الثقافة والإعلام.. بقانون
|
*قاسم حول:
يشكو العراق باستمرار من دور مؤسسات الإعلام في تفجير الصراعات الطائفية والعرقية.
ويشكو المثقفون العراقيون باستمرار من تهميش الثقافة العراقية كاملة ما بعد سقوط النظام الشمولي ودخول قوات الاحتلال إلى العراق.
قلنا لهم: يحصل ذلك تلقائيا بسبب غياب قوانين الثقافة والإعلام. فيما المسؤولون الإعلاميون الرسميون والوافدون ضمن القوات المحتلة يتحدثون زهوا قائلين: انظروا إلى الديمقراطية في العراق بعد سقوط نظام الدكتاتور، فها هي مئات الصحف تصدر وعشرات الفضائيات تبث فيما كان النظام الشمولي يصدر ثلاث صحف فقط تمثل الحزب الحاكم والحكومة وابن الدكتاتور ويبث فضائيتين واحدة للحكومة والثانية لابن الدكتاتور. قلنا لهم: ذلك كان حيفا وأما اليوم فإن الفوضى الثقافية والإعلامية هي التعبير المناسب والخطير عما يحدث في العراق.
إن العملية الإعلامية لا يمكن أن تتم دون قوانين تؤطرها، ومع أن الثقافة لا تنتج بقانون ولكن بدون القوانين من الصعب إنتاج الثقافة، والإنتاج الثقافي لا يعني عملية الولادة الثقافية فحسب، بل ما هو بعد الولادة.
لذلك فالثقافة والإعلام لا ينتظمان بدون قانون، وإلا لماذا أصدر حمورابي أول القوانين التي تحدد العلاقات الاجتماعية قبل ما يقرب من أربعة آلاف عام؟!.
إن من مخازي النظم الشمولية والدكتاتورية أنها تنظر إلى الثقافة نظرة إعلامية، وتنظر إلى الإعلام نظرة ثقافية، فهي تلعب على الإعلام وتلعب على الثقافة وتجمعهما في رؤية دعائية محضة، حتى أن غوبلز وزير إعلام الدكتاتور هتلر قال (عندما أسمع كلمة ثقافة أتحسس مسدسي).
ما يحصل في العراق اليوم يشبه تماما بل ويأتي متطابقا مع مقولة غوبلز، بل أكثر؛ فإن القوى الظلامية لا تتحسس مسدسها عندما تسمع كلمة ثقافة، بل إنها تطلق النار على المثقف والثقافة.
هناك صراخ في داخل العراق موجه لنا نحن الذين نعيش خارج وطننا لكي نعود إلى الوطن ونشارك المثقفين والإعلاميين معاناتهم.. مطلوب منا أن نموت لكي نثبت شروط المواطنة؟! ليس ذلك هو الحل.. بل هو التدميري. فعلى هامش مهرجان السينما العراقية في باريس عقدنا اجتماعا ضم سينمائيين من الداخل وآخرين من الخارج مع عدد من الإعلاميين العرب.
وقام بعض الزملاء من سينمائيي الخارج العراقي بالذهاب إلى العراق استجابة إلى نداء زملائهم سينمائيي الداخل وقاموا بتأسيس معهد لتدريب السينمائيين العراقيين، وكان رأيي أن هذه المبادرة الشجاعة تأتي في الطريق غير الصحيح رغم النوايا الحسنة؛ لأن الطريق إلى جهنم كما يقال مفروش أحيانا بالنوايا الحسنة؛ إذ لا يمكن تأسيس معهد للسينما بدون قانون للثقافة؛ فإن ذلك يكون كمن يضع العربة قبل الحصان.
وكان عليَّ هنا أن أقوم بالمبادرة، فأنجزت قانونين للثقافة وللإعلام لبلد متحضر مفترض اسمه العراق واستمزجت آراء عشر شخصيات إعلامية وعشر شخصيات ثقافية لكي يتسم المشروع القانوني بالموضوعية ويخرج من إطار الذات والرؤية الأحادية الجانب.
وبعد أن جمعت الآراء أعدت صياغة مسودة القانونين وأرسلتهما إلى رئيس لجنة القضاة العراقيين الذي تفضل مشكورا بوضعهما في الإطار القانوني السليم. قمت بطباعة القانونين وأرسلتهما للتجليد والتغليف الأنيق. جلبت مغلفا بريديا.. وأردت كتابة عنوان على المظروف فأدركت عدم وجود (بوستجي) في العراق بسبب الأوضاع القائمة هناك.
وعرفت أن علي إبراقهما عبر البريد الإلكتروني الحضاري، فاكتشفت عدم وجود عناوين بريدية لوطني وأنا لا أعرف لمن أرسل هذين القانونين، هل أرسلهما لرئاسة الجمهورية أم لرئاسة الوزراء؟ للبرلمان أم لوزارة الثقافة؟ للعدو المحتل أم للصديق المحرر؟ اعتذرت من جدي المرحوم حمورابي مشرع أول القوانين للبشرية، وركنت القانونين على الرف.
لم تمض سوى بضعة أيام حتى تلقيت رسالة بالبريد الإلكتروني من سينمائي عراقي يخبرني فيها أن أصدقاءنا الذين بادروا بتأسيس معهد للتدريب السينمائي قد رفعوا اللافتة من واجهة بناية المعهد حتى لا تثير شهية الإرهابيين في تفجير المعهد، وهم يفكرون جديا في نقل المقر وجعله سريا.
لقد كانت الأحزاب إبان حكم الدكتاتور تعمل بشكل سري فيما الثقافة كانت علنية.
اليوم تغيرت الحال فصارت الأحزاب تعمل بشكل علني وبدأت الثقافة تمارس نشاطها سريا، فهل يمكن أن يتصور المرء أن يصار إلى عرض فيلم سينمائي بطريقة سرية؟ أو تقديم مسرحية بالسر؟ أو إقامة معرض للرسم سرا؟ ما قيمة قانوني الثقافة والإعلام اللذين كتبتهما إذا كانت الأحزاب والفئات الحاكمة تحتقر الثقافة ولا تدرك المعنى الحقيقي للإعلام والأسس العلمية التي تقوم عليها العملية الإعلامية؟ إن الثقافة والإعلام في العراق يمران اليوم بمراحل ازدراء واحتقار شديدين، وكانا كذلك إبان حكم الدكتاتور ولكن الحال بعد سقوطه تسير نحو الأسوأ؛ لأن طبيعة القوى التي تريد الهيمنة على المجتمع العراقي تحمل في برنامجها رؤية سوداء قاتمة في سوادها لكل ما هو ثقافي، مكرسة فكرة الإعلام على شكل بوق خرافي الحجم يلقي بالشعارات والأدعية والنواح في سماء الوطن العراقي، محرضا العامة من الناس على اليقظة والحذر من الفكر والثقافة التي تقود إلى خراب الوطن العراقي!. كل مثقف عراقي هو مشروع اغتيال قادم، كل إعلامي عراقي يبحث عن الحقيقة هو مشروع اغتيال قادم.. فمن ينقذ المثقفين والإعلاميين العراقيين من موت مؤكد؟! لقد بدأت الهجرة الثانية للمثقفين العراقيين لكي تلتحق بالهجرة الأولى إبان حكم الدكتاتور، ولكن استقبال المهاجرين بات عسيرا في بلدان أوروبا باعتبار أن الدكتاتور قد سقط، فما المبرر لهجرة العراقيين سياسيا، مفترضا المجتمع الدولي أن الحياة في العراق عادت إلى توازنها بعد سقوط الدكتاتور؟!.
في خضم هذا الواقع الثقافي والإعلامي هل يصلح قانونان أحدهما للثقافة والآخر للإعلام يبحثان في طياتهما كل شؤون الإعلام والثقافة المعاصرة وينظمان شؤون الإعلام والفضائيات والمراسلين وحياة المعاهد المسرحية والسينمائية ومسارح الباليه والأوبرا والسيرك والفنون التشكيلية والموسيقية في زمن ترفع فيه إدارة معهد التدريب السينمائي اللافتة من واجهة المعهد خوفا من تفجير محتمل وتبحث عن مقر سري لها؟!.
إن اغتيال الأكاديميين المتواصل في العراق واغتيال المثقفين العراقيين لا تنفذه جهة ظلامية واحدة، فكل الأطراف متفقة على اغتيال الثقافة وعلى طبيعة مهمة الإعلام، ولذلك فكل الأطراف تقوم بتصفية العقول الواضحة والمتنورة والمتحضرة في مجال التربية وشؤون التعليم وفي المجال الثقافي والإعلامي، ولكن الاختلاف بين هذه الفئات هو خلاف أيديولوجي وسياسي سلطوي، وأية فئة ستنتصر فإن انتصارها هو انتكاس للقيم الثقافية ولأسس الإعلام المتنورة.
ثقل المسؤولية يقع الآن على عاتق المثقفين العراقيين والإعلاميين العراقيين أنفسهم في إيجاد الطريق السليم لمواجهة التخلف السائد في العراق والرؤية السوداء للثقافة وللإعلام. والمسؤولية الأكبر إنما يتحملها المثقفون خارج العراق الذين عليهم الخروج من نكسة الذات إلى انتصار العملية الإبداعية بمفهومها الوطني والإنساني.
وبالنسبة لي فإن الشيء الوحيد الذي يمكنني أن أعمله بعد الجهد الكبير الذي قمت به أن أعيد إرسال قانون الثقافة وقانون الإعلام وديعة لدى لجنة القضاة العراقيين في بريطانيا، ونسخة منهما إلى جدي المرحوم حمورابي مشرع أول القوانين المكتملة قبل حوالي أربعة آلاف عام.
* سينمائي عراقي مقيم في هولندا
sununu@wanadoo.nl
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|