ليست المعرفة كلها أفكاراً تحصل بالاستظهار والحفظ..لابد من الابتكار
|
أهمية الكتاب الجامعي
* على الرغم من أن قوام الدراسة الجامعية الانفتاح على أوعية المعرفة بما فيها المصادر والمراجع، فإن الطالب الجامعي يحس أن وجود حد أدنى من المرجعية يكفل له طمأنينة نفسية، وهنا تبدو أهمية للكتاب الجامعي، ولكن المتوقع أن يكون الكتاب ذا مقومات خاصة، فما الذي ترونه في ذلك؟ الحق أننا لسنا أمام كتاب واحد بل كتب، لأن الكتب تختلف باختلاف مجالات الدرس وتختلف من لغة إلى أخرى، ومن المعلوم أن التدريس في جامعاتنا مزدوج اللغة للأسف، فمنها ما يدرس بالعربية، ومنها ما يدرس بالإنجليزية. وأما الكتب العربية فمنها كتب مترجمة، ومنها كتب مؤلفة ألفها أساتذة الجامعة، ومنها كتب تراثية قديمة، وإلى جانب ذلك مذكرات قد تكون من إملاء أستاذ أو سماع طالب، أو هي ملفقة من كتب مختلفة لتؤلف مذكرة يعتمد عليها الطلاب، ولس باستطاعتي أن أضع المقومات ما أزعم أنه صالح للكتاب الجامعي دون مراعاة للاختلافات النوعية بين مقررات القسم الواحد بله الكليات المختلفة، ولذلك سوف يكون كلامي موجهاً بشكل أساسي إلى الكتاب الموجه لطلاب النحو والصرف، ولكن هذه المقومات في توجهها العام دون تفاصيلها المعتبرة لخصوصية الدرس اللغوي هي صالحة في تقديري لكتابة الكتاب الجامعي.
* لعلنا إذن نبدأ بأهداف الكتاب الجامعي التي لعل منها تزويد الدارس بمادة المقرر؟ الكتب أوعية المعرفة وخزائن الثقافة الإنسانية على مر التاريخ، وإنما بدأ التاريخ بالكتابة والهدف من الكتاب الجامعي أن يزوي للدارس المعرفة النظرية أو يتضمن التدريبات العملية المعتمدة على تلك المعرفة أو يجمع بينهما محققاً الغرض المنشود والخطة المتوخاة.
على أن الكتاب الجامعي ليس كأي كتاب آخر، إذ هو موجه لفئة خاصة وهم طلاب المقرر المعين، وهو ليس كتاباً موجهاً للقارىء العادي، ولذلك ينبغي أن يتصف بصفات خاصة في محتواه وشروطه ولغته.
المحتوى
* ما صفات محتوى الكتاب الجامعي؟ يشمل المحتوى أفكار الكتاب الأساسية ومصطلحات العلم الذي يعالجه، والأمثلة التوضيحية التي تجلي الأفكار والشواهد التي تؤيدها والجداول التي تجمل البيانات والتدريبات التي تمكن الدارس من إتقان المهارات.
الأفكار الأساسية
كانت الفلسفة عند القدماء جماع العلوم حتى تشعبت وما زالت العلوم تتشعب وتصير كل شعبة علماً قائماً بذاته، وإن مت إلى غيره بسبب، ومن سمة العلوم التراكمية والنمو المطرد والاتساع حتى أضحى من العسير على المتعلم أن يدركه كله بتفاصيله ودقائقه، وصارأمر تدوينه يحتاج إلى كتب موسوعية كبيرة،على أن العلم على اتساعه وضخامة القول فيه ينطوي على قضايا أساسية ومبادىء عامة.
ومن أجل ذلك كان لابد من التنبه إلى أن على الكتاب الجامعي الذي يعالج مقرراً من المقررات أن يركز في محتواه على هذه القضايا الأساسية، ولا يغرق في تفصيلات جانب مهملا جوانب أخرى.
مصطلحات العلم
المصطلحات هي مفاتيح العلوم التي يمكن بها فهمه وضبطه والجدل فيه وإنماؤه، ومن أجل ذلك لابد من اهتمام الكتاب بشرح مفاهيمها شرحاً دقيقاً بعيدا عن طريقة الحدود النحوية، وعلى الكتاب بيان ما بينها من عموم وخصوص، مثال ذلك الفعل الناسخ والفعل الناقص، فالأول عام والآخر خاص. وبيان المشترك من المصطلحات في العلوم مثل الفعل الناقص في النحو والفعل الناقص في الصرف.
الأمثلة التوضيحية
لا تتجلى المعرفة النظرية أو غير النظرية حتى تؤتي أكلها إلا بأمثلة توضح جوانب الأفكار فيها، وهي أمثلة من المشاهدات، فالأمثلة تقف بالمتلقي على الظواهر متحققة أمام ناظريه، وينبغي وضع الأمثلة المقبولة التي ليس منها مثال ابن عقيل في باب الاشتغال (ضربت وأكرمت زيداً) (1). وأنى يجتمع الأمران، ولا مثاله الآخر في باب عطف النسق: (الذي يطير فيغضب زيد الذباب)(2).
الشواهد
وتحتاج بعض الظواهر والأفكار إلى شواهد تدل على صدقها وأصالة منبعها، وأن ليست مخترعة من فراغ أو هي محض افتراء.
الجداول
قد تحتاج المعرفة إلى تقديمها بوسائل تعين على تلقيها على الوجه الأمثل. ومن ذلك الجداول التي تنظم بشكل بصري دقائق الموضوع، فيغني عن كثير من التفاصيل، ومثل الجداول الرسوم التوضيحية والأشكال البيانية، وغيرها من الوسائل البصرية، وقد يقتضي الأمر وسائل سمعية ترافق الكتاب.
التدريبات
ليست المعرفة كلها أفكاراً تحصل بالاستظهار والحفظ، فطائفة منه جملة من المهارات التي لا تحصل إلا بالتدرب عليها، ولذلك لابد من ابتكار التدريبات التي تكفل للدارس إتقان المهارات، ومن شأن هذه التدريبات أن تكون متدرجة في بنيتها متراكمة في مضمونها فينبني بعضها على بعض.
* هذا عن محتوى الكتاب الجامعي، فما الشروط التي تحقق للكتاب الوفاء بأغراض المحتوى؟ للكتاب الجامعي شروط يجب مراعاتها ليحقق الثمرة المتوخاة منه، ومن هذه الشروط وضوح الخطة المتبعة، وملاءمة الكتاب خطة ومحتوى لمفردات المقرر، ودقة المصطلحات واطراد استعمالها، وقدرته على إثارة الأسئلة والقضايا، واتصافه بالتسلسل المنطقي والتراكمية، وتوثيق المعلومات بعزوها إلى مصادرها ومراجعها، والإحالة إلى مراجع ومصادر لتوسيع بعض القضايا، وإضاءة بعض جوانب مضمونه بحواش موجزة.
وضوح الخطة المتبعة
إن مما يعين على الاستفادة من الكتاب الجامعي أن يكون واضح الخطة بيّنها، فلا يكون ركاماً من المعلومات المسوقة دون خطة واضحة، ولابد أن تكون الخطط الموضوعة صادرة عن دراسة واقعية لما يحتاجه المجتمع من العلوم، ففي ميدان تعليم النحو مثلا نجد أن خططنا جامدة عند مفردات علم النحو القديم، وفي الغالب عند اختيارات ابن مالك من أقوال البصريين والكوفيين. ونحن بهذا لا نلتفت إلى حقيقة بينة، وهي أن اللغة كائن متطور، ويتضمن هذا تطوراً في الأنظمة والقوانين، وفي هذا المجال ذهب السعيد محمد بدوي إلى أن هناك نحوين واحد ندرسه ولا نحتاجه، وآخر نحتاجه ولا ندرسه (3)، والجلي لنا أننا نواجه في كتابات المحدثين من الجمل ما يستعصي على التحليل الإعرابي، وهذا يستدعي إعادة دراسة التراكيب بما يكفل لنا صحة التحليل، وربما يشيع هذا النوع من الجمل في النصوص المترجمة عن لغات أجنبية.
* ملاءمة الكتاب خطة ومحتوى لمفردات المقرر.
لا تتحقق الفائدة المرجوة من الكتاب الجامعي ما لم يكن ملائماً في خطته ومحتواه لمفردات المقرر الدراسي، فمن حيث الخطة يجب أن يكون الكتاب مرتباً وفق مفردات المقرر، وأن يستغرق محتواه على نحو متوازن تلك المفردات، وقد يتحقق هذا في الكتاب المؤلف وفاقاً لتلك المفردات، أما الكتب الجاهزة القديم منها أو الحديث، فقد لا يحقق الغرض، ومن الغريب أن تنعكس الإجراءات فيقود الكتاب بخطته مفردات المقرر، كما حدث في قسم اللغة العربية في جامعة الملك سعود حين عمد إلى كتاب ابن عقيل، فقسمت مطالب الكتاب إلى أربعة أقسام لتكون مفردات مقررات الأنحاء الأربعة، من دون مراعاة لأهداف خاصة أو خطة منهجية واضحة، وكذلك كان أمر مفردات مقرري علم الصرف، إذا كان الكتاب المتبع في التدريس هو كتاب( شذا العرف في فن الصرف) للشيخ أحمد الحملاوي، وهو شيخ أزهري كان يلقي دروسه في الأزهر، وجمعها في هذا الكتاب، وكانت الظواهر تتكرر في الكتاب لأن خطته مبنية على درس الأفعال بمعزل عن الأسماء، فعمدت أنا وزميلي الدكتور صالح الوهيبي إلى وضع خطة جديدة تجمع المتماثلات في حيز واحد، وزدت بعض المفردات، وعرضت على لجنة النحو والصرف وأقرتها، ومن أجل ذلك وضعت كتاباً يعالج هذه المفردات حسب الخطة المرسومة مستفيداً من التراث الصرفي، ومن جهود مجمع اللغة العربية وصغته بلغة سهلة وزودته بالجداول المطلوبة وحققت له ما استطعت من شروط الكتاب الجامعي، ووضعت له كراسة تدريبات مبتكرة بأمثلتها وجداولها المتنوعة التي تنتظم مطالبه، وقد قرر القسم تدريس الكتاب، وقد تقيد بعض الزملاء بتدريس هذا الكتاب، والتزم بعضهم بكتاب الشيخ الحملاوي لا لغرض علمي بل لأن صاحب الكتاب متوفى، هكذا سمعت أحدهم يصرح بذلك في مجلس قسم اللغة العربية.
ولابد للمحتوى أن يكون متخيراً بعد تمحيص ما نجده في تضاعيف الكتب التي تناولت موضوع الدرس، إذ نجد فيها ما لا يثبت على محك النقد، لأنه ثمرة قياس فيه من التحكم ما يدعو إلى التوقف فيه، ولأنه قد يكون انطلق من مصادرات غير مسلمة، ولعل نظرة إلى محتوى كتاب شرح ابن عقيل المقرر على أبنائنا في قسم اللغة العربية ما يوضح ما أريد، إذ نجد في كثير من أبوابه أمثلة وتراكيب تتسم بالركاكة، ويشك المرء بأنه من العربية في شيء، فمن ذلك المثال (أقادم أخواك) في باب المبتدأ والخبر، زعموا أن (قادم) هو المبتدأ وأما (أخواك) فهو فاعل ل (قادم) وسد مسد الخب، فإن يكن الإعراب فرعاً على المعنى، كما يرددون كثيراً، فإنا نعد الأول هو الخبر، والثاني هو المبتدأ. ومن ذلك ما يسوقه صاحب جعفر أبو جناح في بحثه عن (الدرس النحوي وأزمة الكتاب المنهجي) وهي مُثُلُ أخذها من كتاب ابن عقيل: منها المثالان: زيد هند ضاربها هو، وزيد عمرو ضاربه هو، قال معلقاً: وأكدوا هذه الصورة المفتعلة بشاهد مصنوع لم ينسب لقائل.
قومي ذرا المجد بانوها وقد علمت
بكنه ذلك عدنان وقحطان
ولعل القارىء البسيط فضلا عن القارىء المتمرس بأساليب العرب سيقف طويلاً أمام هذه التعبيرات الغريبة: زيد هند ضاربها هو، وزيد عمرو ضاربه هو، ليسأل إن كان من حق العربية علينا أن تقحم فيها مثل هذه النماذج التعبيرية المفتعلة.
وهل يمكن أن يكون هذا من أساليب الفصحاء أو من مألوف تعبيراتهم (4) ومن ذلك ما نصادفه في باب (كان وأخواتها) مثل قوله: والذي يظهر أنه لا يمتنع تقديم خبر (دام) على (دام) وحدها، فتقول (لا أصحبك ما قائماً دام زيد) كما تقول (لا أصحبك ما زيداً كلمت)(5)،ويقول في موضع آخر: ومفهوم كلامه (أي ابن مالك) أيضا جواز تقديم الخبر على الفعل وحده إذا كا النفي بما، نحو (ما قائماً زال زيد) و (ماقائماً كان زيد) ومنعه بعضهم (6)، وقال صاحب أبو جناح: في باب التنازع يبذل أساتذة النحو جهداً شاقاً من أجل تقريب مسائله إلى أذهان الطلبة، ثم لا يجدون ثمرة مجزية لهذا الجهد الذي يبذلونه، ولعل السبب في هذا الباب ثمرة مصطنعة لطريقة النحويين في تفسير الظواهر الإعرابية بموجب العوامل الموهومة في هذا الباب تلقانا تعبيرات مثل: ظنّني وظننتُ زيداً قائماً إياه،وظننت وظنّنيه زيدا قائما،وظننت وظنّني إياه زيدا قائما وظنّني وظننت زيدا ًقائما إياه، وأظن ويظنّاني أخازيدا وعمراً أخوين، وأظن ويظنّاني إياه زيداً وعمراً أخوين، ولا نرى ضرورة للتنبيه على أن الكلام المصنوع لم يرد في خطر أحد من العرب لا القدماء ولا المحدثين، وأن الذي أثمر هذا الإيمان المطلق بنظرية العامل النحوي وتأثيرها السحري على أذهان النحويين إلى درجة ارتكاب مثل هذه المفارقات في أساليب العربية الناصعة (7).
(1) ابن عقيل، شرح ابن عقيل، 1: 433.
(2) ابن عقيل، شرح ابن عقيل، 2: 233.
(3) السعيد محمد بدوي، مؤتمر تعليم اللغة العربية في المستوى الجامعي (جامعة الإمارت العربية المتحدة العين،1992م).
(4) صاحب جعفر أبو جناح، الدرس النحوي وأزمة الكتاب العربي (بحوث المؤتمر العلمي الأول، الجامعة المستنصرية، 1986م) ص 74
(5) ابن عقيل، شرح ابن عقيل، 1: 220
(6) السابق، 1: 221
(7) صاحب أبو جناح، الدرس النحوي وأزمة الكتاب المنهجي بحوث المؤتمر العلمي الأول، ص 80
............................................. يتبع
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|