تلك العتمة الباهرة
|
*أمل زاهد:
عندما قرأت بعض فقرات خطاب الملك محمد السادس والمسمى (خطاب الصفح والسماح) الذي يطلب فيه من الشعب المغربي السماح على الانتهاكات الجسيمة التي جرت في بلاده لحقوق الإنسان منذ الاستقلال عام 1956م حتى عام 1999م ومنها تلك التي حدثت في أيام حكم والده، عدت بذهني لا شعوريا إلى (تلك العتمة الباهرة) وهي احدى أجمل روايات أدب السجون للطاهر بن جلون وأكثرها اختراقا للنفس ومساسا بشغاف القلب، وقدرة على توصيف واستبطان النفس البشرية عندما تتعرض لتجربة الانحباس داخل قضبان السجن واستلاب الحرية، ودخولها مرغمة في عزلة ووحدة إجبارية تتعرض فيها إلى مواجهة دائمة مع النفس مع كل ما يتجاذبها من مد وجذر وأمل ويأس ورجاء وقنوط.
ورغم أن الإنسان يجد نفسه أبدا سجينا داخل حدود بدنه وداخل حدود الزمان والمكان التي وجد نفسه دون اختياره مكبلا بهم وموجودا بين سياجاتهم، تبقى قضبان الزنزانات وغياهب السجون أكثر ضيقا وأشد قتامة وظلمة من سجن البدن والزمان والمكان الواقفين أبدا في وجه رغبة الانسان في الانعتاق والتحرر.
فمن ظلمات عتمة مدلهمة بهيمة اختزلها (الطاهر بن جلون) في كلمة باهرة كتب روايته المستوحاة من قصة حقيقية لأحد سجناء (تزمامرت)، حيث أمضى ذلك السجين عشرين عاما في ظلمة دامسة تحت الأرض في أوضاع أقل ما توصف به أنها بعيدة كل البعد عن أدنى ما تستطيع النفس البشرية أن تتحمله!! وبلغة قادرة على الوصول إلى دواخل النفس البشرية وقدرة مذهلة على فك شفراتها يصف لنا الطاهر حال ذلك السجين، الذي كان يرى رفاقه يتساقطون واحدا إثر الآخر بعد أن فقدوا القدرة على المقاومة والاستمرار في العيش داخل كهف السجن وفي غياهب سجن العزلة والبقاء وجها لوجه أمام مرآة الذات.
وأنت إذ تقرأ الرواية لا تملك إلا أن تتعجب من إرادة الإنسان وقدرته على التشبث بالحياة والانتصار لها، رغم القسوة والألم والعذابات التي تحدق به من كل جانب، لا تملك إلا أن تتعجب من قدرة هذا الكائن الساحر على ابتكار الحيل واختراع الوسائل التي يستطيع أن يقاوم بها البشاعة والظلم والألم والقسوة!! وكيف يحاول اجتراح طرق تمكنه من المقاومة والاستمرار، وكيف يتحايل ليستمر في البقاء محاولا قطع نفسه من ماضيه فهو يدرك أن الذكريات أمضى الأسلحة التي تقضي على الارادة والقدرة على المقاومة.
فينظر إلى حياته الماضية كأنما هو ينظر إلى حياة شخص آخر، فهو يتعرف على تلك الحياة ولكنه لا يعرفها وكأنه لم يكن طرفا فيها حتى لا يهتف به الحنين ويجرفه إلى هوة اليأس. ويستعين بالصلاة حتى تستطيع روحه أن تنسل من داخل جسده وتبتعد عن الآمه وعذاباته فيتم له الانفصال التام عن ثوب الجسد المنهك بالأمراض الموبوء بالعلل، فيتحرر من تلك الآلام وينفك من شدة قسوتها.. فالصوفية وفلسفة التخلي تساعدانه على تجاوز محنته، فالتخلي عن الارتباط بالماضي أو التعلق بالأمل يجعلانه قادرا على تجرع الصبر.
يأتي خلاص سجناء تزمامرت الذين هلك منهم قرابة الثلاثين عبر تسرب خبر السجن والممارسات اللاإنسانية فيه إلى منظمة حقوق الإنسان في فرنسا! وحينها فقط تسعى الحكومة المغربية لاطلاق سراحهم ومن ثم ردم السجن وانشاء حديقة فوق أرضه تخفي تماما معالم الجرائم اللاإنسانية التي كانت تتم داخله.
يبدو أن الهاجس الذي يعربد داخل كل سجين هو محاولة الاحتفاظ بقواه العقلية وعدم فقدان السيطرة على وعيه، فيجترح كل منهم وسيلة تمكنه من السيطرة على عقله ومنعه من الدخول في متاهات الهذيان والجنون، فرفعة الجاردرجي في (جدار بين ظلمتين) والذي سجن في ابوغريب في عهد الطاغية صدام يرسم في ذهنه مخططات بيانية لنظرية جدلية العمارة، وكان يستنفد ساعات عديدة في رسم تلك المخططات التي كان قد عمل عليها في السابق ثم يقوم بتحسينات عليها.
وكان قد استوحى فكرة العمل بذهنه من أحد أصدقائه المعتقلين السابقين واسمه (يحيى ثنيان) الذي كان يشغل عقله بمراقبة النمل والتعرف على المتغيرات في سلوكياته ويمرن ملكاته بالأنماط التي تحققت في خيط مسيرة النمل الذي يمر من خلال فتحة الزنزانة!! أما سهى بشارة التي قضت عشر سنوات كاملة في معتقل الخيام التابع للإسرائليين بعد أن حاولت اغتيال انطوان لحد، فكانت تمارس الرياضة حتى وهي في الزنزانة الانفرادية حتى تقوي جسدها المنهك من التعذيب ومن جرعات الكهرباء التي تنفث فيه، كما كانت ورفيقاتها في السجن يحاولن ممارسة بعض الهوايات الفنية بطرق بدائية جدا كصنع المسابح من نوى الزيتون.
وتتفجر في السجون كثيرا من المواهب الأدبية والشعرية والفنية، والتي يبدو أن تفجرها يأتي كوسيلة لمقاومة الوحدة والعزلة التي يجد السجين نفسه يغرق في ظلماتها.
وتأتي كلمات سهى صادقة مصبوغة بحزن شفيف وهي تلامس ذلك الوجع الكامن في أعماقها في التمهيد لكتابها (مقاومة) بعد أن بعثت لها احدى صديقاتها المحررات بعدها من المعتقل بالقصاصات التي كانت تكتب عليها قصائدها فتقول: ولولاها لكان قد قدر لذاكرتي أن تظل أسيرة في المعتقل وما كلمات هذا الكتاب إلا استكمال لها اليوم.
ويأتي اعتذار الملك محمد السادس مدركا أنه لن يستطيع أن يمحو الآلام أو يشفي الجراح فهو يقول: هذه المصالحة الصادقة التي أنجزناها، لا تعني نسيان الماضي، فالتاريخ لا يُنسى.
وإنما يعتبر بمثابة استجابة لقوله تعالى: (فاصفح الصفح الجميل)، فالأمر يتعلق بصفح جماعي من شأنه أن يشكل دعامة للإصلاح المؤسسي.. إصلاح عميق من شوائب ماضي الحقوق السياسية والمدنية وهي خطوة محمودة وغير مسبوقة من قبل في أي قطر عربي وإن جاءت تحت الضغوطات الخارجية والمطالبة بالاصلاح في العالم العربي.
وفي تقرير نشرته جريدة الوطن تأكيد على وجود تشابه يصل إلى حد التطابق في أوضاع السجون العربية في تسع دول وهي: العراق، والأردن، والمغرب، وتونس، والبحرين، وليبيا، وسوريا، واليمن، ومصر.
وتباينت هذه الأشكال ما بين الانتهاكات الفادحة بحق النزيلات وتقييدهن بالحبال وتعليقهن على حديد السلالم إلى الضرب بالكابلات المعدنية والصعق بالكهرباء واستخدام الكرسي الألماني في التعذيب أو وسيلة أخرى يطلق عليها بساط الريح.
أتت فضائح سجن ابوغريب التي توالت علينا في العامين الماضيين وسجن غوانتنامو والتي مارستها العنجهية الأمريكية لتؤكد أن الوحش الكامن داخل الإنسان يظهر عندما تتاح له الفرصة، ليمارس التعذيب وانتهاك الكرامة الإنسانية والبشاعة بكافة أشكالها وصورها، رغم مزاعم الحرية والديمقراطية التي يشدو بها الغرب!! ولكن تبقى الديمقراطية والحرية قادرة على تصحيح ذاتها وقادرة على كشف النقاب عن الفضائح التي تتم في السجون على عكس الأنظمة الشمولية التي يتم فيها التعتيم التام على هذه الممارسات والانتهاكات البشعة لحقوق الإنسان.
من أدب السجون نستخلص العبر ونغوص داخل تجارب ذاتية تؤكد لنا أن العتمة الحقيقية تكون دائما بين ثنايا النفس وليس بين قضبان السجون وأن الإنسان قادر على الانسلال منها عندما يمتلك القوة والارادة.
تجارب قاسية تغور بك حتى مكامن الوجع ولكنها مغرية للاستقراء والتعلم منها وتطرح سؤالا ملحا يقول: أيهما أشد قسوة وأكثر إيلاما ظلمة النفس عندما تخون صاحبها أم ظلمة وعتمة السجون الباهرة؟
Aaz868@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|