محمد الشبل: شاعر (النداء) اليتيم د. إبراهيم عبد الرحمن المطوع*
|
قضيت مع شعر الشاعر محمد الشبل - أو بالأصح من ديوانه اليتيم (النداء)، وهو ما عنيته في العنوان - لأكثر من أربع سنوات في أثناء فترة إعدادي لرسالة الدكتوراة عن الشعر في منطقة القصيم، وكنت أسمع وأقرأ له وكنت متهيباً ومجلاً هذا الاسم الكبير في الأدب السعودي الذي قرأت له، وقرأت عنه في كتابات النقاد من أمثال: ابن إدريس، وعبد الله عبد الجبار، وابن حسين، والهويمل، وعبد الله الحامد، وبكري أمين، والخطراوي، ومسعد العطوي، وغيرهم، فلم أقرأ إلا الإشادة بشاعريته على مستوى الأدب في المملكة والإجماع على مكانته الأدبية المتميزة وريادته الأدبية، ووضوح بصمته الشعرية المميزة. وحين سألت عنه قيل لي: إنه ولد في عنيزة من أسرة كريمة، ثم رحل إلى أم القرى مكة المكرمة مبكراً لمواصلة الدراسة، وأقام فيها للدراسة ثم للعمل وأصبحت أرى الافتخار والاعتزاز بشخصيته وأدبه في وجوه من يتحدثون إلي ويعرفونه أكثر مني على الرغم من وقوعه في حب أم القرى التي أقام في أحضانها، وهي الجديرة بالحب والغرام مدة خمسين عاماً، وبدأت تسري إلى نزعة الزهو والتقدير، حين أسمع وأقرأ الثناء والإجلال عليه من أدباء المنطقة الغربية ومن تلاميذه وزملائه في مجال العمل وفي مجال الأدب. ثم عاد إلى مسقط رأسه أخيراً التي ظننا أنه نسيها، أو أنه لم يعد في قلبه متسع لها مع غرامه بأم القرى، لكن الأخيرة علمته أن من أخلاق الكرام الوفاء لمسقط الرأس فأذنت له أن يعود إلى حبه الأول، وقد اطمأنت إلى أن قلبه سيتسع لحب الغادتين (مكة وعنيزة). وحين أخذت في قراءة شعره ودراسته وتحليله وجدته ناضجاً مكتملاً في أدواته الفنية راغباً في تشكيل شخصيته الشعرية المتطلعة للتجديد، فنانًا يرسم لوحاته الشعرية بلغة ثرية متعددة الألوان، واستطعت رصد الكثير من الظواهر الموضوعية والفنية منها: 1- توظيف المعادل الموضوعي: يرى بعض النقاد (أن مهمة الشاعر أن يضحي بشخصيته، وأن يهرب من انفعالاته الفردية، لا أن يعبر عنها، وإنما يجيء تعبيره عن وجدانه بخلق موقف معين، أو بناء جسم محدد أو سلسلة من الأحداث تعادل الوجدان الذي يريد التعبير عنه، والفنان كلما كان عظيماً عمق فيه الانفصام بين الرجل الذي يعاني والعقل الذي يخلق، والشاعر الذي لا يتجاوز الذاتية إلى الموضوعية تفقد قصيدته تأثيرها الفني...) الطاهر أحمد مكي الشعر العربي المعاصر روائعه ومدخل لقراءته ص 91). ولتطور وعي الشعراء بمفهوم التجربة، ولهيامهم بالطبيعة، وتوقهم للحرية، ونشدانهم للمثالية، فقد أخذوا يبحثون عن الكثير من المعادلات الموضوعية التي أفرغوا من خلالها ما يجيش في أفئدتهم من أحاسيس وأحلام لم تجد لها على أرض الواقع مسرحاً يقوم باحتوائها، فاتخذوا من المخلوقات الطبيعية وغيرها تلك المعادلات الموضوعية، كالطير في القفص، والوردة والدوحة (محمد حمود حبيبي، الاتجاه الإبداعي في الشعر السعودي 2- 241) فقد اتخذ الشاعر محمد الشبل من (البلبل) في قصيدته: البلبل الأخرس معادلاً موضوعيا ليفرغ من خلاله ما في نفسه من أحاسيس وآلام وأحلام تجاه شاعر، فقد أهم صفاته وخصائصه وهو البوح والتعبيرعما يجيش في نفسه من مشاعر وخواطر دون خوف أو وجل من رقيب، فاستطاع الشاعر الشبل أن يبث رأيه في موضوع الحدود والمحظورات المضروبة حول الشاعر باختيارالبلبل الذي فقد أيضاً الحاسة والصفة المميزة فيه، وهي صفة الغناء والتغريد، ففضل السكوت والصمت إلى حد الخرس، ولأنه فضل السكوت والصمت، فقد كان وصف الشاعر الشبل له بأسلوب إخباري وصفي فلم يخاطبه ولم يناده ولم يستفهم منه عن سبب صمته لأنه لن يجد عنده جواباً فقال واصفاً إياه:
يتلوى والأغاني بين جنبيه تذوب | والأماني في مآقيه دموع ولهيب | يتلوى والهوى في قلبه الدامي نحيب | والنشيد الحلو آلام ويأس ووجيب | ***
يتلوى والأغاني بين جنبيه تنوح | تغم في قلبه الخفاق يغدو ويروح | كلما فيه من الشدو دموع وجروح | وعويل من أسى الماضي به اللحن فحيح | ***
يتلوى بين أزهار الربيع الناضر | شارد النظرة يشدو بأنين حائر | خفق الياس اغانيه بصمت قاهر | وطوى البؤس أمانيه بيأس ساخر | ***
أزهر الوادي فماذا شافه من زهره | وهو نضو يتلوى لحنه في صدره | وهو نضو يتهاوى قلبه في قبره | عاله اليأس فناحت روحه في نحره | ***
يلمح المرج وما فيه من الزهر النضير | من ورود غضة الأوراق مرواة العبير | نسج الطل حواليها من الماء النمير | بردة توقظها الانسام باللحن المثير | ***
يلمح الأطيار في الدوحة من غصن لغصن | تسكب النغمة أصداء وتشدو وتغني | وتذيب الخفقة الحراء في الروض الأغن | فيرى الدنيا جحيماً كل ما فيه تجني | (محمد الشبل، نداء السحر ص 27) 2- الحرص على انتقاء الألفاظ المعبرة والموحية: وذلك بالتقليل من استخدام الألفاظ الغربية والنادرة والقاموسية، وبالابتعاد عن الابتذال والألفاظ السوقية والمستقذرة. ومن الحرص على انتقاء اللفظة الموحية والمعبرة: توظيف الايحاء الصوتي للألفاظ، فمن المعلوم أن المفردة لا تؤدي وحدها (دلالة مستقلة دون سياق معين تشع من خلاله، ولكن قد يكون للمفردة ظل معين توحي من خلاله بإيحاءات صوتية تساهم في تعزيز المعنى المراد، حيث تتطابق المفردة مع الجو العام الذي يعيشه الشاعر ويتحدث عنه..) (محمد حبيبي، الاتجاه الابتداعي في الشعر السعودي 2- 192)، فالشاعر في مواقف الابتهاج والفرح والسرور يستخدم الألفاظ ذات المقاطع الصوتية القصيرة، كما نجد عند الشاعر محمد الشبل في قصيدته (هاهنا) التي تصور لحظات اللقاء في أجواء الربيع فيقول: ههنا مرت ليالينا سراعا ومشت في هدأة الكون شراعا كلما ذكرته الماضي تداعى وسرى على كطيف عابر حينما طاف على الروض لقانا وتلاقت في ربى الوادي خطانا فاذبنا ما تبقى من هوانا وتناغينا بحلم شاعري ونعمنا بهوانا والتقينا وتذكرنا الليالي فبكينا حلما مر به الماضي علينا ثم مر به الماضي علينا ثم ولى في ظلال الغابر وسعدنا بأمانينا طويلا وقطفنا الزهر والورد الجميلا ونسجناه لنا ظلاً ظليلا ساحر الأفق كعش الطائر (محمد الشبل، نداء السحر ص 105) فالأبيات حافلة بألفاظ قليلة الحروف وقصيرة المقاطع من مثل: مرت، مشت، سرى، عابر، طاف، ربى، حلماً، ولى، ظلا، الورد، ساحر، الأفق وغيرها، أما في مواقف التهديد والوعيد والفخر والمدح، فإن الشاعر يستخدم ألفاظاً ذات مقاطع صوتية طويلة وفخمة ومضعفة، كما نجد عند الشاعر نفسه في قصيدته (من وحي المعركة) حيث يقول: لهفي إذا انتفض الكفاح بأمتي والحق أعشى والضلال مخيم لهفي إذا امتشق الحسام فلم يجد كفاً يحركها اليقين المضرم ما كان آبائي ولا آباؤكم يكفيهمو أن السلاح لديهمو بل كان إيمان القلوب بريها يهتز ملء كيانهم ويدمدم يحدوهمو فإذا الجهاد عقيدة تصبو بها كل النفوس وتغرم وإذا همو يتسابقون إلى الوغى كل بإحدى الحسنيين متيم وإذا همو عند اللقاء أشاوس من منهمو خشي الردى من منهمو (محمد الشبل، نداء السحر ص94) ففي الأبيات ألفاظ ذات مقاطع صوتية طويلة، وحروف كثيرة، وكلمات ذات حروف مضعفة من مثل قوله: مخيم، امتشق، يحركها، آبائي، آباؤكم، يكفيهمو، ويدمدم، يحدوهمو، يتسابقون، الحسنيين، أشاوس وغيرها. وقد يجمع الشاعر التقابل والتضاد بين حالتين (أو صورتين) أو مشهدين، كما في قصيدة (إقبال وإدبار) للجمع بين مشهد الليل والنهار، وفي قصيدته (في ظل الخريف) للجمع بين مشهد الربيع والخريف ليصل من خلال هذا الجمع إلى نتيجة كونية، وهو أن كل شيء في هذه الحياة إلى زوال ورحيل وأنه يجب استثمار الفرص المتاحة، وأن الأمور مهما اشتدت وادلهمت فإن ذلك ايذان بقرب الفرج، فيقول الشاعر في المقطع الأخير من القصيدة الأولى:
هيهات كم بين النهار وبين حالكة الليال | هذا بنور الحياة تفيضه شمس الجلال | وذي بها شتى المخاوف بعثرت في كل حال | فاهنأ بضوء الصبح ان الصبح مرآة الجمال | (محمد الشبل، نداء السحر ص 24) 3- الموشحات: وهي شكل شعري أكثر تطوراً وتعقيداً من الأشكال الخليلية المألوفة، ولهما أكثر من صورة وشكل، حتى قيل: إن من لم يعرف مائة وزن فلا علم له بالموشح، ومن أكثر شعراء القصيم الذين اهتموا بها الشاعر محمد الشبل، في ديوانه (نداء السحر) الذي يقول في قصيدة تحمل عنوان الديوان:
أي لحن حالم النغمة مشبوب الصدى | حلمت نجواه في الكون فغنى وشدا | وهفا يبعث في الليل ظلاله | ويعيد الحسن فيها وجماله | ويغني وصدى الماضي حياله | نغم ذوب في الفجر خياله | وتهادى الليل والليل ظلام ودجى | وحنين خفق القلب به واختلجا | وشعاع لم يزل فوق الروابي | وهج يرقص بالنور المذاب | ويغني بترانيم عذاب | حلت بالنور يجري بانسياب | (محمد الشبل، نداء السحر 103). وللموشح عند شاعرنا أكثر من صورة في ديوانه (محمد الشبل، نداء السحر ص 70 و 96). أخيراً أقول: إن ديوانه اليتيم (نداء السحر) لا يمثل إلا جزءاً يسيراً من شاعرية محمد الشبل، فالديوان طبع في نادي الرياض الأدبي عام 1399هـ أي قبل 28 عاماً، تحت إلحاح من أبي عبد الرحمن بن عقيل الظاهري الذي قام على ترتيبه وتصنيفه وإخراجه - كما ذكر لي ذلك شاعرنا الشبل - وضم قصائد نظم أكثرها فيما بين أعوام 1370- 1375هـ. وأعتقد جازماً أنه لو تفرغ أحد الباحثين لجمع شعره من الصحف والمجلات، ومما يحتفظ به الشاعر في أوراقه الخاصة، ومما لدى زملائه وتلاميذه وأصدقائه فسيعثر على حصيلة شعرية وفيرة تشكل مجموعة شعرية ضخمة. وقد ارتضى شاعرنا محمد الشبل - أمد الله في عمره وأسبغ عليه رداء الصحة والعافية - لنفسه منزلة ومكانة، أرى أنه يستحق أكبر منها، وما نستطيع أن نقدمه له إنما هو تسليط أضواء الدراسة والبحث حول شعره الذي يحتمل العديد من القراءات والبحوث والدراسات التي اقترحت بعضاً منها على طلاب الدراسات العليا حين يشاوروني في اختيار موضوعات بحوثهم، فقد تشرفت بزيارته في منزله مقدماً له أحد طلاب الدراسات العليا بجامعة الإمام راغباً في دراسة شعره، ووعده بمساعدته وتقديم كافة ما يحتاجه الطالب، وعلمت فيما بعد أن الموضوع لم يفسح من القسم المعني لأن الشاعر لا يزال على قيد الحياة؟؟ ولم أعلم حتى الآن بقيام دراسة جامعية متكاملة حول شاعريته لذا أشكر لجريدة الجزيرة البادرة الحضارية الواعية لتكريم أعلام الفكر والأدب في بلادنا، لنقدم لهم دروعاً معنوية من الوفاء والتقدير.
*جامعة القصيم: قسم اللغة العربية وآدابها
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|