(كزهر اللوز أو أبعد)
|
ديوان محمود درويش الأخير.. جال بعض المدن العربية لتوقيعه، تارة في عمّان حيث يمضي وقته بينها وبين رام الله.. ثم في بيروت التي يحب ويعشق والتي أُبعد إليها وهو ابن السادسة بهوية لاجئ فلسطيني.
قال عن بيروت.. إنها كطائر الفينيق ستقوم وتحلّق ثانية، كم يحزنه الموت المترصد بها.. والدماء التي تغطي أرصفتها.. والدخان الذي يلازم سماءها.. والحزن الذي يتجدد عند كل محاولة قتل واغتيال وذكرى مؤلمة..
بيروت كل يوم تودع حبيباً من أحبتها.. تحتل أخبار الموت فيها الصفحات الأولى من الصحف وجداول العمل الرئيسة للأمم المتحدة، واليوم يزورها محمود درويش وعلى غير عادتها تتشح السواد حداداً وتترقب مصيرها المجهول بين لحظة وأخرى.
بيروت.. كما يقول عنها شاعرنا العربي: هي مدينة ذاتها التي لا يفهمها إلا هي، تغري من يحبها برفع المدائح لمستوى الوجد، والحسد لمرتبة الأذى.
تستقبل بيروت درويش بقبلاتها الدافئة على جبينه، بأحضانها التي اشتاقها، بأنغامها التي يدندنها عود مارسيل خليفة وحناجر كل من أحب شاعرنا، تستقبله مدرجاتها ومنابرها ويحتفي به أعلام الشعر والأدب. محمود درويش هذا الكائن النوراني الذي له سلطة شعرية لا اختلاف عليها، اعتز بها وفضّلها على السلطة السياسية والكثير من المناصب التي عُرضت عليه ليشغلها.
فضّل السلطة الشعرية لأنها وحدها تبقى وتفنى كل سلطة أخرى.. فسيف الدولة لم يبق منه أي شيء وبقي من المتنبي كل شيء.
أراد محمود درويش أن يبقى خالداً بفكره لذا لم تغره الدنيا ومناصبها. أراد أن يبقى شاعراً يطوّع اللغة والكلمات والموسيقى والإيقاع.
الشعر كما يصفه (عثور اللاوعي على كلماتي، وإن وحيه لا بد أن يُستدعى ويُغرى).
الشعر هو قبس من نور يشعله الله في قلوب الشعراء ولا يمكنه أن ينطفئ إلا إن توقف قلب الشاعر عن الحياة ليخرج قبس النور مع الروح ويسكن السطور للأبد. الشعراء لا يموتون كما يقول جان كوكتو الشاعر الرسام لأصحابه (لا تبكوا هكذا، تظاهروا فقط بالبكاء، فالشعراء لا يموتون إنهم يتظاهرون بالموت فقط).
قال عنه الإعلامي زاهي وهبة إنه يرتقي بالحبر إلى مصافي الدم وليس بمصافي الدم إلى الحبر، حاول ان يبني باللغة وطناً بديلاً عن الوطن الأصيل، طوّعها ليخط بحروفها وطناً يعشق هو الأبهى والأجمل والأبقى.. فلسطين الأسطورة الحلم، الأرض والوطن الذي لا يحتاج لتقديم براهين على شرعية انتمائنا إليه وامتلاكنا له.
رسم محمود درويش الجغرافيا بالكلمات، قرأنا رسم فلسطين في خارطة قصائده، حدود بيارات البرتقال حيث زرع حروفه وعاد يستنشقها، والشواطئ المنتظرة الموج وعودة البحر، والحقول والسهول والجبال والكنائس والمآذن تنبض على سطور قصائدة، أبدع لتكون اللغة فرشاة يلوّن بها السماء والأرض وفسحة الذكريات التي يحتلها الوطن.
الوطن الحقيقي هو المتخيل والمرسوم بالكلمات، تلامسه حين يصوغه درويش شعراً وقصائد موجوعة بالحنين إليه، طفولته لازمت نصوصه، كانت المرجعية له في كل ما كتب، والذاكرة أبدعت في تجميل عناصر الطفولة المختبئة في طياتها فسكب الوطن في قالب شعري فريد لم يكن غير اسم درويش ليوقع عليه.
استطاع محمود درويش بجدارة أن يعثر له على موطئ قدم شعري في زحام الشعر العالمي، وأن يكوّن له صوتاً خاصاً وهوية مميزة.
هو شاعر يحمل القصائد التي لم تكتب بعد، لذا يفاجئنا في كل ديوان بما هو أروع من سابقه، فنعود لنتساءل ما هو الجديد؟ وهل يمكن لقصائد قادمة أن تكون أكثر روعة وإدهاشا؟ ما هو قادم الشاعر العملاق؟؟ ولا نملك إلا أن نترقب جديده.
محمود درويش شاعر يحسن الإصغاء إلى الزمن وإيقاع العصر والتغيرات الحداثية في عالم الشعر والأدب والثقافة، هو الشاعر المسكون بوسواس التمرد على الذات لا يعرف أين سيصل لكنه يتابع خطاه بثقة وبكثير من القلق الذي يعيد ولادته شعرياً.
يكتب عن الوطن، عن الحب وعن الموت الذي تعداه رغم مرض قلبه. خاطب شاعرنا الستيني الموت في قصيدته (الآن في المنفى) قائلا:
الآن في المنفى.. نعم في البيت
في الستين من عمر سريع
يوقدون الشمع لك
فافرح بأقصى ما استطعت من الهدوء
لأن موتاً طائشاً ضل الطريق إليك
من فرط الزحام وأجلك
**
قل للغياب نقصتني
وأنا حضرت لأكملك
وقد كتبت قصيدتي (قل للغياب أنا هنا) إهداء لدرويش ورداً على قصيدته هذه وقد نشرتها القدس اللندنية الشهر الفائت أخاطبه فيها قائلة:
ونظل طول العمر نوقد شمع
أحرفك المضيئة في القلوب..
ونظل نهتف للحياة أن اشعلي
أعوادك المليون بعد الألف
في ميلاده
فافرح بكل الضارعين إلى الإله
ليكون كل العمر لك..
أنت البشارة بالحياة
حمداً لمن خلق الوجود فأوجدك..
ما أروعك..
أولن تكون سوى نشيد الأمنيات
وكل أوردة الحياة
وكل أسرار الفلك..
قل للأماني زغردي
ما دمت حيّاً أحملك..
سيري ببطء يا حياة
غنّي النشيد فأتبعك..
قل للغياب أنا هنا
إني إنا من ضيّعك..
سبحان من خلق الخليقة كلها
ثم استوى في عرشه
لتكون في الأرض الملك..
ميسون أبو بكر
شاعرة وأديبة أردنية مقيمة بالمملكة
maysoonabubaker@yahoo.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|