العبودي.. أو العالم الموسوعي محمد بن عبدالرزاق القشعمي
|
التقيت الشيخ محمد العبودي لأول مرة قبل حوالي ثلاثين عاماً في الأحساء، عند مجيئه برفقة الشيخين حمد الجاسر وسعد الجنيدل، وهم يتفقدون القرى والهجر والآبار والمواقع الجغرافية والتاريخية في المنطقة تمهيداً لإصدار عملهم الضخم «المعجم الجغرافي».
واللقاء الثاني بعد ذلك بخمس أو ست سنوات عندما كان يعمل أمينا عاماً للدعوة الإسلامية بالرياض عام 1402هـ لإعطائه كتاب «بريدة» للدكتور حسن الهويمل ضمن سلسلة «هذه بلادنا» التي بدأت الرئاسة العامة لرعاية الشباب بإصدارها وذلك لتقييمه والتقديم له.
واللقاء الثالث في النادي الأدبي بالرياض عام 1405هـ عندما كلف بالعمل كأمين مساعد لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة. فقد زار النادي والتقى ببعض أعضاء النادي ورئيسه، وقد سأل عن النشاط فأخبره رئيس النادي وقتها الأستاذ عبدالله بن إدريس بأنهم بصدد إقامة حفل لتكريم الشيخ عبدالعزيز بن باز بفندق زهرة الشرق. فقال: ناديكم أليس نادياً أدبياً؟ فقال له الرئيس: بلى! فرد عليه العبودي: إذا فكيف تعملون عمل غيركم!!.
وأردف: كثر خيركم إذا قمتم بما يتعلق بالشئون الأدبية والثقافية وأديتم واجبكم نحوها ونحو أبناء هذا الوطن ثقافياً.
فمعالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي، رجل علم وأدب منذ يفاعته فقد تعلم في طفولته لدى كُتَّاب صالح محمد الصقعبي ببريدة وانتقل لحلقات العلماء والمشايخ في المسجد الكبير مثل الشيخ صالح الخريصي والشيخ عمر بن سليم وغيرهم ومنذ وصول الشيخ عبدالله بن محمد بن حميد رحمه الله والد معالي الشيخ صالح بن حميد رئيس مجلس الشورى حالياً، منذ وصوله لبريدة في مطلع الستينات الهجرية وهو ملازم له.
أتذكر وهو يروي لي عند زيارته في منزله بالرياض قبل خمس سنوات عن هذه الأيام الجميلة التي كان يحرص فيها على اقتناء كل كتاب مفيد وبالذات في الفقه والحديث والتوحيد وغيرها من الكتب الدينية المهمة.
فقد ذُكر له وجود مخطوط مهم في مسجد الشيخ عبدالرحمن بن سعدي بعنيزة والتي تبعد عن بريدة بما لايقل وقتها عن 40كيلاً إذ تقاربت المسافة حالياً بين المدينتين وعزم هو وأحد زملائه على الذهاب إلى هناك لنسخه.. فأخذ معه «زهاب» السفر عبارة عن قرصان ملفوفة ببقشة وضعها تحت إبطه وقربة ماء مع صاحبه، وخرجا قبيل صلاة الفجر ليصلا قرب صلاة الظهر إلى هناك واتصلا بالشيخ ابن سعدي رحمه الله الذي رحب بهم ومكنهما من الكتاب المذكور وجلسا معتكفين بالمسجد حتى تم نسخ الكتاب بكامله ليعودا ظافرين بعد ذلك.
الشيخ العبودي كما عرفته رجل متواضع بسيط رقيق يعطي كل ذي حق حقه.. يحب المعلومة ويبحث عنها في مصادرها ويتأكد من صدق روايات البعض لمقارنتها بروايات غيرهم.. فلديه ذخيرة ممتازة من المخطوطات، والكتب وقسم خاص بمسودات كتبه التي لم تنشر، ومن أهمها: الأسر المتحضرة في القصيم، فله إلمام تام بعلم الأنساب، ومرجع في الأسر والقبائل، ورغم أنه عمل بها منذ أكثر من ثلاثين عاماً إلا أنه مازال يعتقد أنه لم يستوفي ما يؤمل منه، وأظن والله أعلم أن صدور كتاب الشيخ حمد الجاسر «جمهرة أنساب الأسر المتحضرة في نجد»، عام 1401هـ أي منذ ثلاث وعشرين عاماً والذي أخذ من مسودات الشيخ العبودي الكثير هو السبب في تأخير صدور كتابه «أسرالقصيم».
على أي حال فالشيخ محمد العبودي كتاب مفتوح للجميع.. لقد روى أيام طفولته ووصف منزل العائلة الكبير ومجلس الرجال والفتحات الصغيرة في أعلى الجدار من الجهات الأربع ومعرفة والدته بمواعيد دخول فصول السنة.
فعندما تدخل الشمس من الفرجة هذه فهذا معناه بداية تقديم الحنيني لأهل البيت صباحاً إذ إن مربعانية الشتاء قد بدأت. ومع دخول الشمس من الفرجة الأخرى فقد دخلت الشبط فيبدأ فك الريق بالمراصيع أو العبيط والسمن لتساعد في رفع مستوى التدفئة وهكذا...
ولنسمع ما قالته ابنته الدكتورة فاطمة عنه قبل أيام في جريدة عكاظ: «هل للوراثة دور ساعدت البيئة على إبرازه أم أن الإصرار والمثابرة في طلب العلم والقدرة الفائقة على استثمار الوقت وراء ذلك؟!.
أعتقد أن العوامل السابقة جميعا مع توفيق من الله تعالى تضافرت لتساعد والدي لتحقيق ما أنجز.
فللوراثة دورها فقد كان جدي ناصر العبودي قاصاً من الدرجة الأولى «كما ذكر والدي» يحفظ الكثير من القصص والروايات ويرويها بطريقة مبهرة، وقد تكون طريقة والدي المشوقة واسترساله في رواية مشاهداته وانطباعاته ورثها عن والده، وجد والدي عبدالرحمن العبودي شاعر عامي أورد له والدي أبياتاً عديدة كشواهد في كتابه «كلمات قضت» وفي كتب أخرى. كما أن خال أبي وهو جدي لوالدتي عبدالله بن موسى العضيب من بيت علم وأدب، فقد كان يشرع بابه يومياً بعد صلاة المغرب لمن شاء أن يستمع إلى شيخ يستضيفه في منزله، وبعد صلاة العشاء يجمع أهل بيته حتى الأطفال ويقص عليهم خلاصة ما حدث الشيخ به، كان ذلك قبل أكثر من نصف قرن من الزمان، وفي هذه العائلة نشأت جدتي لأبي وهي قارئة نهمة حتى بعد أن أصبحت عجوزاً وقد انطبعت صورتها في مخيلتي وهي تجلس القرفصاء في سطح المنزل أو في فنائه تقرأ كتاباً وقد قربته من عينيها لتستطيع القراءة، وهو أمر نادر الحدوث لامرأة في نجد وفي مثل سنها.
ومن المؤكد أن حب الاطلاع والشغف بالمعرفة منذ الصغر كان له دور أساسي في إثراء ثقافة والدي وتنوع اطلاعه، إلى جانب ما حباه الله به من قوة في الذاكرة وقدرة عالية على الاستيعاب ساعد عليها جلده على التدوين فقد كان يدون كل ما يمر به في مذكراته اليومية من قبل أن نولد.
العبودي حركة مستمرة ومثابرة على طلب العلم، تولى إدارة أول مكتبة عامة في المسجد الذي يتخذه الشيخ عبدالله بن حميد حلقة علم يستقبل بها طلبته.. وعندما أسس معهد بريدة العلمي عام 1371هـ لم يرشح سوى العبودي لإدارته رغم أنه لا يحمل مؤهلاً كما هو متعارف عليه في الوقت الحاضر.
ورشح بعد ذلك وتولى التحضير لافتتاح الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة في بداياتها وأصبح أميناً عاماً لها مدة طويلة حتى انتقاله إلى الرياض ليشغل وظيفة أمين عام الدعوة الإسلامية حتى انتقاله قبل أكثر من عشرين عاماً أميناً عاماً مساعداً لرابطة العالم الإسلامي.
له أكثر من سبعين كتاباً مطبوعاً وأكثر من 100 كتاب مخطوط لم يتم نشره وطبعه، من أهم كتبه وأغزرها، كتابه ذي الخمسة مجلدات «الأمثال العامية في نجد» إذ طبع عام 1379هـ سابقاً أستاذنا عبدالكريم الجهيمان في مشروعه الضخم الأمثال الشعبية في قلب جزيرة العرب والتي تبلغ عشرة مجلدات، والكتاب الآخر معجم بلاد القصيم، وكتب كثيراً في الرحلات وذلك أنه حفظه الله قد استفاد من جولته في ربوع العالم وقاراته لتفقد أحوال المسلمين فكتب جميع ما شاهده وما لفت نظره من تاريخ وجغرافيا ووصف صادق لأحوال المسلمين وعاداتهم.. إلخ.
وكتب عن الثقلاء وعن القصة وغيرها الكثير وكما قال عنه الدكتور عبدالرحمن الشبيلي في مقال له قبل أيام «إنه قد صدر له ما ينوف على 130 كتاباً مع ما يقرب من 100 مخطوط وأن ما يخص أدب الرحلات لا يقل عن 160 كتاباً وقال إنه يهتم بالبحث في أصول الأمثال ويعيدها إلى أصولها فيرجع الفصيح منها إلى منبته ويبين حال الدخيل منها والمعرّب».
أذكر أنه زار مكتبة الملك فهد الوطنية قبل سنتين ليهدي لها بعض كتبه وليطلب بعض المعلومات، وقد قدمته لأمين المكتبة وعندما تباسط معه قال العبودي له: هذا القشعمي ما شاء الله عليه يعرف الجن والإنس..
وأخيراً فالشيخ محمد الناصر العبودي وهو يُكرَّم بالمهرجان الوطني للتراث والثقافة لهذا العام 1424هـ إنما يكرم كل الرجال المخلصين لبلادهم والمؤتمنين على مكتسباتها الثقافية والتاريخية، وبالمناسبة هو يطل على الثمانين من عمره.. متعه الله بالصحة والعافية وأطال عمره ووفقه لعمل الخير وتحقيق ما يعمل من أجله لمصلحة الجميع وما يسعى لتحقيقه من أعمال ومشاريع خيرية وفقه الله وسدد خطاه.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|