قراءة نقدية في رواية (بنات الرياض)«1»
|
*محمد السحيمي:
بسم الله الذي نفوسنا بيده، ونواصينا بيده، وقلوبنا بين إصبعين من أصابعه. وامتثالاً لأمره - تعالى - أصلي على ساكن القبة - فداه ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء ومايعرج فيها - صلاة من يهرب من دنس الدنيا إلى طهره، وسلام من يرجو شفاعته يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.
قبل أربعين عاماً كان الشاعر الشعبي المدني محمود يوسف شاذلي يدرس في جدة.. كان ينتظر نهاية الأسبوع بفارغ الصبر فيسرع إلى مواقف سيارات الأجرة.. ذات مرة كان في غاية العطش؛ لشدة ما ركض في قيظ جدة ورطوبتها! نفح السقاء قرشاً ليسقيه، وفجأة صاح سائق الأجرة: باقي نفر واحد للمدينة.. فلم ينتظر حتى يشرب كوب الماء.. رمى نفسه في السيارة، ولم يبل عروقه إلا في المدينة، حيث أسرع فوراً إلى صديقه الملحن الكبير محمد النشار ليسمعه ما كان يرطب به عطشه طوال الرحلة! كان يلقي والنشار يدندن على العود ليولد اللحن الذي مازال الأطفال المخلدون فينا يرددونه كلما عادت الطيور إلى أعشاشها: أنا عطشان وبقي لي زمان.. نفسي أروح ست البلدان.. أشرب وأروى بموية عروة.. أو من موية العين الزرقا.. أنا عطشان.. واااه يا أهل المدينة.. هل من تحية أحسن منكم؟ أحييكم بكم.. فأنتن سيداتي أنتم سادتي ورحمة الله وبركاته..
أقف أمامكم الليلة حاملاً فيروساً خطيراً، قاصداً متعمداً أن أعديكم به؛ لاشفاني الله ولا شفاكم منه! إنه فيروس النجاح الذي نشرته رواية (بنات الرياض) لكاتبتها رجاء عبدالله الصانع. فما إن اخترقت هذه الرواية الأجواء الثقافية حتى صبت الأرق في عيون المهتمين، ليسهر الخلق جراها ويختصم، كما هو شأن كل إبداعٍ متنبئ!
ولعل من حسن حظي أن أتحدث عن هذا العمل بعد مرور عام تقريباً من سهر الخلق واختصامه حولها لأجد نفسي في طريق مقمر، سنعبره من الهالة إلى المركز بالسؤال الذي تطرحه نظرية التلقي وهو: كيف نستقبل أي منتجٍ أدبي؟
وباختصار فما يهمني منها هو ثلاث فرضيات:
1- إن المتلقي هو الذي يصنع الرسالة (النص الإبداعي)، والصناعة هنا لا تعني الإيجاد بدءاً، بل تعني الحياة والنمو. فالرسالة كالفيروس تماماً؛ لا يمكن تصنيفه على أنه خلية حية إلا بعد اختراقه جهاز المناعة (جهاز القراءة)، أما قبل ذلك فهو مجرد بلورة موجودة ولكن لا حياة ولا أثر لها.
2- أن لكل قارئ جهازه الخاص باستقبال الرسالة. فجهاز استقبال القارئ عبدالله الغذامي يختلف عن معجب الزهراني عن مبارك الخالدي عن محمد العباس.. وهكذا. بل إن القارئ الواحد قد يملك أكثر من جهاز استقبال حيال نص واحد، كما سنرى بعد قليل عند أستاذي الدكتور عبدالله الغذامي حيث سنكشف عن ثلاثة (غذامنة) على الأقل قرؤوا (بنات الرياض). ويتكون جهاز القراءة مما يسمى (أفق التوقع) أو (قانون الأساس) وهو مزيج معقد من مخزون القارئ المعرفي وتجاربه الحياتية ومكوناته النفسية والبيولوجية وطينته الاجتماعية. ولكون الاختلاف وربما التباين حتمياً بين أجهزة القراءة؛ فمن العبث أن نتوقع أو نطلب الاتفاق أو الإجماع على قراءة واحدة لرسالة واحدة، بل إن حظ أي منجز أدبي من النجاح إنما يقاس بمقدار ما يستحثه من أجهزة القراءة المتباينة التي يخترقها في خط يبدأ من المرسل بوصفه القارئ الأول ويستمر إلى ما لا نهاية.
3- إن ممارسة القراءة إبداع حقيقي وليست نقداً ولا دراسةً ولا بحثاً. فحينما تقرأ (الخطيئة والتكفير) فأنت أمام إبداع بغض النظر عن جنسه لا يمثل فيه حمزة شحاتة سوى البطل ولا تمثل فيه نصوصه العادية الفاترة في معظمها سوى الملح في وجبة غذامية شهية.
إن ما نفرزه من قراءات لأي منجز أدبي لا يحكي المرسل ولا الرسالة وإنما يمثل القارئ.
وهو ما اعترف به طه حسين في كتابه (مع المتنبي) حيث يقول: (إن نقد الناقد إنما يصور لحظات من حياته قد شغل فيها بلحظات من حياة الشاعر أو الأديب الذي عني بدرسه).
وبناءً على هذه الفرضيات الثلاث أستطيع أن أقرر أن كل ما قمنا ونقوم به من تلقٍ للمنجزات الأدبية منذ طه حسين وإلى مالا نهاية ليس إلا قراءةً انطباعية ذاتية، وكل ما قمنا ونقوم به من ادعاء نظري أو عملي للموضوعية أو الحيادية أو المنهجية ليس إلا حيلةً شعوريةً لا شعورية لتسويغ وتسويق قراءاتنا الذاتية الانطباعية.
وسأسرع إلى التأكيد بأن وصف القراءة بالانطباعية الذاتية ليس انتقاصاً ولا قدحاً، بل العكس فإنه إن تكن الموضوعية لا غير مطلوبة في مجالات العلوم التطبيقية كالطب والإحصاء والميكانيكا فإن الانطباعية الذاتية هي السلوك الواقعي الطبيعي في تلقي المنجزات الإنسانية وعلى رأسها الأدب. وبعبارة أخرى فإن الانطباعية الذاتية تتفاعل مع كائن حي، بينما تقوم الموضوعية المزعومة بتشريح جثةٍ؛ مهما كانت جميلةً فإنها ميتةٌ. ولعل المثال التالي يوضح الفكرة: لو كنت (هيجل) نفسه، وسرت في شارع قباء، وعبرت أمامك غادةٌ مدنية ميساء فستشهق مصعوقاً بالنظرة الأولى: أووه! والله جميلة!! وربما استدعيت البيت الشهير لفلاح بن علوش:
الزين والله في بنات المدينة
لاجنْ من شارع قبا نازلاتِ
فإذا شعرت أن الأنظار بدأت ترشقك، وأن صاحبك مدعي الفضيلة والحكمة يستخف باندفاعك المراهق فستبرر له بعد أن تقسم أغلظ الأيمان على مقاصدك الشريفة بأن الإحساس بالجمال استجابة لا شعورية تتماشى مع الفطرة البشرية.. لماذا خلق الله لنا عيوناً إذالم نكحلها بالجمال؟ بالله عليك لماذا تغالط نفسك.. انظر أليست جميلة.. وتعدد له محاسنها.. وسواءٌ تحرك إحساس صاحبك أو لم يفعل فستجد نفسك بين أمرين: إما أن تغادر الشارع وفي ذهنك صورة النظرة الأولى تدغدغ خيالاتك، وإما أن تتبع الفتاة علك تحظى منها ولو نبظرة ومازلت تقسم على مقاصدك الشريفة وهنا ولأننا بشر والكمال لله تعالى فستتكشف لك بعض أمور ربما حدَّت قليلاً أو كثيراً من صعقة النظرة الأولى، كأن يسقط اللثام فيبدو أنفها الذي حسبته سلة سيف سلة بيض فاخرة!! في الحالة الأولى إن غادرت مأخوذاً بالنظرة الأولى فستتداعى مخيلتك لتجعل من كل شيء فيها جميلاً. أما في الحالة الثانية إن تماديت في تتبعها فربما يخفت أو ينطفئ إحساسك بالنظرة الأولى تماماً.
وهكذا نحن في كل تلقينا إما أن نكتب في اللحظة الأولى لحظة أووه والله جميلة وإما أن نكتب في لحظات التتبع مالم ينطفئ مفعول النظرة الأولى، فعند الانطفاء لن نكتب شيئاً.
والمتتبع لتلقي (بنات الرياض) سيجد أن الجميع بلا استثناء قرر الركض خلف الفتاة لتتبع تفاصيل محاسنها، منهم من يمثل المندفع الذي شهق: (والله جميلة) ومنهم من يمثل صاحبه (الثقيل التكانة). الأول سينتهي إلى أنها جميلة؛ رغم ما تكشف له من بعض العيوب، أما الآخر فسينتهي إلى شعورٍ بالذنب لأنه استسلم وهو الجليل القوور لإغراء النظرة الأولى! وسيكتب تكفيراً لذنبه بأنها ليست جميلة ولا مغريةٌ ولكن اشيطان أخزاه الله هو الذي أغواه ! الأول قارئ ذاتي انطباعي، وأما الثاني فموضوعي دعيٌّ، يشرح جثةً لن يعنيه أنها جميلةً!!
وسأكتفي هنا بمثالين هما تلقي الدكاترة (عبادالله الغذامنة) وتلقي الأستاذ خالد بن أحمد الرفاعي، أرى أنهما يمثلان نقطتين إحداهما إلى أقصى اليمين الغذامي الأول تحديداً والأخرى الرفاعي إلى أقصى اليسار إذا رسمنا التلقي على خط أعداد (ديكارتي) يبدأ من (- مالا نهاية) ويمتد إلى (+ مالا نهاية). وبينهما تتحرك إسهامات التلقي المختلفة.
النقطة الأولى
الغذامي الأول لحظة ال(أووه..):
الغذامي قارئ انطباعي ذاتي، يقدم لنا نفسه بضمير (الأنا) ويحكي قصة استقباله للرواية؛ وهي لا تعني المتلقي في شيء إلا الإغراق في الذاتية التي تتجلى بكل بوضوح حيث يقول: (وكنت قد قرأت الرواية بعد احتشاد معنوي ومهني، ولم يحدث لي أن قرأت رواية بمثل هذا التحفيز النفسي الذي كنت عليه قبل قراءة النص).
وتحت ذلك التحفيز النفسي ينفجر الغذامي المبدع فارس النص السيميائي البنيوي التشريحي ولولا الذاتية الانطباعية ما اجتمعت هذه المتباينات في قارئ واحد ليقدم لنا خمس مقالات هي (رواية الحارة الحديثة بنات النسق النص البسيط العميق لعبة السرد المطبخ السردي لم لست مكانها). هذا الانفجار ليس أجمل ما كتب في لا عن (بنات الرياض) وحسب بل هو من أجمل ما جادت به قريحة الغذامي منذ انتقل إلى النقد الثقافي. إنه إبداع حقيقي وجد في (بنات الرياض) بطلةً متميزةً فعلت بالغذامي ما فعلته (غادة بولاق) بصديقه العتيق حمزة شحاتة رحمه الله:
ساقيتِهِ النظرة الأولى وعودَ منىً
ضاءت ببسمتِك النشوى، وساقاكِ!!
وأحيل القارئ إلى المقالات وهي منشورة في الملحق الخميسي الثقافي لجريدة الرياض في الفترة من 15 شوال إلى 27 ذي القعدة من العام المنصرم 1426ه ليستمتع بألعابٍ تأويلية لا يتقنها مثل الغذامي الذي لا تزيده الأيام إلا تعتيقاً.
* أعدت القراءة والمحاضرة وننشرها مثلما أعدت.
......... يتبع
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|