النص وسلطوية فعل القراءة سهام القحطاني (22)
|
يتلقى القارئ النص خارج اطاره المكاني والزماني الاصلي، وبذا فهو يسمح بعملية التأويل ويقبل أكثر من تفسير فكل مؤول جديد يحمل معه تجربته الخاصة التي ينظر الى النص من خلالها وهكذا تتعد نماذج التأويل.
(هل القراءة التأويلية للنص الادبي لا تخضع لمقاييس، هي جدار حماية من تذويب هوية النص) اعلم ان من الصعوبة ان نفرض تأويلا مخصوصا لأي نص، لكن هذا لا يعني عدم وجود معايير تقنن مشروعية التأويل او عدمها، فنحن نجيز لانفسنا قراءات كثيرة لتفعيل اكتشاف النص، لكن هذا ايضا لا يعني بدوره ان نقرأ كما نشاء وكيفما اتفق حسب اهوائنا، فالقراءة التأويلية لابد ان تلتزم بقاعدة التماسك الداخلي، وهي تقوم على ثلاثة أسس، اولها: استجابة النص كله لنموذج التأويل، ان يلتزم نموذج التأويل بالمنطق التحليلي المنتمي له النص، عدم التنافر والتضاد بين النموذج التأويلي وكليات النص، أما التماسك الخارجي، فعلى نموذج التأويل الا يخالف حقائق النص التاريخي، كالمكان والزمان والتاريخ، وعلى ضوء ما سبق نتوصل الى ان هناك معايير تبرمج علاقة تلقي القارئ بالنص.
هذه العبارة لاستاذنا الدكتور عبدالله الغذامي اعود اليها من فترة لاخرى أتأملها فتبثق منها رؤى مختلفة دوما وجديدة، يقول: (هذا السؤال العجيب عن المؤلف وعن ماهية هذا المخلوق البعيد الذي يكتب من اجل ان نقرأ، وهو حينما يكتب يمارس مع نفسه لعبة من اطرف اللعب ومن اخطرها في آن، ذاك لان المؤلف يخاطب اقواما ليسوا امامه، وهو يدرك ذلك تمام الادراك، ولذا فإنه يتعامل مع غائبين، وهؤلاء الغائبون سوف يحضرون في لحظة من لحظات تاريخ الكتاب القادم، وادراك المؤلف لهذا الغياب ولذلك الحضور هو ما يجعله يكتب بأسلوب مختلف عن طريقة تعبيره الشفوي المباشر)
فهل نفهم من هذه العبارة ان هناك( ميثاق) غير متفق بين الكاتب والمؤول للنص الادبي، يحد من غلو تأويل النص واخراجه عن طبيعته التكوينية (ذلك جائز)، يذهب النقاد الى ان وجود (عقد او ميثاق) يبرمج علاقة التلقي بين النص والقارئ، ويفرض على القارئ مجموعة من القوانين العامة المتفق عليها، وقواعد يلتزم بتطبيقها فالنص كما يذهب اليه مؤيدو (عقد او ميثاق القراءة) ولعلي اميل الى هذا المذهب يحدد طريقة تأويله وفق منظومة النوع الذي ينتمي اليه خلقه، وتحديد النوع هو ما يجبر القارئ على التعامل مع مجموعة القواعد التي اتفق النقاد على انها تميز هذا النوع، فيدفع هذا القارئ الى تحديد معايير توقعاته، والميثاق القرائي المعقود بين النص والقارئ يتم من خلاله اللقاء في مكانين احدهما ثابت وهو مطلع النص والاخر متحرك وهو هامش النص، وغالبا ما يظهر بصوت ضمني خفي يظل يتسرب الى عروق النص ليمنحه الحياة، والاسطر الاولى من النص تحدد بشكل واضح طريقة تلقيه، كما ان مبتدأ النص هو ما يحدد غالبا ميدان قراءة اذ يوجهه الى النقاط الاكيدة التي يقترحها النص من خلال العنوان والنوع الادبي والمطلع والهوامش هذه النقاط بمثابة المراسي التي تعقلن تأويل النص وتحد من غلوه، حتى يوظف في توصيل المفهوم الايديولوجي للخطاب، ويجنب القراءة الوقوع في الخطأ.
جميعا نتفق على ان النص هو خطاب يأدلج موقف الكاتب من الكونيات وعقائدها المختلفة، أو كما ترى النظرية التداولية، ان نية تعديل سلوك من يتوجه اليهم الخطاب والتأثير عليهم صفة لازمة في النصوص الروائية، فالسرد، يهدف الى قيادة المؤول المتوقع أي القارئ الذي يقرأ النص الى ادلجه موقفه بتبني خاتمة ما او الى الاعراض عنها، ونية الاقناع هذه موجودة في كل حكاية وإن اختلفت اساليب استظهارها أو اخفائها، لكن صوت الدعوة اليه يطل في يقظة يهمس بصوت عذب في جنبات افياء النص خلال ما ذكرناه من انواع المراسي، لكن هذا لا يمنع ان هناك نصوصا تبرمج تلقيها بأن تترك مساحات بيضاء ليؤولها القارئ خارج مرسى غير واضح لكن هذا التأويل يظل مرتبطا بدلالات السياق القبلية والبعدية ووظائفه.
لا شك ان علاقتنا القرائية بالنص تمنحنا متعة جمالية، وعن طريقها يستقل الانسان عن واقعه الحياتي موجها قبلته صوب استدعاءات خياله، ان الادراك المتخيل هو مزج من الاستقلال والخلق، ولا يتم هذا المزج الا بعملية الالغاء المقصودة لعالم القارئ الحقيقي، ثم عملية استحضار روح النص والتناسخ معه، في عملية استبدالية تخلق من رموز النص الذي يتأمله بديلاً عن عالمه الاصلي، أي: ان القراءة نشاط تحريري، يحرر الضوابط التي تربط القارئ بمحيطه ونشاط تملئه يعبأ بالخيال من خلال رموز النص المقروء، لكن هذا النوع من القراءة حسبما أظن لا يفيد النص او يقدم له تطوراً حركياً لنموذج تأويلي متبني، بل لعلني لا أعدها الا من قبيل القراءة الانطباعية، وهي تخرج من منظومة القراءة الادبية، بل لعلها حينا تصل لمرحلة الحماقة اذا تجاوزت الخيال المستلهم من رموز النص حدود برمجتها، فالحماقات تنتج عن طريق سوء استخدام الخيال كما يقول تشارلز مورغان، ويظل الفارق شاسعا بين قراءة بوليسية تجبر النص على الاعتراف بشيء لم يقترفه وبين قراءة تؤول النص وفق استجابات برمجته.
وفي نهاية الامر علينا الا ننسى ان تلقى نص ما هو الا تكوين موقف قبلى وبعدي للمتلقى تجاه هذا النص ضمن اطار البنيات الخاصة بالنص في تحولاته التكوينية الداخلية والخارجية كموقف مؤثر لما قبل التكوين لانتاج معرفي خاص يصاحب آثارا مختلفة في تشكيل مدارك المتلقى في صورة قارة نسبيا لها افق ومعايير وانساق تصاغ وفق فيوضا من الانزياحات القيمية والجمالية والفنية التي تسهم في توالد افق متعدد الاثر يتخذ طوابعا مختلفة من التعديل والاضافة والتحوير(يقتضي ممن يطبقه ان يكون في مستوى معرفة المؤرخ الفقيه في اللغة، المتمرس بالتحليلات الشكلية الدقيقة للانزياحات والتغيرات) كما يقول جان ستاروبنسكي.
seham_h_a@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|