أعراف ينابيع الذاكرة: الرحيق هنا (2 ) محمد جبر الحربي
|
نستطيع القول هنا إن الشعر السوداني بشكل عام يمثل مفردة الشعر خير تمثيل، لنعلن بعد ذلك وقوفا: ان هذا والله لشعر.
وهو شعر يملأ الروح والقلب من أول قراءة أو سماع. ومعه لا تحتاج إلى معنيين من ضواحي «بارت». ولا من الشوارع الخلفية لما بعد الحداثة!!
انه شعر خالص قد من الروح. وهو غناء دافىء، وماء أنهار وحضارات تستطيع أن تتلمس صورة وجهك فيه. وهو شعر متعة ومعرفة لا شعر ألعاب لغوية.
وهو شعر قضية وتاريخ ووطن.
وشعر إيمان، ونقاء، وحب عال جارف صادق.
وإذا كان بإمكاننا ان نصف الشعر بالقوة فإنه من السهل علينا هنا ان نؤكد بشدة على أنه شعر قوي.
ولقد تعمدت عندما اغترفت من ينابيع الذاكرة شعر محمد المكي ابراهيم نموذجا، لمعرفتي بتواجد الفيتوري ومحمد فهمي سند امثلة مضيئة، ولكنها حاجبة لنور يتلألأ من نجوم أخرى كثيرة تملأ سماء الابداع في السودان.
كما هو الحال مع الأديب الكبير الطيب صالح.
والحقيقة ولكي ارتقي الى طيبة الأهل في السودان، أصحح فأقول: ان الذي شدني من شرودي في المكتبة هو هذا الديوان الصغير الكبير «بعض الرحيق أنا، والبرتقالة أنت» بينما انا أبحث عن «التضاريس» الثبيتية لأهديها لطارق من البكيرية في القصيم.. فاستعدت ذلك الصباح الأليف الذي ابتعت فيه الديوان الصادر عن دار التأليف والنشر جامعة الخرطوم عام 1976م في طبعته الأولى. وذلك المساء الذي دعاني فيه الشاعر الكبير لمشاركته رحلة الغربة والعودة التي يعيشها الشعراء حلوا أو ارتحلوا.
وكم كان كريما حينما حجز لي مقعدا بجواره على الطائرة العائدة الى الوطن.. والتي ربما كانت قادمة من الجزائر .. عبر القاهرة في رحيله الى طفلة المدائن..
«طول ليلتنا في أزيز المحرك والطائرة
كان محياك يبدو لعيني
فيختلج النوم بين الحقائب والانتظار
ويُفتح باب من الوصل
كالجذب عند صغار الدراويش
او كالتواصل بين الكبار
فأبصر أشجارك الجاثمة
واسمع أنفاسك النائمة
ولغو الأحباء من كل دار
وأشعر أن يدي تغوصان
بين جدائلك المرسلة
وعيني تمتلئان
بألوانك المستهيجة والذابلة
ثم أرجع ألقاك واقفة في المطار
طفلة في المدائن، سيدة في القرى
يغضب الصيف فيها
وتجلدها الشمس كالزاجرة
ثم تأتي الأماسي ساعية بالنسيم
الخفيف تطيب خاطرها
وتمسح عن وجنتيها الغبار.
وقبل الوصول: «تطلين كالطفل
يسبل جفنيه في نصف إغماضة
وينام
وكالطفل بين المدائن
يدفعك النيل ما بين كفين حانيتين
وكالطفل بين المدائن
رحت تلوحين
قدام عينين بالدمع والحب مغرورقين
«وعبر ذهول الوصول.. لخرطوم تنهض من نومها.. تستفيق
احس بأن العيون الكبيرة
سوف تزاحمنا من جميع النواحي
وتأخذنا في الطريق
وان إساراً من الحب
يبدأ من حيث لم ينته
هذا العشق النازف، والحب الآسر، والبوح الكاسر، هو الشعر والشاعر، وهو المنزلة العليا.
ولابد لنا ان نلحظ ذلك الايمان العميق الذي يغسل الشاعر بالنور، وشعره بصدق وعفوية ودفء لا مثيل له، كما ذكرناه في «كذلك نفتح الحزن»: هو الله قل لا إله سوى الله
والموت حق
وشوقي لعينيك حق وكوني أضعتك
بين الأباطيل أكثرها خسة ونزق
لكوني فقدتك في غمرة من ذهول
وفي شبق مستحيل
وفي غضب مسترق
واني جحدت بذلك آلاء ربي..»
وذلك يتأتى بدون اصطناع، أو مباشرة، كونه يأتي من الداخل الثريّ: «الله يا خلاسية
يا حافة مفروشة بالرمل
يا مكحولة العينين
يا مجدولة من شعر أغنية
يا وردة باللون مسقية
بعض الرحيق أنا
والبرتقالة أنت
يا مملوءة الساقين أطفالا خلاسيين
يا بعض زنجية
وبعض عربية
وبعض أقوالي أمام الله».
الداخل الممتلىء بالايمان والحب والوحد والعشق لوطن فطر قلب الشاعر
وشفاه..
الله.
mjharbi@hotmail.com
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|