قصة قصيرة منى وفيق حقداً.. عشقاً.. وجنوناً!!
|
من الجرح يولد الأدب
(بين الذكرى والنسيان، الآلام والآمال، العدمية والوجود. كان الرحيل هو الحقيقة الوحيدة التي باتت تنتصب أمام البصر قبل البصيرة. أحبك).
إنها كلماتك التي تركتها مع صديقك أحمد. فأنت تكره لحظات الوداع، ثم إنك كنت قد اكتفيت بعد مشاحناتنا الأخيرة وسلمت بأن قراري بعدم السفر معك هو نهائي ولا رجعة فيه!
كلماتك التي أضحت نشيداً نزقاً يحمله قلبي، بل أشواكاً من العوسج تدمي ضلوعي كل حين!
ياااااه.. وذيلت تلك الجملة بأحبك؟! كم تبدو عقيمة هاته الكلمة!
أتذكر كلماتك تلك بعد كل هاته السنوات.. لا لأتلذذ بحزني الذي أدري أني سقطت فيه إلى الأبد، ولا لأقتلع رائحتك من مسامات جلدي فقد تساقط جلدي ولم تسقط أنت. وإنما لأوقن من جديد أني مع كل نبضة كاذبة عشقتك كذباً، بكيتك كذباً، لأموت وأحيا كذباً! أين هو (دانتي) شاعر الكوميديا ليدرك أنه كان جد مخطئاً إذ ظن أن الحب يحرك الشمس والنجوم!
يومها، جئتني فرحا تلوح بيديك الاثنتين وتهتف قائلا إننا سنمتطي صافنات المجد والثراء.
كنت أنصت إليك وأنت تتحدث عن مستقبلنا هناك في تلك الدولة الاسكندنافية.. النرويج. أتراك كنت تزمع قبلا أن تدفن قيمك وأحاسيسك تحت الجليد؟
تكلمت مطولا عن صديقك الأمريكي (جورج) الذي عرض عليك العمل معه مقابل راتب مغر. لا أدري لم؟ ولكني كلما سمعت اسما من أسماء (آل سام) أتذكر قولة لديغول عن أن الأمريكان إضافة إلى قوتهم وشجاعتهم هم أيضاً أغبياء! أحسست أن الصفة الأخيرة تنطبق وتليق أكثر بجروج هذا الحاخام العتيق!! ثرثرت كثيرا وكثيرا، ومن فرط صدمتي لم أكن أجيبك. كنت أحدق فيك وأسدر في الصمت العميق. أتأمل قوس قزح الذي أصبح بالأبيض والأسود. كيف لي أن أحدثك عن حلمنا بتأسيس رابطة القلم العربي.. بتحقيق ذواتنا في وطننا. وأنت سعيد لأنك ستترأس إدارة شركة المشروبات الغازية بأوسلو. كيف أذكرك بالمعري وامرىء القيس ومحمود درويش وأنت لا تكف عن إطراء جورج وذكائه وعبقريته في مجال الأعمال الحرة.
ها أنت تعود بعد سنوات من الغياب لتقول إنك ما انفككت تحمل حبي أيقونة على صدرك.. وتقسم أن حبي يسري في جسدك سريان النار في الهشيم!
ماذا؟ سئمت أن تتكرر فيك أسطورة سيزيف؟ أن تحمل الصخرة من القيم والمبادئ حتى قمة الجبل وتسقط منك من جديد؟
أنت من يقول هذا!؟ أنت الذي كنت تحثني على ألا أستحيي من قلبي ولا أخجل من فكري ولا أختبئ من ذاتي!؟
أين هي روحانيتك الطاغية؟! إصرارك على عدم الانحناء للإكراهات والإغراءات؟
أين هو ذاك المجنون الذي طالما حملته في معطفك؟ وحسك الثوري المرهف ماذا فعلت به؟
عفواً؟ تقول إنك ضقت ذرعاً بهذا التشرذم وهذا النوم الطويل الساكن في أجفان الأمة!؟
هل أنت (سعيد) الذي أحببته بكل جوارحي؟! سعيد الذي عشقت مزاجيته التي يتنفسها مع الهواء والشقاوة الطفولة التي تقفز فجأة إلى ملامحه، سعيد الذي كنت أتكسر كالموج على شواطئه؟! لم عدت؟ لتقول إن أرضنا العربية هي أرض الخسارة والتردد والتراجع الفكري والنرجسية المتجذرة!؟
كلا!! أرفض عباراتك الزائفة هذه! أنت رفعت نشيدك الفردي ورحلت. أجل... صحيح أني محبطة من أم رأسي حتى أخمص قدمي بعد أن دجّنا! لا أنكر أن الحزن يقتاتني يوماً بعد الآخر، ولكم روحي لم تصب أبدا بالصدأ! كما أني لا أنظر للغد بعيون الأمس!
أتدري؟ في الوقت الذي كنت تلتقي حسناواتك الشقراوات، كنت أنا أجاهد لأحتفظ بنقوش الجمال داخلي! حين كنت تطعم للريح مبادئك وأخلاقياتك.. كنت أكتب لأقاوم تفاهة المحيط.. أكتب لأحيا داخل كتاباتي وليحيا الآخرون داخلي! لم أختبئ وراء العبارات الأدبية كما يفعل الآخرون، بل ظللت أغمس القلم في مداد القلب.
اليوم تعود وأنت تمضغ كلمات إنجليزية... ماذا عن دفء لغة الضاد؟ اليوم تعود وأنت تضع عطرا أمريكيا؟! كيف لجسد عربي أن يتعطر بدم فسطيني!؟ كيف؟!
تسألني عن نعومتي الآسرة وشقاوتي الرومانسية. أنت تجهل أنه لم يهمني سوى أن أحتفظ بفلسفتي التي ترفض الإقبار! فلتدرك أن صورتك لم تلكز يوما القناعات الهاجعة في روحي. تمنيت لو أني استطعت ألا أسمح لعلاقتك أن توجعني وأن أحسمها كدكتاتور لا يرحم، بيد أن قلبي ديموقراطي!
رجلي المنفي أنت، لكن أبدا لست الوطن!
بعت القدس.. بعت الله.. بعت قرونا من الزهو العربي.. بعت أحلامنا لتشتري مركزك المرموق.. أناقتك ووجاهتك، ثروتك وربطات عنقك الفرنسية. كم أشفق عليك، فكل هذا لايعدو أن يكون انتصارات وهمية وأهدافا صغيرة جداً لا علاقة لها بكينونتنا، بوجودنا، بحقيقتنا الكبرى: القدس!!
تستفزني نظراتك إلى كرسي المتحرك.. إنها رصاصة غادرة اخترقت ظهري وانفلتت من بين ضلوعي. تسألني عن السبب؟ لأنني صرخت: القدس عربية!! أتصدق أنه وسام على صدري! وأيم الله إن الحياة لتسري في رجليّ وإن كانتا عاجزتين عن الحراك!! اليوم نتبادل الأدوار، فأنا التي سترحل، لكن لأكمل المشوار الذي بدأته هنا في وطني. سأنضم إلى جمعية الهلال الأحمر بفلسطين بعد أن درست التمريض. أما أنت فستظل هنا!! يا للانتقال المتحول فمن رئيس لشركة مشروبات غازية، إلى رئيس لشركة لإنتاج الخمور.. ها!!
حين رحلت، تركت لي كلمات. وأنا اليوم أترك لك كلمات مولودة من وجع الفصحى، من وجع الجرح. تلتقي اليوم عينانا وكأنك لم تكن يوما بأحلامي.. وكأني لم أكن يوما بأحلامك! أنت اليوم غريب عني.. غريب عن وطنك!
أحبك.. لكن تسكنني امرأة ترفضك.. عدتَ لأرحل.. ووجدتك لأضيعك!!
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|