الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الجزيرة
Monday 28th June,2004 العدد : 65

الأثنين 10 ,جمادى الاولى 1425

استراحة داخل صومعة الفكر
سعد البواردي

في أدبيات الشعر تتباين الرؤى.. وتختلف الصور بين متفائل ومتشائم.. بين من يأنس بالليل وبين من يوحشه الظلام.. بين من ينزح إلى الوحدة ويستغرقها حباً.. وبين من يرتاع من وحشتها ولا يطيق لها استبطاناً ولا استيطاناً..
الحنين يراه البعض مذاق حب حلو.. ويراه آخرون بأن له مرارة الحنظل.. وبين الخيارين يحتار التصنيف ويجد لكل طرف مسبباته.. وأسبابه..
وحنين شاعرنا التركي محمد عاكف إلى أي اتجاه ينحو؟ والى أي مشرب يتذوق؟ لسوف نتناول شعره من خلال صياغته وترجمته إلى لغتنا العربية كما أعطاها لنا الأستاذ أحمد الخاني.
في قافلته الأولى يقول:
وجه السراب كموج الزورق الغرق
يصب بركانه من هامة الأفق
لفح الصحارى لهيب طار من سقر
مع السراب خرير النار في الشفق
يشوي اللهيب ضلوع البيد لامعة
هذا السراب دموع الرمل في الحرُق
من هذا الخيال والأفق الصحراوي نستشعر رحلة شاعرنا من بلده الخصيب إلى حيث اللهيب في الصحارى العربية القاحلة ما بين عامي 191617 من أجل إيقاظ روح الجهاد المقدس ضد الاستعمار الأوروبي القائم آنذاك.
يا وهج روحيَ يا صحراء فابتسمي
وعللينا فأنفاس المساء نفي
في كل يوم لنا عيد يجددنا
لما ثوى قرصها في جرحه النزف
غيم وطل على صخر فيورق في
ومض المحاجر. فازجر دمع مغترف
كانت الصحراء بالنسب إليه غيمة غاربة.. والسكن لديه خيمة هاربة من مضاربها تسوقها الريح إلى حيث لا تدري.. ومع بصمات التصحر والجفاف من حوله كان مشهده يبصر الأشياء بشكل باطني مختلف عن ظاهره
صحراؤنا صمتت.. والحال ناطقة
تتلو علينا الهوى والشمس في الطُّفل
كحل الصحارى أنيق في نداوته
يخضل هدب الشذا في دوحه الخمل
وبَردها ثلج قطب طيفه برد
للروح عند انصهار الرمل كالشعل
لم تعدم شاعرنا القادم من بلاد الطبيعة الساحرة.. لم تعدمه الصحراء بجبالها العارية.. وأرضيتها القاحلة.. بل استطابها وتغنى لها.. وبها لأن المكان عنده إنسان.. ولان الزمان عنده أشبه بطائر يحلق بجناحين مختلفين ومؤتلفين في نفس الوقت.. لكل منهما وظيفته التي تكمل الوجه الآخر.. فالخصب وجه فصل زمني. والجدب وجه فصل لنفس الزمن.. الزمن واحد وان اختلفت بعض ملامحه..
لقد طاب النسيم الصحراوي إلى درجة الصبوة..
يا نشوة من نسيم زار في سحري
فرقص القلب عزفاً دونما وتر
برد السحور سرى في مهجة ذبلت
تبرعم الجذع آلافاً من الصور..
تتلاحق المشاهد أمام عينيه.. وتتابع الأخيلة لدى شاعرنا وهو ينتقل فوق راحلته من أرض ترابية. وصحراوية إلى واحة من أجل استراحة يغفو على أحلامها الجديدة داخل شريط ذاته.. يطبعها شعرا قزحي الألوان فالعود أزهر في بحر موجه ندى.. والبدر أشبه بالبستان في بحره البرد.. وحوله الزهر والورد.وهمس النجوم.. وقوافل الرعاة..
تهمي أحاسيس وجدي في مسامرة
همس النجوم بدا في لحنه الغرد
صور جمالية من حوله لم يألفها ولم يعرفها من حيث جاء شدته إلى وثاقها طائعاً. بل وعاشقاً. فالإنسان ينجذب بطبعه إلى ما يفتقد..
هام الشعور هياما قد فنيت به
فهل يضيق الهوى حتى مدى الأبد؟
يبدو أن راحلة شاعرنا طوت الأبعاد بعد ادلاج.. واقتربت لحظة اللقاء من أقدس مكان سعى إليه وحج نحوه:
اروم خيمة ليل والهوى أرقي
هذي هي القبة الخضراء تزدهر
والنوق أضحت براقا عند رؤيتها
وهي تسيل إلى أعتاب قبتها
وتشده رهبة اللقاء وهيبة المكان.. ينسى ليلاه وديارها وشعره الذي تغنى بها.. أمامه عشق روحاني لا يدانيه عشق:
يا دار ليلاي روحي في الهوى سُفحت
دفنت شعري. شعوري عند روعتها
وشحت أمواج بحر في الهوى شغفت
(باب السلام) يندي عبق روضتها
وجاشت المئذنات الغر نوَّرها
(الله أكبر).. دوى الكون والحرم
ففاح بحر من الإيمان طهَّره
حب الرسول. فثغر الحزن ينفطم
وبعد أن طاب له المقام. وطابت نفسه من أدرانها غالبه التفكير القانت المشبع بالحب الإلهي وبأرض الرسالات
وما أفقت. رأيت الكون مندهشا
وكيف أطواره في الروح تندمج؟
تفديك يا مهجتي يا نور مقلتها
منا النفوس. فما الأرواح والمهج؟
ومن طيبة إلى الكعبة كان وصله متواصلاً أثراً. وشعراً..
لأجل كعبتك الأسنى بها شغفي
لأجل آيات قرآن بهن دعا
لآجل آيات خلق لا انتهاء لها
لآجل دمعة من لبى ومن سمعا
رباه فامنح لنا سراً يجددنا
كي ننتضي في ضيانا السيف والقلما
ومن رحلته الشاقة الممتعة عبر الوهاد والجبال والشعاب إلى حيث استطاب يأخذنا شاعرنا محمد عاكف في اتجاه آخر أعطى لنا شارة المرور إليه قائلاً: (لا بأس).. هذا هو العنوان:
هل ترى المصباح في الروح انطفى؟
هل جفاك الصبح؟ ما أقسى الجفا
بسمة الآمال فجر مورق
ورياض. ونعيم. وصفا
أبيات شاعرية مخملية الملمس تفيض عذوبة ورقة يخلص منها شاعرنا إلى ظلاله.. وشفقه الأخضر يحدثنا عنهما وعن الكثير من الخواطر..
يا ظلالا رقصت أهدابها
لنسيم الروض روحي قد هفا
الروح مؤنث.. وهفا تشير إلى المذكر.. القلب هو الأنسب..
شفق أخضر في روح الفتى
أي دمع من يؤوس قد شفى؟!
شاعرنا يضيق بالدخلاء على أرضه. الغرباء على ثقافته وعقيدته.
زحف الغرباء لأوطاني
سرقوا من حبي انساني
سملوا عينا. ذبحوا طفلا
سلبوا شيئا من أركاني
في روحي خنقوا صرخاتي
في جفني دفنوا بنياني
ويل للغرباء تمادوا
أيفيق الثأر بأوطاني؟!
يتساءل شاعرنا قبل قرابة قرن من الزمن عن الثأر النائم.. وما علم لو كان حيا ان الثأر قد مات بعد مرض عضال لازمه بضع مئات من السنين..
مات دون صلاة.. ودون صلات.. غرباء الأمس كانوا أفراداً.. وغرباء اليوم جماعات جماعات.. بتنا بينهم من الغرباء.. الثأر يؤخذ منا.. والنار تطلق علينا لأن مجرد دعوة إلى مقاومة تهمة وجريمة.. وإرهاب.
ومن فُجر الغرباء إلى فَجر السلام.. مصادفة غريبة أن يلتقيا في سطر واحد:
يا حنينا منذ آلاف السنين
بانتظار الطفل وضاء الجبين
يا انتظار البدر في عليائه
جئت سمتك البرايا بالأمين
لم يكن روح البرايا هانيا
كان روحاً صوته الحزن الدفين
زاد هذا العصر لؤما ودجى
في دموع.. وأنين. ورنين.
هكذا وبهذه الروح الإيمانية استقبل شاعرنا فجر الإسلام.. فجر السلام على يد خير الأنام محمد بن عبد الله صلاة الله وسلامه عليه..
يا يتيما جئت أكوان الدنا
وقلوب رديت حزن السراب
فغدت مرجاً. وظلا.. وندى
حُلت الأغلال من فوق الرقاب
ومن السلام إلى الخصام دون استئذان أخذتنا قصائد الديوان بحنينها وأنينها لشاعرنا التركي محمد عاكف
شجاني يا أخي عبر عتاق
شعوب الشرق أنعام تساق
فما الجدوى لأمثال؟ أتروى
من التاريخ مشربها النفاق
وهل فتحت عيون الشرق طرفاً
على ما كان؟ ضاق بها النطاق؟
صرخة من عمق الماضي القريبة تهز فينا النخوة إن كان لدينا شيء من النخوة.. تذكرنا بالصحوة.. فالغيوم من حولنا مدلهمة.. وشمس الشرق تغرب. وشمس المغرب تشرق.
فشمس الشوق تغرب كل صبح
وتشرق في المساء من المغيب
جراح قد تغرد من شهيد
وألف دم جرى زمن الحروب..
هذا من زمن.. اليوم الدم يسيل ويشكل جداول تجري.. والجماجم تتراكم وتشكل جدرانا موحشة يرهبها الزمن.. اليوم يتحدث مصاصو دماء البشر عن الحرية. وعن الديموقراطية وعن حقوق الانسان.. ولتحقيق هذه الشعارات الخادعة يقهرون الشعوب. يرهبونهم بحق القوة.. السؤال: أين هي قوة الحق فينا نحن المقهورين أصحاب الحق؟! (سؤال.!) لأننا لم نعتصم بحبل الله جميعاً وتفرقنا. (جواب).
الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
كتب
مسرح
ذاكرة
مداخلات
الملف
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved