جدارية « الثقافية » عن زمن درويش
|
فجأة انفجر موقف التردد وآثرت الحيرة مغادرة المكان، فقد دفعتني المجلة الثقافية عن زمن درويش بأن أطرق باباً غير بابي ومجالاً لا قبل لي به، ظناً مني أن الخوض مع الخائضين، يحمل عنواناً رحباً يسمح لي أن أقول شيئاً عن زمن درويش، الذي هو زمن البندقية والقلم، فإذا بهذا الزمن بحر واسع مفتوح للعوم، كما هو مفتوح للغرق، والحقيقة أن اختياري للتعليق على العمل الاستثنائي، الذي قامت به، كوكبة من محرري صحيفة (الجزيرة)، إنما جاء استسهالاً من غير ما قصد، فحين أَمسكَت الحروف بالموضوع، فإذا أنا في بحر متلاطم الأمواج، لا أعرف كيف أمخر عبابه، وأمد أشرعته للنجاة، فزمن درويش هو الجهد المُشرع بين البحر والأفق، وكلاهما بعرض السماء، وطالت المسافة عما ظننت، ووقفت حائراً أمام مشكلة خلقتها بنفسي لنفسي، فشعر درويش جاء من حيث يجب أن يأتي، من تاريخ أرض وأمة، حيث التبرعم الطفولي على لهب الكارثة، فإذا بالانتفاضة الشعرية، تشكل أعظم ثورة ثقافية تشق طريقها نحو عالمية، يتقاطر إلى تقويمها، نُقّادٌ من أوروبا والعالم الآخر، على غير ما هو الآخر في العنصرية الغربية!..
عندما نطقت القضية شعراً، تحولت الكلمة إلى رصاصة، فمن المعروف أن الشكل الأول للتعبير الإنساني كان شعراً، لأنه أبسط الفنون وأكثرها صعوبة، فهو إما أن يكون كامل الصدقية، فيحتل حيزاً من القلب، أو يكون الأقرب إلى سلة مهملات.
والواقع أن النص الشعري، يحمل بُعدين مهمين كما ظل يوصينا أساتذتنا الكبار منذ نصف قرن، البعد الأول، ويتمثل في البعد الآني الذي يحدث أثراً مباشراً في الجمهور ثم ينتظر.. أما البعد الثاني فهو البعد الخالد، الذي لا يسعى إليه شاعره، لكنه يحدث لأنه ينفجر من داخله...
ثمة انفصام شخصية في حياتنا العربية، إذ لكل أمر مكانه الخاص به، فالسياسة في ناحية والفكر والأدب في ناحية أخرى، والكتابة في ناحية والصراع مع العدو في ناحية أخرى، والحياة اليومية في شعابها، والشعر والأدب في شعاب أخرى.. وفي هذا الصدد، فإننا نتساءل، ما الذي يفصل أيقونة زاخرة بعمق الأدب والفكر والفلسفة والسياسة والنقد..
كما حملت (المجلة الثقافية) عن جمهور الشعب العادي، فقد ذخرت المجلة - وليس من باب المداهنة والإطراء - بعناوين ثرية مفعمة، وغاية في الشفافية والعمق، وفي دروب معرفية شتى، من القصيدة والقضية التي كتبها الأديب والصحافي (خالد المالك) وجمَعنا درويش (إبراهيم عبد الرحمن التركي)، ودرويش في كلمات (الشاعر سليمان العيسى) ومحمود درويش (غازي عبد الرحمن القصيبي) ودرويش ناثر وليس شاعراً (عبدالله محمد الغذامي) ودرويش توأم القمة الماردة (عبدالله الجفري) وفتى الحزن المدلل، للروائية (أحلام مُستغانمي)، وقصتي مع شعر درويش في متاهة اللوز (الأديب نزيه أبو عفش) وحللت المعادلة الصعبة (مراسل الصحيفة عبد الكريم العفنان) ومن الذكريات (للأديبة لميعة عمارة) ودرويش، التعاقد الشاق والخلاّق (للكاتب صبحي حديدي)... وإلى آخر الكبار ممن انخرطوا في الأنشودة الدرويشية، عبر مسالك وجودية - فلسفية مع خرائط جينية للمبتدأ من شعر درويش (الأستاذ محمد علي شمس الدين) أما الأديب الفرنسي ايريك غوتيه، فيرى درويش من قصيدتين، الأولى وهي تنتسب إلى البعد الأثري الإنساني (إلى أمي) وهي من مجموعة عاشق من فلسطين، والثانية بعنوان (في البيت أجلس) وهي من المجموعة الأخيرة (كزهر اللوز أو أبعد) حيث المناجاة مع البعد (الزمكاني) في وحدة يوم عطلة، ولذة الانقطاع عن الخارج وحتى عن مجرى الزمن في نشوة الخلود للسكينة والوحدانية.
لكننا نرى درويش، في ركن آخر،مع الأستاذ عبد الكريم العفنان، يرفض اللاأبالية ومبدأ اللامنتمي شعراً، فهو يجاهر بفرحه، كيف أنه جمع النخبة والجمهور في منظومة واحدة.. وهي مثابة كشفية عظمى، لم يقدر عليها عصر النهضة الأول، ولا أيدولوجيات الأحزاب العاملة في الساحة العربية منذ عقود، ويكتب القاص المصري الشهير يوسف إدريس، عن أهمية دمج النخبة بالجمهور، كما لو أنه تحقق الأمل بالمأمول، وتطابق نَسَقي بين الواقع والنظر.. يقول إدريس (إن فصل الابداع عن الحياة، وعدم النظر إليه بوصفه حاجة مصيرية، هو الطامّة الكبرى.. خذ مثلاً قصيدة أحمد الزعتر لمحمود درويش، إنها أكثر من رائعة، فقد تركت صداها في جميع أرجاء الأمة العربية، ولكن كيف نعامل الشعر؟ هل نعجب به وبعد ذلك لا شيء!.. المفروض أن هذه القصيدة يمكن أن تعتبر نشيد أمة، غناء أمة)... العمل الفني العملاق، بأبعاده الذاتية والوجودية والمعرفية، مثل الكائن الحي، الذي لا تأفل شمسه مع تراكم القرون، فهو يستعصي على الموت بالخلود، وإلا لكان (حصان المتنبي وحيداً)، ولزوميات المعري أوابد.
ختاماً، أستطيع الجرأة في القول، بأنني أكتب هنا، بناء على إلحاح نغم داخلي، أو معنى أو شيء مرهف.. لا أستطيع القبض عليه.. أحياناً يأتي الإلهام كاملاً، وعندها تكون مهمتي كتابته كما جاء فقط، أما محرضي في هذه الخاطرة، فهو زهرة اللوز أو أبعد، في مجلة ثقافية ثرية عن زمن درويش.
حمدان حمدان
عضو المؤتمر القومي العربي
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|