الحداثة الشعرية في المملكة العربية السعودية «تجربة شخصية» 5-5 علي الدميني
|
لقد أشعل هذا الكتاب حرائقه في أرجاء الوطن، وحاول وأد تجربة ثقافية وليدة، وغدت أعشاب الأدباء وليمة لطلاب العلم، وكانت هذه المعركة وهذا هو المهم خطوة تجريبية أولى لتيار الصحوة، لكي يجمع محازبية حول قضية ملموسة، لا يتصادم فيها مع المؤسسة الرسمية، بينما تتاح له الفرصة لاختبار قدراته وقوته ونجاحاته أمام الجميع (السلطة والمجتمع).
وماذا كان موقف المؤسسات الرسمية من كل ذلك؟
لم يكن أكثر من تعاطف حانٍ مع التيار المتطرف، ومع ما كاله من تهم تنتمي إلى زمن الإخوان ومعركة «السبلة»، فأوصدت الملحقات الأدبية باب الرد على ما تضمنه الكتاب بأمر من وزارة الإعلام وقامت بدعم عمليات المضايقة لأبرز كتاب ومبدعي التحديث/ الحداثة، في أعمالهم ومواقعهم، فتم حرمان سعيد السريحي من نيل درجة الدكتوراه بعد اجتيازه لمعركة مناقشتها في جامعة أم القرى، واضطر الدكتور الغذامي إلى مغادرة جامعة الملك عبدالعزيز بجدة إلى الرياض، وتم تحويل الاستاذة الجامعية فوزية أبو خالد من عملها كمحاضرة في جامعة الملك سعود بالرياض، إلى موظفة أرشيف، وتوقفت الأنشطة الثقافية التي كانت تشارك فيها المرأة عبر الدارة التلفزيونية (الحجاب الالكتروني بحسب عبدالكريم العودة) في الأندية الأدبية، والجمعيات الثقافية، وسادت الوطن حمَّى التكفير، والتحزب الإسلاموي، فصمتت الأقلام، وتراجع بعضها، وهاجر بعضها إلى داخل الذات، ولم يبق فاعلاً منهم إلا المؤمنون.
رابعاً: آفاق ما بعد التسعين/
ما بعد الحداثة
قصيدة النثر وتركي الحمد:
تضافرت العوامل المحلية والعربية والعالمية، في توقيت تراجيدي لتزف مشاريع الدولة العربية الحديثة، وأحلام الفكر القومي والتقدمي العريضة، وجنة وعود الماركسية، في جنازة مهيبة إلى المقبرة، ولم يصل عليها إلى حين إلا قادة المعسكر الرأسمالي، بزعامة قطبها الأوحد.
وحيث لا يجوز التعميم، فيما يمكن ان يكون احتمالاً، فإنني أتحدث عن تجربتي الشخصية هنا وأسجل إحساسي بهزيمة الحلم والرؤية معاً، مما ألقى بظلاله على بعض قصائد ديواني الثاني «بياض الأزمنة»، ومنها قصيدة «معلقة الطائر الجاهلي».
ولأنني، وبعكس الكثير من الشعراء، لا أجد فرديتي أو ذاتويتي إلا في استيطان صوت الجماعة، صوت الوطن، صوت البحث عن مثالات الحرية والعدالة والجمال، فإنني، حين انكسر مخيال تلك الأقانيم الذهبية، اتخذت الصمت والمراجعة والحزن ملاذاً لا مفر منه، وكان صوت الجماعة المنكسر في أعماق تفاعيل الشعر العربي، يدفعني للقول:
شربت من ظمأٍ جارٍ فما انتجعت
أفراس روحي ولا نوقي العصافيرُ
إلا إلى غابةٍ أحسو حرائقها
وتحتسيني على الوهم القواريرُ
ماذا تبقى من الوجد الذي انفطرت
عروقه، وارتوت منه الأساطيرُ
قد كنت أبحث في صحرائه عُمُراً
عن ناظريَّ فخانتني التصاويرُ.
وفي مناخ انغلاق الأفق، أمام استعادة صوت الثقافة الجديدة في المملكة، ذهبت مع آخرين إلى إنشاء منبر أدبي صدر من قبرص بعنوان «النص الجديد»، أسهم في إشاعة ثقافة الحوار والتعددية، حتى استعادت ساحتنا أنفاسها، بعد انجلاء معركة الغبار، وتجفيف دماء المتضررين من «مجزرة الحداثة».
وحين أُطلّ على مشهدنا الأدبي اليوم، فإنني أرى ازدهار الحركة النقدية تنظيراً وتأصيلاً، وألحظ حضوراً بارزاً لقصيدة التفعيلة وقصيدة الشعر الشعبي الحديثة، كما أرى نزوعاً جارفاً باتجاه كتابة الرواية كادت معه أن تتبوأ مكانة الشعر كديوان معاصر للعرب.
وإذ يشير هذا التورط الجماعي في إنتاج الرواية، إلى تطورات السياق الاجتماعي، وبداية التشكل المديني لطبيعة الذائقة، (في مجال الحرية والتعددية)، فإنه يهمني التأكيد هنا على الاختراقات الهامة للتابوه الاجتماعي في روايات القصيبي، وتمركز تلك الاختراقات بشكل لافت ومؤثر في روايات تركي الحمد، التي غامرت بجرأة لمقاربة التابوهات الراسخة، (الجنس، السياسة، الدين)، لأنه بذلك قد استطاع رفع سقف حرية الكتابة بامتياز، عبر ما تضمنته رواياته الجريئة، من نقد حاد لمكونات الحداثة وما قبلها، ولعل تلك الشجاعة بحد ذاتها تشكل عنصراً جمالياً عالياً، أسهم في إغناء المشهد الحداثي وما بعده تحديداً، حتى وإن اختلفنا مع بعض مضامينها أو في تقويمنا الفني لها.
أما حين أركّز زاوية النظر على مشهدنا الشعري اليوم، فإنني أرى الغياب الفادح لشعراء التألق الثمانيني، (في التفعيلة والنثر)، ولعلهم يشاركونني جدل المراجعة، والتمرن على مقاومة الانكسار، والبحث الجاد عن حداثية «الفعل التواصلي»، بحسب هايبرماس.
كما أرى ان المشهد يعيش حالتين متضادتين معاً، أولاهما: ضمور فاعلية الحراك الثقافي في أبعاده المعرفية، داخل خندق الحداثة نفسها، وفي علاقتها بالآخر. وثانيتهما: انكسار الممانعة الاجتماعية والثقافية لأنماط الكتابة الشعرية، حيث تبدو ساحتنا الثقافية اليوم أقرب ما تكون إلى القبول بتعددية الخطابات الشعرية وتعايشها، ولعل ذلك يعود في جانب مهم منه إلى ان الحراك الاجتماعي بوجه عام، قد وجد مجال انشغالاته خارج الوسط الأدبي، كما أن بعض التيارات المحافظة المتطرفة، قد تفرغت لمعاركها السياسية والتكفيرية، عبر ممكنات التعبير البديلة في المنابر ومواقع الانترنت، واستخدام عنف السلاح، وفي الشارع ذاته.
وحين أذهب إلى القول، بأن الشعر العمودي كان نتاجاً وتعبيراً عن صوت القبيلة، وأن شعر التفعيلة كان مخاضاً للخروج من مؤسسة العلاقات القديمة صوب تشكيل علاقات جديدة يأخذ فيها الشارع، بتنوع مكوناته المدنية، موقعه في انتاج النص، والتفاعل معه، فإن قصيدة النثر تصبح تعبيراً عن شعر المدينة، بحسب البازعي حيث يتجاوز الناس بعيداً عن انتماءاتهم القديمة أو الحديثة، ويستقل الفرد فيها بمؤسسته الخاصة، وتغدو الذات المفردة هي منبع الرؤية ومناط التعبير والاستهلاك أيضاً.
ولعل من الواضح ان جملة التطورات والخضات التي نعيشها منذ نهاية التسعينات قد أسهمت بشكل كبير في تبوء قصيدة النثر موقع الصدارة الشعرية من حيث الكم أولاً.
ولأن تقاليد الحداثة كما يقول باث «هي تقاليد تنقلب على ذاتها بدعوى ضرورة القطيعة»، فإن قصيدة النثر تؤسس لخطاب القطيعة الذي يخلص للنزعة الفردانية الكامنة في مصطلح الحداثة نفسه، ويمده إلى أقصى مدى حين يغدو الكون الشعري المنجز عالماً مكتفياً بذاته، يوازي الوجود العياني وينفصل عنه، وحين يصبح تأملاً جمالياً خالصاً يحفل بالمهمل والمهمش والمسكوت عنه وحسب، ويقوم بقطع صلته بالرؤية الشاملة التي بشرت بها الحداثة.
وباستعادة ما أسلفنا الحديث فيه من قبل، حول تعددية معنى الحداثة، وما بعدها، فإنني سأصف الشعر المنتمي للحداثة بقدر انحياز رؤيته إلى العقلانية والحرية، وقيم العدالة، والمساواة، والانتصار لحركة التقدم الاجتماعي، والرفع من مكانة المرأة، فيما سأصف الشعر المنتمي دلالياً لحساسية ما بعد الحداثة، بقدر ما تعلنه بنيته النصية من علامات التشظي والتشتيت والمجاورة وموت المعنى، وغياب بوصلة الرؤية الاجتماعية.
ولذا فإن هذا التفريق بين مصطلح الحداثة وما بعدها، سيطال شعراء يكتبون قصيدة التفعيلة مثلما سيطال شعراء يكتبون قصيدة النثر، حيث يغدو الماغوط وفوزية أبو خالد حداثيين رغم انتمائهم لفضاء قصيدة النثر، حيث تقول في قصيدة تنتمي إلى الحداثة وليس إلى ما بعدها بعنوان «إلى متى يختطفونك ليلة العرس؟» في ديوانها الثاني:
«أدخلي دمي وتوضئي
فلا يجوز التيمم إذا حضر الماء
اخلعي نعليك
وأعيدي في الكفين
وفي القدمين
وحول السرة
رسم الحناء
أخلع عليك الليلة
أبهى ما حمل هذا الوطن من أسماء
أسميك طفول
أسميك خديجة أو سارة
أسميك العذراء
لا تعرف غير عيونك
ماذا يعني أن يكون للمهر الجامح وطن
يأوي إليه كل مساء»
والواقع، أن خطاب قصيدة النثر الجديدة في العالم العربي وفي بلادنا، قد انحاز بامتياز إلى شعرية ما بعد الحداثة، أي إلى المرقى الأشد صعوبة، رغم ابتذال الكثيرين لسهولة كتابتها.
وإذا ما تعاطينا مع الضرورة الموضوعية التي اقتضت مفاعيلها تصدر قصيدة النثر للمشهد الشعري في بلادنا، وكتابتها ضمن أفق ما بعد الحداثة، فإنني أستطيع القول بأن عدداً من شعرائها المتميزين يعبرون عن حركة شديدة الثراء والاختلاف والتجاوز، ويقفون مع نظرائهم العرب في نفس الموقع، بل يتفوقون عليهم في الاحتفاء الشديد باللغة.
وأنهم بذلك يدشنون مرحلة الكتابة الشعرية التأملية لا الانفعالية، التي تحتاج إلى حساسية عالية وثقافة غنية، ولعلهم يحلمون وهذا من حقهم مع سواهم برسم ملامح شعر إنساني وعالمي، متعالٍ على الهوية الضيقة والخصوصية المنغلقة، وهذا ما يتصادى مع الأبعاد الفكرية والثقافية لمكونات ما بعد الحداثة.
وإذ يفتقر هذا التيار في بلادنا إلى نقّاده القادرين على الانشغال بحميمية على نصوصهم وتجلية ينابيعها الجمالية، فإنه يفتقر إلى جمهوره، رغم الجهود النقدية التي تعمل باخلاص في هذا الحقل، مثل محمد العباس وعبدالله السفر ومحمد الحرز.
ورغم ان اغراق الشعراء في كتابة النص التأملي المتشظي البعيد عن الهمّ الاجتماعي، سيسهم في تقلص دائرة قراء الشعر، حتى لتنحصر على منتجيها، إلا ان ذلك الأمر لا يبدو مهماً البتة بالنسبة لشعراء ما بعد الحداثة!
أما بعد..
فقد أثقلت حديثي بصفات القيد بدلاً من توصيف تجليات الحرية، وانشغلت بالحاضنة أكثر من الانغماس في متعة تأمل الوليد، ولكنني أردت من ذلك الإشارة إلى مراوغة مصطلح الحداثة وتداخلاته مع مفاهيم التجديد، وأن أسهم في اشتباك شعر الحداثة بما بعدها، ولكي أكون شخصياً أكثر دقة في ربط الصفة بالموصوف، ولكي أوضح لماذا كان محمد حسن عواد رائد النزوع نحو الحداثة، وأن محمد العلي هو رائد الحداثة الثقافية في بلادنا.
كما أنني أردت من جهة أخرى، إغناء شهادة شعرية سابقة لي بعنوان «لست وصياً على أحد».
فاسمحوا لي الآن، للتأكيد على أن حديثي كان سرداً وصفياً لم يتغيا إطلاق حكم القيمة، بقدر ما تغيا تحديد مفاهيمي الشخصية للمصطلح، وتوثيق حراك مرحلة ثقافية خصبة من مراحل تطورها في بلادنا، وان أقول مرة أخرى، الآن، وهنا، بأنني «لست وصياً حتى على نفسي».
وشكرا لكم.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|