استراحة داخل صومعة الفكر لهفة جديدة هدى الدغفق سعد البواردي
|
لست سوى امرأة تأكل النوايا.. تتوضأ بالأحلام الخجلى.. ترشف العسل.. تزهر الأبناء.. ستذبلين لا يحنو عليكِ سوى أرض تلملمك حفرتها السوداء.. هكذا»
بهذه الكلمات طرحت الشاعرة مشاعرها، وخلجات نفسها كامرأة.. كأي امرأة تدب على وجه الأرض.. وتحتمي داخل حيطانها واسوارها المغلفة بستار تملؤه الخشية أحياناً.. وتهزه الريح الغاضبة أحياناً.. ونحن الجنس الخشن لن نترك لأوجاعها وحدها التفرد.. نحن معها شركاء في اكل الزوايا. وفي خجل الأحلام ووجلها.. وفي ارتشاف العسل الحلو والمر. وفي الذبول دون حنو.. أما الأرض فإنها لا تفرق بين ذكر وأنثى وهي تلملم اجساد الأموات الأحياء، والأحياء الأموات داخل حفرها الصامتة المغلفة بالوحشة.. بماذا تحدثت عن خصوصية سمائها كامرأة؟! وبأية مرآة عكست ملامحها المنظورة والمستترة من خلال رؤيتها؟!
«نتفت ريشتها
المعصورة
ناولتها اياه
طارت
يداه جنان»
من يكون هذا الخفي الذي اقدم على فعلته؟ انه مجهول لا تقوى حواء على المجاهرة به.. وهذا قتل للصورة الشعرية.. التي اختصرت اطلالتها عن بُعد.. فلا هي رأت.. ولا هي رؤيت.. ولا صدى الكلمات طرق المسامع.. واقنع السامع بأن للحكاية حكاية.. بداية تفتقر إلى نهاية يا شاعرتنا الكريمة..
«صدى» لعله الأكثر ترجيعاً وايقاعاً ووقعاً:
«أحياناً
أبكي هذا القمر المتسلق غرفتنا
ما ذنب عقاربه تضيء؟
أُسلمه الوحدة كل مساء
يسلمني عينه العاشقة».
العقارب يا سيدتي لا يستضيفها القمر.. وإنما الحفرالليلية المعتمة.. ومع هذا التباين في التوصيف قد نأخذه قضية مسلمة حين نتصور القمر ساعة تدق وتدور عقاربها في عملية حساب ترصد الزمن وتحصي حركاته. وسكناته..
«شجيرة» عنوان.. تحت ظلالها وبين اغصانها وحشة سكون مقلقة.. ومغلفة بالصمت:
سكونها يزعزعني
كلما أنصتُّ إليه
الصخور المتكاتفة تلملم بركانها
منذ سنون
سكونها ليس إلا إرادة الصخور المتكاتفة
في أحشائها شجيرة لاتبدو الآن»
من يقدر فينا على سماع السكون إلا إذا كان ذلك الذي يسبق العاصفة.. ثم «منذ سنون» مضاف ومضاف إليه هكذا «منذ سنين».. المحير في الأمر ان الشجرة اختفت عن الأنظار.. ربما هي رمز نماء اعتصرته رياح الشتاء المعربدة واهالت عليه ترابها.. وقبرتها بين الصخور حتى لا ترى النور.. ربما.!
هذه المرة أكثر إشراقاً.. الصياغة ورسم الكلمات أكثر وضوحاً في مقطوعة «شروق»
«ماتت قليلا عيناي
غضِبَ الليل عليهما
هاجت روحه بياضاً
كفنها الصباح
رقصت الشمس في صدري
رفوفها رئتاي
كلما تحرك غصن.. تخفقان»
لقد استعارت من السبات صفة الموت.. والنوم موت مؤقت.. لماذا إذاً يغضب الليل..! من حقه الغضب لو أنها لم تستسلم لدعوته وتمردت على سلطانه باليقظة.. ولكن مالنا ولغضبه ما دام الصباح أعطى لها الوقاية والحماية كي تستعيد صحوتها على إيحاءات رقصات الشمس.. ووقع طبول رئتيها.. أمر جيد يدعو للفأل بنهار لا ظلمة فيه..
«عادة» مقطوعة مقتضبة إلا أنها غنية وثرية بالمضمون..:
«في موكب عزائها
هلت الأشجار دموعها الصفراء
الأغصان التي شيعتها
وعدتها أن ترضع صغارها»
حس أنثوي لا نقدر نحن الرجال على رسمه.. دموع فراق.. لا عودة فيه.. ووعد وفاء ممن تبقى برعاية من لم يمت» الصورة وجدانية.. ومعبرة.. ومختصرة المساحة..
شاعرتنا الدغفق استهوتها هذه المرة اقتحام الغابات.. وراحت ترقب العصفور الطائر والغصن الطائر وجذع الشجرة داعية ظلالها الاسترخاء والتدفق واغراق الأرصفة:
«شلالكِ سيطفئ موقد الشمس
أهدابي ستشتعل قناديل
بهجتها حفيفك
يرقص في طمأنينة الليل»
مرة تحتفي بالنهار.. وأخرى مغايرة تتعشق الليل وترقص في طمأنينة على صمت سكونه.. هكذا نحن البشر لا يعجبنا العجب.. ولا الصيام في رجب.. ما نعافه اليوم نطلبه في الغد.. كلٌّ حر في خياره. واختياره..
«تلميذات».. وهل أصدق من المرأة.. وبالذات إذا كانت مدرسة رسم الصورة المثلى أو السفلى لواقعهن:
«سيطرز درس أحرفه
التلميذات سيقرأن.. ما أعذبه.!
صوتهن فيه الدروس كلها تهيم
على كتف المدرسة دجاجات..
يومياً هذا موعدها.
تقشع الحرف عن الكلمات
في ناحية أخرى
بواب يتراعد منه السور
يصرخ في شارع أعينهن..
موعدها الآن العاشرة صباحاً
تطهو سيدة قرب السور وجبتها
جوعهن بلا جَلَد يشمها
يغضب موضوع اليوم، ويرضى
في أصواتهن يا لعذوبتها شفاه
تتنفس ورد الكلمات
تتشقق من تكرار الدرس..
أحرفهن عطشى..
حواسهن تتلفت
دون عيون نحو المعنى»
اخترت القصيدة كاملة لقدرتها على التعبير، والتصوير لحالة نفسية وزمنية ما زالت مرسومة في الذاكرة..
القصيدة لجمالها لا تحتمل أية إضافة..
المرأة.. وهذا اعتراف لا جدلية فيه أصدق حساً من الرجل.. وأدفأ عاطفة.. وأقدر على رسم خصوصياتها
من هنا تأتي صورها مشبعة برقة . د. حنان. دونهما ما نملك.. ماذا عن حنانها؟!
«على الرصيف الأبيض تهوي كفاه
يتورم وجهه
في التنُّور يحبسه الرغيف الأحمر
رائحته الشهية، عاطفة الخباز..»
رسم بالألوان.. الرصيف وبياضه.. والرغيف بجمرته.. والخباز الذي يصطلي بوهج التنور تورم وجهه.. من اجل إشباع غيره مكتفياً بالرائحة الشهية.. التنور كان حكراً للمرأة الى وقت قريب قبل أن تفتح الأفران أبوابها معطية للمرأة إجازة مفتوحة بعيداً عن الكثير مما كان تحت عهدتها..
«حرير» أربعة تعريفات في أربعة أبيات هي في محتواها قصيدة قصيرة تغني عن ديوان:
«الشجرة قبو
بابها أرضنا
جذورها قبورنا
يحيا فيها ماء آبائنا»
المزيد المزيد يا شاعرتنا المرهفة.. المرفهة وجداناً.. وتحناناً..
سبورتها البعيدة مصدر عشقها.. وقد كبرت عن الطوق..
«لم أعد التلميذة الساكنة في كرسيها
ومازلتُ أفرُّ من كل دفتر يشبه دفتر المدرسة
قبل أن ألبس العباءة
نسجت روحي عباءة لدفتري
فيه خبأت بذورها..
لا أدري بعد.!
لماذا تنبت في الصف قصيدتي»
وتستكمل الصورة التي كانت تطوقها، شرود في حضرة الدرس.. عيناها تتسلقان صوت المعلمة، والجدران والأسقف هروبا من سبورتها القديمة إلى أخرى.. عيناها أخيراً تشرقان في خيمة صفها بمصابيح شعرية ثرية الذكرى اطفأتها أكثر من مرة على غضبة المعلمة وهي تهوي بأصابعها على الدفتر المسكون بقصائدها لينتهي بها المطاف الى قطام من الطرد خارج أبواب الصف.. رسم لتجربة بقيت ماثلة في شريط ذكرياتها.. «تزاوج» عنوان لأبيات ثرية موحية بصورها رغم قصرها..
«فضه..
على صدر الصباح ترتعش
الشمس جمرة عسلية
مساء تلعفها الشفة الزرقاء»
وكأنما تريد أن تقول مقولة الشاعر الحكيم:
ما بين غمضة عين وانفراجتها
يغير الله من حال الى حال..
صباحها كان ملكا لها.. وفي المساء أصبحت ملكا لغيرها.. لا يهم لون الشفة عند التزاوج.. وإنما الاستقامة قبل.. وبعد.. قبل لم تكشف لنا شاعرتنا أي شيء يمكن البناء عليه.. وانما منحتنا فرصة التعرف على أشياء
«تستقيم اواخرها» ما هي؟ وماذا تكون؟!
«جثث تستشهد على جدرانها حواف الأفق
لا دهشة فيها كعادتها
الطرق المستقيمة تخنق شرودي
بروائح الأرجل الميتة
موحشة، وحشة العواصم
مسطرة بلا اركان»
لماذا كل هذا الاغراق والاستغراق في دائرة الضيق؟ الأسباب جاهزة.. الزهور والأشجار تنهار على رصيفها تركلها أحذية حاقدة.. شوارعها المتعرجة الغائرة أحياناً هوادج.. دروبها الجاحظة وسائد تدغدغ رؤوس اناملها.. لهذا تكره ما اقامته سواعد الحضارة المادية دون قيم. ودون نظام ودون احترام للذوق.. واختارت عليه:
«الشوارع المتعرجة
استداراتها آمنة
غمام قلبها يذكرني بحضن أمي
وسادة روحي فراشة مدللة
اقفز في قطنها»
لماذا القطن؟ أليس الحضن أكثر دفئاً.. لا يهم.. لقد احسنتِ الاختيار.. بقدر ما تكبر المدن تصغر قيم كثيرة الى درجة الاغتراب.. والاقتراب من حافة العدمية الاجتماعية والأسرية..
«هديتك» مسك الختام لديوان شاعرة اكدت وجودها على ساحة الشعر عن جدارة واستحقاق رغم ان نهجها الشعري الذي اهدته.. وامدته بعصارة فكرها وتجربتها جاء منثورا.. إلا ان الروح الشعرية طغت على ملامحه وسمحت له بأحقية الانتساب رغم توافر مقومات الشعر وشروطه وحدوده التي تفصل بينه وبين النثر..
«هديتك» تقول كلماتها الموقعة بإمضاء احاسيسها المرهفة:
«قبل أن اهبط الى عش نومي
افتح سقف السماء لك
أهدي بدر الليلة
قبل ان تأكله العتمة»
خوفاً على البدر من ان يطاله المغيب.. أو تسبقها اليه واحدة تقدمه هدية لحبيبها آثرت ان تكسب السبق وتلتقطه بحسها المرهف وتقدمه على طبق من بلور هدية محبة لمن أسر قلبها.. وتملك وجدانها:
«العقبة قصيدتي
سيعجنه الغد
لن يبقي من رغيفه
سوى فتات النجوم
تلملمه طيور
تفقسه بيضة أول الشهر
رغيف ساهر
تأكله العتمة
إذا لم تلعقيه حبيبتي»
هكذا شبهت البدر برغيف العيش في استدارته. وفي قيمته.. حرصت ان تقتنيه بدراً لا هلالاً وعرجونا لا يصلح ان يكون عربونا لحب لا حدود لتوهجه..
انه حب الشعر الذي يرسمه خيال الشاعر ويصطفي من قصيدته بطلا يحاوره.. ويشاوره ويسامره.. هكذا اختارت شاعرتنا المجيدة هدى الدغفق توظيف مشاعرها وخواطرها بين الرفض مرة. والقبول أخرى من خلال تجربة حية عاشتها، او عايشتها اعطتها لنا من خلال أبيات قصيرة الحجم كبيرة الدلالات.. تأسيا بالحكمة القائلة.. ما قل ودل خير مما طال.. وملّ.. نشكر للناثرة. الشاعرة بمشاعرها.. التي سمحت لي بأن أكون مع ديوانها رفيق سفر.. ونعم السفير لشاعرة من بلادي قدمت أوراقها على بلاط الفكر واعتمدت كسفيرة بدرجة جيدة جداً..
الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321
فاكس: 2053338
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|