصطلاحية، ومعنى ذلك أن أصحابها يمكن أن يولدوا من أصواتها ما شاءوا من الكلمات وفاقاً لأنظمتها دون أن يلزم من هذا أن يكون اللفظ ترجمة من حيث المعنى الحرفي للمصطلح الأجنبي. فالمهم ما يعنيه المصطلح الأجنبي بشكل عام لا ما تعنيه أجزاء المصطلح الملصقة، وهذا أمر مستعمل في غير المصطلحات من كلمات اللغة، فالسبورة بالعربية يقابلها في الإنجليزية لفظ مؤلف من كلمتين ملصقتين معناهما «لوح أسود» وهو يطلق على السبورة وإن كانت خضراء لأن اللفظ صار له قيمة وظيفية. والذي ننتهي إليه أننا نستطيع أن نضع ما نشاء من المصطلحات ما دمنا نحملها دلالة خاصة.
صراع بين اللغويين والمبدعين
* إذاً اللغويون في صراع مع معلمي العلوم بلغات أجنبية وهم أيضاً يتهمون المبدعين بالضعف اللغوي ويلاحقونهم فما مدى الصراع بين اللغوين والمبدعين؟
عاش اللغويون حياتهم في صراع مستمر مع المخالفات اللغوية إذ هم ينزعون إلى المحافظة عليها، ويخشون أن تصاب بالضعف أو الانحراف، وغيرهم يريد استعمال اللغة أداة طيعة تلبي طموحاتهم دون قيود، ومن الطبيعي أن يختلف الناس في حظوظهم من إتقان اللغة، والمبدعون تختلف قاماتهم إبداعاً وإتقاناً للغة أيضاً.
ومنذ القديم شهدنا صراعاً بين النحويين وقراء القرآن دعا إلى تأليف الكتب احتجاجاً للقراء، وشهدنا الصراع بين النحويين والشعراء نحو ما اشتهر عن الحضرمي والفرزدق.
الحضرمي أحد النحويين العظام الذين أسسوا للنحو العربي تأسيساً قوياً، وكان مشغوفاً بمراقبة استعمال اللغة على ألسنة الشعراء، وربما كان يراجعهم في استعمالاتهم متعمداً تعليم من حوله من طلاب النحو والعربية. أما الفرزدق فكان من أشهر شعراء عصر بني أمية، اتصف شعره بالجزالة ولكنه كان يحب المداخلة في شعره فيعجب النحويين. سأل الحضرمي الفرزدق يوما: كيف تنشد هذا البيت
وعينان قال الله كونا فكانتا
فعولان بالألباب ما تفعل الخمر
فأنشده الفرزدق «فعولان»، فقال له عبدالله: ما كان عليك لو قلت: فعولين؟ فقال الفرزدق: لو شئت أن أسبح لسبحت، ونهض، فلم يعرفوا مراده، فقال عبدالله: لو قال: فعولين؛ لأخبر أن الله خلقهما وأمرهما؛ ولكنه أراد أنهما تفعلان ما تفعل الخمر». تستعمل «كان» في العربية استعمال غيرها من الأفعال فيكون لها فاعل مرفوع، وبهذا الاستعمال جاء بيت الفرزدق، وجملة مقول القول تنتهي في الشطر الأول أي «كونا فكانتا» يقصد أن الله أمر بخلقهما فطاوعتا ذلك الأمر. أما الشطر الثاني فهو خبر للمبتدأ «عينان». وتستعمل «كان» بأن تدخل على الجملة الاسمية فيرتفع المبتدأ كالفاعل وتنتصب الخبر كالمفعول به، ويتغير المعنى، وهوما أشار إليه الحضرمي. وما لم يفهمه القوم هو أن الفرزدق تخير أمراً من أمرين ممكنين. وكان الفرزدق يضيق بمراجعة الحضرمي، من ذلك أنه مر به فأنشده قصيدته التي جاء فيها:
وعضّ زمان يابن مروان لم يدع
من المال إلا مسحتا أو مجلف
فقال الحضرمي للفرزدق: علام رفعت مجلف؟ فقال: على ما يسوؤك. وعلى الرغم من هذه المراجعة يروى أن الحضرمي التمس للرفع وجها لم تذكره كتب الأخبار، ولعله في تقديري على قطع العطف كما يقطع النعت فيكون الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره «هو». وبلغ من ضيق الفرزدق بالحضرمي أن قال فيه:
ولو كان عبدالله مولى هجوته
ولكن عبدالله مولى مواليا
ولم يأبه الحضرمي لقوله بل التفت إلى محاسبته من حيث أخطأ في النحو، فقال له: أخطأت، مولى موال. والحضرمي يذكرنا بقوله هذا بأن الاسم المنقوص المنون في الرفع والجر تحذف منه الياء لأنه عندهم حرف ساكن لاقى التنوين وهو أيضاً ساكن فالتقى ساكنان فحذف حرف العلة، أما أصحاب الصوتيات اليوم فهم يقولون: إن الياء هنا كسرة طويلة فلما أقفلت بالنون صار المقطع الصوتي طويلاً مقفلاً فقصرت الحركة الطويلة لتلافي ذلك. والمشكلة اليوم أكبر من مخالفات الفرزدق أو غيره، فهي اليوم نتيجة جهل شديد بأحكام اللغة وليس من علة تسوغ للمبدع الخطأ إذ لا مصادمة بين الإبداع والسلامة اللغوية بل لعل تلك السلامة شرط من شروط الإبداع وفي الأمر مندوحة للمبدع إذ يمكنه أن يعرض إبداعه على لغوي لينظر فيه قبل أن يذيعه في الناس بعجره وبجره. والمأمول أن ننتقل من الصراع إلى التعاون البناء الجاد في سبيل إنتاج أجمل.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|