شفي إبراهيم وعاد لنابلس، وبدأت المقاومة للاحتلال البريطاني تشتد، وبدأ (النادي العربي) يجمع الشعراء والأدباء ويشجع الشباب على إلهاب الشعور الوطني للحرية، فبدأ إبراهيم في كتابة القصائد الوطنية الحماسية، وحاولت تقليده بقصيدة نشرها صديق إبراهيم في بيروت عمر فروخ في مجلته (الأمالي) مما شجعها إلى إرسال قصائدها الغزلية إليه بتوقيع (دنانير). |
جاءت للقدس مع إبراهيم حيث عمل مع (أبو سلمى) بالإذاعة الفلسطينية، وفي نابلس حيث والدها مع كبار القوم يتفاعلون مع الحركة الوطنية أثناء الإضراب الشامل عام 1936م، فكان الجميع يلتقون في منزلهم بتزعم والدها الذي يأتيها لتنظم لهم قصيدة سياسية تلهب الجميع، ويطلب منها أن تحل محل إبراهيم في كتابة القصائد فتقول:(..وأنا في تلك الحال النفسية والاغتراب، كان أبي يأتي إليّ طالباً مني كتابة الشعر السياسي، كان يريدني أن أملأ المكان الذي تركه إبراهيم، فكلما برزت مناسبة وطنية أو سياسية أقبل علي يسألني الكتابة في الموضوع، وكان صوت في داخلي يرتفع بالاحتجاج الصامت: |
كيف وبأي حق أو منطق يطلب مني والدي نظم الشعر السياسي، وأنا حبيسة الجدران، لا أحضر مجالس الرجال، ولا أسمع النقاشات الجادة، ولا أشارك في معمعة الحياة..). |
وأصابها اليأس وظل يطغى عليها الشعور بالعجز، ولهذا نجدها تقول: |
(.. لقد تعطلت لديّ القدرة على كتابة الشعر فتوقفت حتى عن نظم الشعر الذاتي، وهكذا غطى الجدب الشعري كل تلك المرحلة الصعبة، كان وعيي الشديد لما أنا فيه من كبت وضغط يؤثر على كياني الروحي والجسدي معاً، فازداد هزالي، ولم تكن آلام الرأس تفارقني إلا نادراً، وكان التعب النفسي رابضاً بكل ثقله على أعضاء جسدي، وفي الليل كان يغرقني العرق). وقالت:(..لم أكن أحمل لأبي عاطفة قوية، بل ظل شعوري تجاهه أقرب ما يكون إلى الحيادية، لم أبغضه ولكنني لم أحبه، لم يكن له أي حضور وجداني في نفسي إلا في أوقات مرضه أو حين يسجن أو يبعد لأسباب سياسية، كان بالنسبة لي خيمة تظللنا... فلم يكن يبدي لي أي لون من ألوان الاهتمام أو الإيثار، حتى حين كنت أقع فريسة لحمى الملاريا في صغري ما كان ليدنو مني أو يسأل عني، وكان هذا الإهمال يؤلمني..). |
ولهذا فقد حل أخوها إبراهيم مكان والدها لحنوه عليها.. فحين توفي إبراهيم أحست باليتم الحقيقي... فرثته بقصيدة طويلة على القبر.. إلى روح إبراهيم) فنختار منها: |
آه يا قبراً له إشعاع نور |
لا أرى أجمل منه في القبور |
فيك دنياي، وفي قلبي الكسير |
مأتم ما انفك مذ بات لديك |
قائماً يأخذ منه بالوتين |
أيها الهاتف من خلف الغيوب |
ما ترى نبع حياتي في نضوب؟ |
لم أزل أضرب في عيش جديب |
موحش كالقفر موصول الشقاء |
منذ أمسى نجمه في الآفلين |
أين إبراهيم مني، أين أين؟! |
حبة القلب ونور الناظرين |
أنا من عيشي وموت بين بين |
فلعل الحْين موفٍ عن قريب |
يمسح الجرح ولآلام الحنين |
وعندما مات والدها حاولت أن ترثيه فلم تستطع بسبب التأزم النفسي الرهيب بفعل الكبت العاطفي الشديد الذي كانت تكابده، فحاولت أن ترثيه ففشلت، ولكنها كتبت قصيدتها (حياة) وهو كما قلت تظهر حقيقة إحساسها بفقد والدها.. نختار منها: |
حياتي دموع |
وقلب ولوع |
وشوق، وديوان شعر، وعود |
*** |
حياتي، حياتي أسىً كلها |
إذا ما تلاشى غداً ظلها |
سيبقى على الأرض منه صدى |
يردد صوتي هنا منشداً: |
حياتي دموع |
وقلب ولوع |
وشوق، وديوان شعر، عود |
أطلّ بروحك يا والدي |
لتنظر من أفقك الخالد |
فموتك ذل لنا أي ذلّ |
ونحن هنا بين أفعى وصل |
ونفث سموم |
وكيد خصوم |
بدنيا العقوق، بدنيا الجحودْ |
وهذا التشاؤم وتلك الصور الحزينة توضح ما تعانيه إذ إن جميع العائلة تسكن في منزل كبير واحد من أعمامها وأبنائهم، وكيف كانوا ينظرون إليها ويتهامسون عندما كانت طفلة صغيرة، عندما أهدى لها ذاك الشاب وردة بواسطة طفل، وهي في طريقها للمدرسة الابتدائية التي حرمت من المدرسة بسببها، فمازالت تحمل في داخلها تلك الصور. |
بعد رحيل إبراهيم، ومن ثم رحيل والدها انغمست في الشعر والسياسة، فقد قامت الدولة العبرية، وأصبح أهل الأرض غرباء، وبدأت الانقلابات والثورات في بعض البلاد العربية لتغير شيئا، ولتمسح وصمة العار، ولكن هيهات، فها هي تقول: (مع هبوب رياح التغيير والثورات خرج الشعر من بروج النزف ليواكب مسيرة الجماهير العربية فاعلاً ومتفاعلاً مع متطلعاتها إلى التحرر من القهر والاستغلال، وأصبحت قضية الشاعر جماعية وبعيدة عن الفردية). |
وبدأت تخفي في منزلها بنابلس بعض الثوار مثل الدكتور عبدالرحمن شقير وكمال ناصر دون معرفة بقية أفراد العائلة عدا والدتها وأخيها (رحمي) وتتدبر مع غيرها إمكانية تهريبهما لدمشق. |
وتقول في فصل آخر من (رحلة جبلية.. رحلة صعبة): |
(أنا أقرأ، فأنا موجودة، ظللت قارئة كتب شرهة، وقد نمّى هذه الشراهة حرماني من الدراسة الأكاديمية، فالإنسان الطموح يظل ينطوي على مرارة مصدرها ذلك الفراغ الذي يتركه في النفس الحرمان المبكر من المدرسة. هنا يتحول إلى (دودة كتب). |
وتغادر إلى بريطانيا لتتعلم اللغة ولتحس بالتحرر والاستقلال وتقول (.. إن الشعور بالنقص الإنساني هو الدافع الحقيقي الذي يدفعني إلى السفر، فهو المنبع الزاخر للمعرفة في السفر يتعلم المرء الكثير، تتسع آفاقه...) |
وتعود بين سنتين.. وتتسارع الأيام والأحداث وينصحها أحد الأصدقاء بمغادرة نابلس إلى عمان أو بيروت، فالحرب واقعة لا محالة.. فترفض مفضلة الموت على عتبة بيتها ولا تلجأ إلى بلد آخر.. |
وتقع الحرب.. وتحل الهزيمة.. وهاهي تقول: (هبطت الفضيحة على الأرض العربية.. انهزمنا.. خسرنا الحرب.. أحزاننا لا تطاق.. الأعلام البيضاء تلعب بها الريح على سطوح المنازل.. أصبحنا محتلين من قبل الجيش الإسرائيلي.. أخرجتني الصدمة عن حدود الواقع.. |
حزينة أنا حتى الموت!) |
وتختتم الجزء الأول من (رحلة جبلية.. رحلة صعبة) قائلة: انكسر طوق الصمت، كتبت خمس قصائد، أشعر ببعض الراحة.. سأكتب، سأكتب كثيراً. |
أحس إنني أعيش كل دقيقة من زمان لمسرحية، ويهزني كل فصل من فصولها، فإذا بي أنا نفسي قصيدة ملتاعة كئيبة، آملة، تتطلع إلى ماوراء الأفق!! |
وتقول أيضاً في الجزء الثاني (الرحلة الأصعب.. سيرة ذاتية) ص37: |
( يظل الشعر هو الرد الأدبي الأسرع على الأحداث والتحديات، ذلك أنه بطبيعته لغة الانفعال والاشتعال العاطفي، من هنا فهو بالتالي أكثر تلقائية من أشكال التعبير الأدبية الأخرى..). |
فبدأت تقود الجماهير وتنظم اللقاءات الشعبية في الأراضي المحتلة، وتعقد الندوات الشعرية.. فأحس العدو الصهيوني بخطورتها.. فيأتي وزير الحربية موشي دايان ل (بيت جالا) ويحذر وينذر رئيس بلديتها بألا يكرر هذه اللقاءات الشعرية، ويطلبها موشي دايان لمقابلته بالقدس.. وتذهب إليه وتحاوره وتخرج مرفوعة الرأس ليشجعها على الذهاب إلى عبد الناصر بالقاهرة لتنقل إليه رغبتهم في الانسحاب من الضفة مقابل إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل.. |
وسريعاً ما تتداعى الأحداث وتبدأ المقاومة، وتنضم الآمال والأحلام السعيدة.. وتتعمق علاقتها بشخصيات يهودية مثقفة ترفض الاحتلال وتتعاطف مع العرب وتستمر تشدو.. وتشجع المنظمات الفدائية.. وترفض الإقامة في أي مدينة سوى مدينتها المفضلة (نابلس) حتى وافاها الأجل مساء الجمعة 12 ديسمبر 2003م عن 86 عاماً. |
عندما يطلب منها أصدقاؤها مغادرة نابلس إلى مكان آخر أكثر أمناً كانت ترد عليهم شعراً. |
كفاني أظل بحضنها |
كفاني أموت على أرضها |
وأدفن فيها |
وتحت ثراها أذوب وأفنى |
وأبعث عشباً على أرضها |
وأبعث زهرة |
تعيث بها كف طفل نَمتْهُ بلادي |
كفاني أظل بحضن بلادي |
تراباً |
وعشباً |
وزهرة |
هذا، وقد صدر لها مجموعة دواوين أولها (وحدي مع الأيام) والذي أهدته لروح شقيقها إبراهيم تبعه على التوالي (وجدتها) و (أعطنا حباً) و (أمام الباب المغلق) و (الليل والفرسان) و (على قمة الدنيا وحيداً). |
نعت لنا وسائل الإعلام وفاتها في أحد مستشفيات نابلس يوم الجمعة 18101424هـ عن 86 عاماً.. |