استراحة داخل صومعة الفكر سعد البواردي*
|
الامتحان عبيد الشحادة 64 صفحة من القطع المتوسط لا أرتاح كثيرا لمفردة الامتحان.. لقد عانيت من شبحه.. وأصابتني رجفة الخوف كلما آذن بالنزول في فصولنا الدراسية ونحن صغار حاملا معه أوراقه المرهقة والمجهدة.. الاختبار.. أخف من الامتحان.. وأقل وقعا على النفس.. شاعرنا اختاره عنوانا لشعره.. وما علي إلا أن أقف أمام اختياره الصعب راضيا.. ومكرها لا بطلا.. كل الشعراء يحومون.. ويهومون ويهيمون بلياليهم.. جمع ليلى.. لا أدري وأسماء العذارى كثيرة لماذا هي قاسمهم المشترك الأعظم؟ ربما لأن صورتها في تاريخ العشق.. وفي ثقافة الغزل هي الأكثر بروزا بما أضفاه عليها العشاق من وصال.. وجمال.. تحسد عليه.. لا يهم نحن معا أمام ليلى شاعرنا عبيد، لا أظنه يختلف طرحا وتوصيفا.. وتوظيفا لمفردات حبه عمن سبقه من العشاق وهم يتفننون بمعشوقتهم..
أحوم حماك لا أبغي الوصولا | وأرجع خطوتي تأبى الرحيلا | فأقهر خطوتي وأهم سيرا | بطيء الوقع متئدا ثقيلا | أشيح بنظرتي عمن رآني | تنازعني إليه العين ميلا | مقدمة مشجعة على التواصل.. فيها الإجادة.. وفيها الحيرة بين خطوة يقدمها وأخرى يتراجع بها.. إنه يراجع خياره المتردد..
نسجت من المفاتن ثوب أنثى | شفيفا كالندى لبس الأصيلا | تجرين المساء رموش كسلى | لحمرة فجره خدا أسيلا | ويهمي الشعر شلالات ليل | ترتل فوق متنيك الهديلا | وينثر مبكِ ناصية جفون | جموح يملأ الدنيا صهيلا | كما لا عطر بعد عروس.. لا رقة كهذه الديباجة الوجدانية الشاعرة والمبعثرة.. إنه يؤكد عروبته بليلاه.. ويؤكد ليلاه بعروبته:
أنا العربي يأسرني خيال | إذا ما كان من تلقاه ليلى | هاجس الشعور هو الذي يصطفي للشعر خياراته.. وأخيلته.. ومسمياته.. هند لها عشاق. ووعد لها عشاق.. ولكن ليلى المحظوظة الأكثر من سواها.. شاعرنا باقتدار أدبياته أعطى لنا خطابا بلاغيا:
سراب أنتِ يغريني بماء | ولغز غامض يبدو جميلا | أؤمل فيك ما ينأى منالا | فكنت كمن يحاول مستحيلا | كأني لا أريدك أو كأني | أرى ما فيك لا يشفي الغليلا | ينغصني أمامك أن تكوني | كمثل الحلم لا يبقى طويلا | حلم شعرك سيظل طويلا لأنه لغة بلاغية لا خور فيها ولا ضعف.. ومن ليلاه التي احتار معها.. وحيرته بين الظهور والأفول.. بين الاقتراب منه والابتعاد عنه حطت راحلته أمام عانس فاتها قطار الحلم، أو كاد.. إنها تجتر آهاتها وتتعذب على مشهد منه.. صاغ مشهده إلى صور ترسم واقعها:
أفنى حياء أنوثتي صبر الفتاة | ولواعج الحرمان في جمر الأناة | وكوامن الآهات في أرق الدجى | وتمرد الجريان في عين المهاة | أنا رفة الطرف الحزين مكحلا | بصدى ابتسامات الشفاه الذابلات | أنا لهفة الطير المسافر لاهثا | خلف السراب يظنه ماء فرات | خلجات شاكية باكية تندب عمرا يمر سريعا دون بارقة أمل.. ما بين لعلّ وعسى يبدو ثقب ضيق لا يكاد يكشف ما خلفه..
الله أوجدني ومتعني بأن | أحيا كغيري من خلائقه الحياة | من خلائقه جملة اعتراضية يحسن الاشارة إليها ( - من خلائقه - ) حتى يسهل الفهم دون ارتباك. يمضي شاعرنا فيقول في قصيدته الناطقة بجمالياتها وصورها المتقاطعة.
ولحكمة جعل الضياء جبلتي | والصمت تعبيرا بغير المفردات | إنها لغة إشارة تغني عن الكلام لأنها أفصح منه.. ألم يقل الفلاسفة عن الصمت إنه أبلغ وسائل التعبير.. أو لم يقل أحدنا حين تضيق به مفردات الكلام. (أنا عاجز عن الشكر؟) يصل شاعرنا إلى بيت القصيد متحدثا باسم العانس التي وقف أهلها سدا أمام مستقبلها:
فإلى م يجهلني إلى ما أشتهي | وإلى م أمي لا تعير لي التفاته | وأخي تجاهل رغبتي وهو الذي | أحرى بها فهما بدون الترجمات | أسئلة استفهام حائرة تنقضها علامات استفهام لازمة (؟)..
وأدوا يفاعي في لحود عيونهم | وحثوا على رسمي غبار الترهات | إنه الجحود والظلم القاتل لأنه ظلم ذوي القربى الأشد وجعا وإيلاما من حد السيوف.. لماذا كل هذا؟!
أنا لم أكن مما يُباع ويُشترى | حتى يغالي قيمة المهر الغلاة! | جعلوا بلوغي مستحيلا فانثنى ال | خطّاب وانتكست مساعي الخاطبات | إن كان معنى المهر تكريما فهل | يضفي عليّ كثيره بعض الصفات | إنها بهذه الشكوى العابثة والغاضبة تطرح إشكالية مجتمع يتحكم فيه الرجل في حق المرأة طمعا في مال ثمنه تحطيم آمال لعانس بريئة. بطلة مأساتنا توازن بين مهر الجسد.. وطهر الروح والجسد معا:
قد خصني الله العفاف خصيلة | ومُدحثُ أني في صفوف المحصنات | ليس الظهور وسيلتي كي ألفت ال | أنظار أو تسري بأخباري الرواة | تراجيديا إنسانية تعيش بيننا تشعرنا بمرارة القهر والظلم في حق إنسانة بريئة حيل بينها وبين ما تشتهي من حياة تحلم بها وتنتظرها على أحر من الجمر.. في النهاية يُسدل الستار على صوت ترطبه الدموع
أغفو على حلم يموج تثاؤبا | بشفاه أهداب العيون الناعسات | ويروعني الكابوس أصرخ إنني | أأبى الرقود على فراش العانسات | ما الحل..؟ هي تريد.. وهم يريدون.. وليس للمخلوق إلا ما أراده الخالق.. (حجاب مروة) إطلالة جديدة في أفق شاعرنا تتحدث عن الصراع المحتدم بين الحجاب والسفور.. بين الاحتشام والتجرد منه:
يا تاج مروة رائعا ومهابا | لله درك يا حجاب حجابا | أفزعتهم في عقر مأمنهم وهم | أقوى عليك تحزبا وجنابا | أربكت بالحق ادعاءً باطلا | وسطعت من بين الظلام شهابا | أخرجتهم من منبر متحرر | وسع الجميع وضاق عنك رحابا | فتعسفوا رأيا وبتوا أمرهم | أن أوصدوا من دونك الأبوابا | على هذا النسق تتلاحق أحداث الصراع بين متمسك بستره.. وآخر تعرى ستره.. وافتضح أمره.. يتساءل شاعرنا: ما ذنب مروة أنها امرأة ترى سبل الحياة كما تسير صوابا؟ لم تقتنع أن السفور شريعة مهما تذرعتم له أسبابا لوجوبه ما كان وحيا منزلا حتى تصدقه وليس كتابا عيثوا فسادا كيفما شئتم وبثوا عبر موجات الفضاء ضبابا عيثوا كما تحلو لكم أيامكم وتمتعوا أكلا بها وشرابا ودعوا لمروة ماكرهتم ملبسه هي ترتديه وترتشيه حجابا كأن شاعرنا يومئ إلى تلك الضجة المفتعلة المثارة في الغرب ضد حجاب المرأة المسلمة.. وبالذات في تركيا المسلمة:
يا آل عثمان غرستم بذرة | حتى نمت وغراسكم قد طابا | وتدلت الأغصان وارفة على | أعراقها وتعنقت أعنابا | أغراكم التغيير منها فطرة | ولشربها هيأتم الأكوابا | ولئن خلعتم جلدكم كي تدخلوا | في دارهم لن تبلغوا الأعتابا | بهذا العتب يرقب بوجل تحولات بعض عالمنا الإسلامي.. وخروجه من عباءة تاريخه وقيمه وتقاليده الموروثة التي لا تؤثر على مجرى تقدمه العلمي والحضاري.. شاعرنا يرفض الانسلاخ بحجة العولمة التي تفتقر إلى علم الاحتشام والأدب. ومن حجاب مروة إلى مرآة بقليس.. التي عزاها بحرارة ومرارة بعد رحيل شريك حياتها نزار قباني:
عرب أحياؤنا لا يُعرفون | قبل أن تنفيهموا أو ينتفون | أين بلقيس؟ فتبكي شاعرا | قد بكاها ملء ديوان حزين | أين بلعيسانة يندبن من | كان مرآة على مر السنين | تعكس الأنثى جمالا باهرا | يكتسي من شعره ثوب الفتون | فاعتزلن الكحل قد مات الذي | بعده ما عاد مكياج يزين | هكذا يرى الشاعر صورة المرآة في شعر نزار مكياجا يجمل صورتها أبدع من أي مكياج مُصنع.. إنه يحركها بريشة شعره ساحرة الفتون.. فاتنة كالطيف الجميل.. وكالطير الجميل الذي يغرد ويملأ فضاءه شدوا وشجوا..
ذبل الجوري وزهر الياسمين | وبكى الند افتقادا قاسيون | فدمشق اليوم تنعى ابنها | مالئ الدنيا وقيثار السنين | لم يكن يحيا نفاقا مثلنا | طرفنا يغضي ولا تغضى الجفون | نرتدي الأخلاق ثوبا جاهزا | وترانا عكس ما نبدو نكون! | رثائية تجمع بين الذكرى.. والتذكر.. الذكرى برحيل شاعر صاغ من شعره للمرأة سوارها دون قيد.. والتذكير بواقع لا يسر يعيشه بعض من امتهنوا من شعرهم مطية للكسب الرخيص.. والظهور الأجوف.. هكذا يريد الشاعر عبيد الشحادة قوله. (أمة التصفيق) خطاب ساخن وساخر لعالم لا يكل ولا يمل من الهتاف والتصفيق.. لأنه صفيق. يا أمة ورثت من الأجداد سفر الإباء ومعجم الأمجاد في كل شبر منك وقع حوافر خطت سنابكها سجل جهاد وصدى صهيل ما يزال محمحما يروي بسالة فارس وجواد والآن نحن على خطاهم نقتفي آثارهم متشبث وسداد هذا عن الماضي.. ماذا عن الحاضر؟! في كل شبر محفل وتجمع يا أمة التصفيق! والأعياد أين الأوائل لو رأوا أحفادهم لتبروأوا من هذه الأحفاد يا أمة وسطا جُعلت شهيدة فلبست حلة سؤدد وسواد لكنك استبدلت ثوبك غيره فغدوتِ عارية على الأشهاد العري الذي يشير إليه شاعرنا عري انسلاخ من قيمه وثوابته لا عري جسد.. لهذا تثور ثائرته أمام فضيحة واقع يتمرد عليه:
يا أمتي لو كان منك براءة | لبرئتُ فيك بساعة الميلاد | كي لا أرى غُرّ النواصي خُفضا | وأرى الحمير تسير سير جياد! | ومن التصفيق الصفيق إلى قبيلة المتناقضات:
كفانا أننا عرب | وللإفصاح ننتسب | وكي لا تفهموا خطأ | وتسبقكم بي الريب | فطبع قبليتي عجب | وطبعٌ بيننا العتب | مقدمة لما بعده.. بدأتها تعريفا.. ثم عتبا.. والعتب لا يفسد للحب قضية.. (يبقى الود ما بقي العتاب). على حد قول شاعر قبله
أبي القبطان والمرسى | بموج عناده تعِب | ولا ندري بطي الأ | فق بعد الأفق ما الطلب!! | وأمي دمعة الحسرات | بالأحداق تنتحب | فيحرقنا بلوعات الأ | سى في قلبها اللهب | وإخواني غطارفة | ككل قبيلتي نُجب! | وأعمامي بهاليل! | أباة. اسمهم عرب | ونار قراهم تدعو | ضيوف الظلمة اقتربوا! | نهدّ البيت أعمده | وفُلّ بأهله النسب | لم يترك شاعرا أحدا إلا وصرخ في وجهه بحدة وشدة غير مألوفة فيها الكثير من القسوة وفيها الكثير أيضاً من المحبة التي لا ترحم..
فصار المجد أمجادا | وأرعد في المدى الصخب | تفانى الصيت بينهمو | فكل همه الغلب | وكل ظنه بالآ | خرين لغزوه ركبوا!! | قال عن عشيرته أكثر مما قال مالك عن الخمر دون مواربة ولا تجمل.. إنه يريد لمن عضه الألم أن يصرخ كما هو نفسه يصرخ لعل في الوادي من يسمع فيجيب.. أويبادله صراخا بصراخ كي يسلم على الأقل..
مهاة الحي قد كانت | بطرف الحرص تنتقب | ربيبة كبرياء لم | تلامس خدرها الريب | دهاها البغي فافتر | عت بعرس ما به طرب | تمنت موتها عن أن | بعقر الدار تُغتصب | تشاطر أهلها عارا | بواجب ثأره طلبوا | الشرف أبو الأخلاق وأمها.. إنه على مقولة شوقي الوجود كله:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت | فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا | بدافع الخشية على أرضه والغيرة على أرضه جنّ جنونه.. لم يترك نقيصة إلا وأثارها استفزازا وتحفيزا لذاكرة قومه.. (السراب) جاءت الختام.. وليتها كانت المورد كي نبل الظمأ بعد جفاف حياة صاغه لنا شعرا.. وليتها ورد كي نشتم رائحة أمل قرين بعمل.. هكذا جاء امتحانه قاسيا الراسبون فيه كثر لعلي أحدهم.. فمادته صعبة.. وأدواته غير معدة.. (السراب) أو نهاية المطاف.. يقول عنه:
أترى أخطأت أني | فيك قد أحسنتُ ظني؟ | فاعتقدت الحب يبقى | بدوام العهد مني؟! | لم أناقش منك عهدا | في الزمان المطمئن | وإذا ما ارتاب شك | أعترى بالشك عيني | فتيقنت أخيرا | عندما أدريت عني | إنما الحب سراب.. | فوق آفاق التمني! | تلك هي نظرته الجائرة عن الحب.. أعطاه له مواصفات السراب البقيعة الذي يحسبه الظمآن ماء.. أبدا يا صديقي الحب رغم خياله الضارب في متاهات البعاد وشعابه إنه حلم يمكن الوصول إليه والحصول عليه متى أبعدنا عن طباعنا لعنة الذاتية. ووصمة الجبروت الكاذب.. ونقيصة الخداع والمراوغة.. الحب نقاء.. وطهر.. الطيور تحب وترعى أفضل منا.. والحيوانات أيضا تدرك معنى الحب أنها تدافع عن قطيعها متى تعرض للخطر.. حتى في البشر من يعيش الحب سلوكا.. وممارسة.. يرفض الظلم.. ويضيء شمعة من عقله لتجلو عن طريقه غمة الظلام ووحشته.. الحياة محبة والحب وصل وتواصل وإيثار وتضحية ولكن..!
نعيب زماننا والعيب فينا | وما لزماننا عيب سوانا | وقد نهجو الزمان بغير جرم | ولو نطق الزمان بنا هجانا | قرينانا التصنع والترائي | ويأكل بعضنا بعضا عيانا | نحن المشكلة.. وليس الحب.. وإلى لقاء متجدد قادم مع فارس رحلة آخر.
* الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 - فاكس 2053338
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|