علي أحمد باكثير رائد التحديث للقصيدة الجديدة (22) د. عبدالعزيز المقالح
|
طاقة باكثير الشعرية
وفي الحوار نفسه يسأله الدكتور نجم: أفهم من هذا ان الأستاذ باكثير كتب الشعر الذي نحن نسميه بالشعر الحر أو الشعر المرسل في الوقت الحاضر قبل السياب والملائكة والبياتي والقباني وغيرهم؟ ويجيب باكثير: «نعم.. قبلهم بما لا يقل عن عشر سنوات». ويستمر المحاور في طرح أسئلة ومنها: يقال ان هناك اصابع اتهام منك تشير إلى هذه النوعية من الشعر، هل صحيح انك تتخذ الآن منه موقفاً آخر؟ ويرد باكثير: «أبداً. أنا أزكي هذا الشعر وأزكي الجميل منه»(6) والفقرة الأخيرة دليل على سعة افق باكثير وموضوعيته فهو يصرح بتزكية النماذج الجميلة من الشعر الجديد ودليل على إيمانه الثابت بالتطور في فن الشعر وحتمية تبدل انساقه ونظمه..
ومما يؤسف له حقا ان هذا الشاعر الرائد قد فارق الحياة بعد ان اصدر عشرات المسرحيات والروايات، لكنه لم يصدر ديوانا شعريا واحدا، كما لم يكن مهتما بجمع شعره باستثناء تلك العناية التي لقيتها بداياته التي جمعها تحت عنوان «أزهار الربى وشعر الصبا» وقد ظلت مخطوطة منسية في مكتبته إلى ان عثر عليها قبل أعوام الصديق الدكتور محمد أبوبكر حميدا لذي أشرف على نشر هذا الديوان الوحيد وصدَّره بمقدمة ضافية تتحدث عن حياة الشاعر وهمومه ومعاركة وقد تضمنت المقدمة رسالة من الدكتور عبده بدوي وهو من أبرز الأساتذة الذين اهتموا بالشاعر الرائد علي احمد باكثير، وكان له فضل إثارة الاهتمام بباكثير وآثاره، كما كان وراء عقد أول ندوة اقيمت لإحياء ذكراه في مدينته بمحافظة حضرموت، تقول سطور الرسالة «إن صورة باكثير لن تتم إلا حين تظهر كل خطوطها والوانها وظلالها، فمن حقه مادام قد كتب بأصالة ان يتواجد في ضمير امته بعمق، فطاقة باكثير الحقة من وجهة نظري تتواجد في الشعر، والشعر هو الذي دفعه إلى المسرح والرواية، كذلك فالشعر هو أهم مصادر الطاقة عند باكثير، فهو الذي ولد نبوغه في كل ما كتب، وهو الذي يعطيه وهو في جوار ربه طاقة على التجول في العديد من العصور، ومن حق باكثير ذلك لأننا إذا نفيناه مرة أخرى كما نفيناه من قبل نكون قد حكمنا على أمتنا بالبوار ونكون قد سلمنا رقبة الحرف العربي إلى المقصلة»(7)
وتنتمي قصائد ديوان «أزهار الربى في شعر الصبا» إلى مرحلة ما قبل الإحياء فهي تقليدية الاسلوب والمضمون، وقد توزعت على سبعة أبواب، باب الأدب، باب الوصف، باب النسيب، باب الاخوانيات، باب الاجتماعيات، باب الرثاء، باب الاستحياء والتشطير، وهذا مقطع من قصيدة طويلة من باب النسيب:
لمن طلل تحاكية الوشوم
عفت منه المعالم والرسوم
يحاكي مصحفا من عهد عاد
بخط الحميري له رقوم
ترحل عنه احبابي جميعا
وخلوني تساورني الهموم
وواد مثل جوف العير صفر
فريت وليله ليل بهم
فريت هجوله والليل مرخ
دجاه وقد تجاوب فيه بوم
وليس لدي هنالك من مواسٍ
ولا خل هناك ولا نديم
أديم الأرض أفري لست أخشى
سوى ربي وهل يخشى الكريم
واني في الندى غيث مطير
واني للعدا سيف صروم
صراطي نجدة وندى وحلم
وذاك هو الصراط المستقيم(8)
على هذا النحو من جزالة اللفظ وتقليدية المعاني تمضي قصائد الديوان في ابوابه السبعة بعد ان جمع فيه الشاعر نماذج متنوعة من بداياته الشعرية قبل ان يقترب من الثقافة المعاصرة ويبدأ في تغيير مقاييسه الأدبية التي تغيرت معها نظرته إلى الشعر وإلى مفهوم الأدب كله كما تحدث عن ذلك بما يشبه التفصيل في كتابه «فن المسرحية».
قصة ديوان باكثير
ومن المؤكد ان في شعره غير المنشور قصائد بالغة العذوبة والجمال بعضها ينتمي إلى التيار الرومانتيكي الذي كان قد بدأ يمد ظلاله الشفيفة على حقول الشعر العربي ابتدأ من عشرينيات القرن المنصرم، وفي البعض من هذه القصائد خروج على البنية الواحدة للقصيدة واتجاه إلى نظام المقاطع متعددة القوافي كما هو الحال مع هذا النموذج:
في غرفة واجمةٍ قفرةٍ
ليست لها بارقة للمنى
هادئةٌ لا عن طمأنينة
ساكنةٌ مثل سكون الفنا
النور في ارجائها حائر
يصيح من يأسٍ أقبري هنا؟!
ولا جواب غير همسٍ بها
ويبك يا ابن الشمس اين السنا؟
لا ذنب للنور ولا غيره
في غرفةٍ خالية من «أنا»
يا ليت لليأس سبيلاً إلى
قلبي فاحيا بفؤاد خلي
واعجبا مني أأستنجد ال
يأس كأني لم يمت مأملي
ما أنا فيه اليأس لو لم أكن
عن راحة اليائس في معزل
مصيبتي هذا الشعور الذي
يربط ماضي بمستقبلي
وما الذي انساني اسمي فلا
اذكر ما اسمي خالد أم علي(9)
أين هذا الشعر المعاصر البديع من ذلك الذي يستلهم فيه باكثير روح الشاعر الجاهلي ويستحيي اساليبه سواء في المعمار البيتي أو في التركيب اللغوي والفني.
وهناك إجماع بين أصدقائه وتلاميذه وفي مقدمتهم الباحث والناقد الدكتور محمد أبوبكر حميد على ان هناك أعمالاً شعرية كثيرة لم تجمع ولم تنشر بعد مما كتبه باكثير في القاهرة خارج نطاق مسرحه الشعري.. ومنها حواريات تمثيلية نشر الشاعر والناقد العراقي هلال ناجي واحدة منها في كتابه «شعراء اليمن المعاصرون» وهي بعنوان «صفي وليليان» كما نشر في الكتاب نفسه قصائد بالغة الأهمية، منها قصيدة بعنوان «بين الصحو والذهول» وتبدأ هكذا:
وقفت لا أدري علام الوقوف
في شاطئ النيل قبيل السحر
والكون غاف ورؤاه تطوف
في همسات الريح بين الشجر
في رقصات النور نور القمر
على بساط الماء ماء النهر
في حلقٍ شتى صفوف صفوف
وفي نقيق مستحب الصدى
على توالي أوجهٍ والقرار
كجوفة تعزف في منتدى
بالريف، القى القوم فيه الوقار
قد شارك الصبية فيه الكبار
ينتبهون الليل قبل النهار
بين المزامير وبين الدفوف(10)
مرة أخرى أين هذا الايقاع الراقص المتجدد والصور العذبة الباذخة والمفردات المنتقاة من ذلك الشعر البدوي الذي كان الشاعر يجاري فيه شعراء الجاهلية ويسير على نهجهم في الوصف والنسيب والفخر.
وربما لن تكتمل صورة باكثير الرائد إلا بالوقوف عند آخر قصيدة كتبها بعد زلزال النكسة العربية في يونيو «حزيران» عام 1967م. وكأنها تحمل أواخر منجزات ابداعه الشعري، وقد اطلق أحد النقاد على هذه القصيدة اسم «الملحمة» وهي جديرة بتلك التسمية فقد جمعت بين غضب الشاعر وألمه، وبين الحسرة والرجاء، بين الخوف والكبرياء، وبدأها بهذه الصرخة العالية:
إما نكون أبداً
أو لا نكون أبدا
غداً وما أدنى غدا لو تعلمون
أما نكون أبداً أو لا نكون(11)
ولا ريب ان باكثير استخدم فيها حصيلة خبرته الطويلة في كتابة قصيدة التفعيلة فجاءت منسجمة فنيا مع قصائد رواد هذا النهج في كتابة القصيدة الجديدة:
غداً بنى قدمى وما أدنى غدا
اما نكون أبدا
أو لا نكون أبدا
إما نكن أمة من أعظم الأمم
ترهبنا الدنيا وترجونا القيم
ولا يقال للذي نريده لا
ولا يقال للذي نأبى نعم
تدفعنا الهموم
لقمم بعد قمم
أو يا بني قومي نصير قصة عن العدم
تحكى كما تحكى أساطير إرم
غداً وما أدنى غداً لو تعلمون
اما نكون أبداً أو لا نكون
والآن وبعد هذه القراءة العجلى والملاحظات العابرة عن شعر باكثير وريادته في تجديد القصيدة العربية تجدر الإشارة إلى ان الرواد عندما يولون على الطريق ربما لا يسيرون إلى نهايته أو إلى منتصفه، وهذا لا يقلل من أهمية أدوارهم وأثرها على من يسيرون على الدرب إلى النهاية. وكثير هم الرواد في تاريخ الأدب والفنون الذين كان لهم فضل الإمساك بالخيوط الأولى الظاهرة أدبية أو فنية ثم ارتبطت بأسمائهم، لكن هذا ويا للأسف لم يحدث مع الرائد الكبير علي أحمد باكثير.
هوامش:
6 نفسه ص165.
7 «أزهار الربى في شعر الصبا» المقدمة: ص17.
8 نفسه: 141.
9 د. عبدالعزيز المقالح: علي أحمد باكثير رائد التحديث في الشعر العربي المعاصر، ص56.
10 هلال ناجي: «شعراء اليمن المعاصرون» ص251.
11 د. عبدالعزيز المقالح. المرجع السابق: ص52.
12 نفسه ص12.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|