مدخل يوحي بشيء ما في مكنونات شاعرنا لابد وان يبوح بها.. وقبل ان يبوح رصد لنا عدد المجانين السبعة واخاله متواضع الرقم إلى حد لا يوافق عليه أحد.. المجانين كثر بعددهم هذا العالم المجنون من حولنا الذي يتراقص على قصف الصواريخ.. وسيل الدماء.. وركام الدمار.. وحشرجة الجرحى.. وانات المشردين. وشكوى المظلومين.. يا شاعرنا نتجاوز معك هذا البخل لسبب واحد هو ان الرقم السابع لزمة شعرية ؟؟ لا مناص منها.. هات ما بعد المدخل. |
(تندلق الآهة من صدري |
وتلامس خفاقا دامع |
واناضل كي لا أبكي |
واخاصم نفسي. وأدافع |
ينشطر الكون على رأسي |
كدليل قاطع.. |
هذا وهمي.. وهيامي |
في البحث عن الشيء الأسمى |
في شق طريق رائع |
والدنيا مادامت أحلاما |
في ذهن الجنون السابع |
تمتد من الوهم المصفر إلى الشارع) |
جميل هذا الجنون العاقل الذي استوطنته انتَ.. واستنبطته معك.. ليت إنه بعدد المجانين المجانين الذين يزرعون الخوف والموت في حقولنا وفي عقولنا دون خشية من أحد.. |
ملاحظة عابرة لا تنال من شطرك الجميل الذي يقول «في البحث عن الشيء الأسمى» ألا ترى معي لو انه كان الشيء الضائع؟ |
ومن مخاوف الحياة المتخمة بصرعة الجنون ينقلنا شاعرنا أحمد السعد إلى ما هو أسعد.. إلى الشال الرقيق.. وشاله ليس الهدف.. وإنما من يرتديه.. |
أحن إلى الديار ديار سلمى |
اقبل ذا الجدار وذا الجدار |
وما حب الديار شغفن قلبي |
ولكن حب من سكن الديار |
ماذا عن شاله؟! |
(عينان للمدى تسابقان الطيف |
ترقبان لحظة الرحيل. |
والمنتهى هناك.. في السديم |
ينثر العبير. للملتقى الجميل |
اثنان.. فاصل بينهما |
من رغبة شفافة الغطاء) |
ليته تحرر من «أل» التعريف للغطاء وتركه مهملا.. هكذا (غطاء) لاستقام الوزن أكثر وأعطى بُعدا أكبر.. |
(ماذا تقول أحرفي.. ماذا تقول.. |
تلك الاصابع التي تلملم الشفاه |
هذا دعاء صامت يدب في العروق |
كالنور يسري بادئا |
وقت الشروق..) |
وأيضاً ملاحظتان لا تنتقصان من قيمة القصيدة ولا من قدرها.. أولاهما إغفاله لعلامة الاستفهام في شطره الأول.. ثانيهما عند قوله «كالنور يسري بادئاً» وهو صحيح.. والأصح سابقاً وقت الشروق لأنه بداية ميلاده.. |
«سؤال» إحدى محطات الديوان: |
جميعها تساؤلات تعجب تعني السخرية والرفض!! حسنا لو انه أضاف إلى كل شطر منها علامة تعجب!!! حتى الأمل الظليل بهذه التسمية لا يتفق وسياق الاستنكار.. لأنه أمل عليل أو ذليل هكذا أحسب.. |
(أنا إن لويت أعنة خيلي الولهى |
إلى العمر البخيل |
وكتبت فوق احلام الدمى |
في عتمة القول النبيل |
حرفا رماديا له لون الذبول |
ماذا يهم؟!) |
في عالمنا المسكون بوحشته ووحشيته لا شيء يهم يا صديقي.. صدقني.. «رفيقة الرحلة» لعلها رقيقة أنيقة تؤنس غربته بالحلال.. وهذا ما أتصوره.. |
(في الطائرة. ألقاكِ مثلي) نقلة |
عبر الأماني الحائرة |
نشتاق للوهم الجميل) |
لماذا لا يكون الحلم الجميل.. ان ادعى إلى راحة النفس وطمأنينتها.. أليس كذلك؟ انها يشخصها بمشاعره الدفينة بشهدها مثل الغيوم السادرة. المفرحة. المتناثرة.. تشده إلى ملامحها عواطفها الثائرة.. عيونها المتكابرة الحزينة بلوعة الأسى، هكذا وبهذا التوصيف والتوظيف لمفرداته رسم لنا لوحة شاعرية لرفيقة رحلته.. مغامرته لينتهي إلى قفلته الشعرية لا إلى قبلته.. إنها رحلة الهوى.. والنوى.. وروح آسرة.. |
هذه المرة كانت ملكا لفلذة كبده. ولده.. الذي شبهه بالحلم الأخضر.. بالظل الظليل.. |
(حلم أخضر، ظل يراودني |
يأتيني بين الفينة والأخرى |
يضحك.. يبكي.. |
ويناولني قنديلا ابيض |
مرسوما في قافية ولهى |
حيناً أكتبه.. حيناً يكتبني |
ونسافر في عتمة الليل.. |
مبهور بالصوت القادم في عمري.. ويقيني |
اذنا تلمس حبا مكتوبا في نغم |
يعبر دنياي. ويقيني) |
وتمتد به ملامح الصورة يستبطن ما في دواخل صغيره. فهو لا يعرف روعة أحلام التكوين رغم انه قابع في تعب أبيه.. راكض في صدره.. مستحوذ على وقته.. هكذا نظرته إليه جاءت شفافة وقلقة ككل الآباء الذين يبصرون في مآقي أطفالهم ملامح الخوف والقلق من الآتي.. قصيدة جميلة ومعبرة تحسب لرصيد شاعرنا السعد.. |
نتجاوز معه محطة «قالت». وهل هناك شيء تقوله المرأة لمن تأنس به غير جمالها ودلالها.. واغرائها لفتى أحلامها التي ترغب العيش معه في عش واحد يظلله الحب.. |
يعود بنا شاعرنا إلى مخزون ذاكرته في بوح جميل ملؤه الحذر والحيطة من أن يُخدع في مسيرة عاطفته الوجدانية بعد تجربة ملؤها الفشل.. |
(لن أخدع يوما بما ستقوله فيك الشفاه |
الحب لا..! فتمهلي.. أنا لا أعرف منتهاه |
قلبي شكا زمنا.. |
وحان الآن أن يلقى هداه |
عاش الستين.. مع الأسى |
ما نال يوما مشتهاه.. |
ظن الطريق موردا |
فإذا به يا ويلتاه |
ماذا أفاء من الهوى |
قولي.. وما جدوى بكاه |
إن لم تكوني تعلمي.. |
كذب الهوى إني أراه |
فالعفو إني راحل |
ببقيتي نحو الحياة) |
صورة حب سوداوية ومأساوية قضاها شاعرنا شعرا انتهت به إلى فراق أو طلاق بعد ركام أعوام من تجربة فاشلة.. لقد فر بِجِلده وجلَدِه مثلما بقي من أيام عمره وهو القليل.. لعل في القليل الباقي العوض.. |
في شطره ما قبل الأخير أقحم حرف الفاء على كلمة العفو.. إذ بدونها أحسن.. وابعد مساحة.. |
«اللؤلؤة» خيار ما بعد الهجر والهجرة.. لعلها لؤلؤة حياة موردة تبرق في كفه تعوضه عما فات. |
(يفصلني عن هذا العالم حد الصمت |
ويغمرني فيض الاحزان |
إحساسي مسكون بالفزع |
وذاكرتي ملأى بالأشجان |
قافلة تزحف في رأسي |
تشجب هذا الصمت |
وأخرى تعتز بهذا الادمان |
يتغلغل سيفكِ في خاصرتي. |
أتقوقع.. مفجوعا منكن. |
لؤلؤة تاهت في البحر |
فهل تجدي تنهيدة غواص |
وشجاعة ربان) |
يا للضياع.. ويا للحسرة.. اللؤلؤة مفقودة.. والربان عاجز.. والغواص تتملكه التنهيدة.. دع البحر يا شاعرنا التائه. ابحث لك عن لؤلؤة برية بشرية شريطة ان تغوص في بحرها خصالا وجمالا قبل ان يتخطفك الموج فتندم.. |
لقد منحنا فرصة أمل في لؤلؤته وخاب الأمل.. هذه المرة أعطى لنا البشرى من خلال عنوان مقطوعته الجديدة بشرى.. |
(ذات مرة.. |
شدني الحب قليلا |
فمشى بالقلب أثره |
رحلة في مشتل ورد |
وعبير ومسرة.. |
وهيام. وأماني لطاف |
عشتها أول نظرة |
شيء مفرح ان تستقبل قلبه كل هذه الأشياء مرة واحدة.. ورد.. وعبير.. وحسرة.. وهيام. واماني لطاف.. ماذا ينتظر اكثر من هذا.. الحلم لا يستوعب كل مفردات الحب والجمال مرة واحدة.. ماذا بعد؟! هل سيصاب حلمه بانتكاسة، كما عودنا في ديوانه؟.. هل الديوان يقرأ من عنوانه؟ لننتظر قبل ان نحكم على مجريات الأحداث.. |
ذات مرة.. كان صوت الحب يسري في المسرة |
راسما درب حنين. |
لا انتظارات.. وسهرة |
مدَّ لي افقا جميلا |
من خيالات محب |
ورؤى ترسم فكره |
ليس عندي غير قلب |
عاطفي. عاطفي. باع للآهات عمره |
وهي بشرى ربيع. وابتسامات حقول |
وتلاوين.. وخضرة..) |
بشرى لم تكتمل.. لم تتم فصولها بعد.. تركها لنفسه.. وأبقانا في حيرة من أمره.. حسنا فعل فتلك خصوصيته.. وعن «السأم» كانت له حكاية ورواية مليئة بالتداعيات والتعب.. |
(أحيانا. يكمن هذا الملعون على صدري |
أحيانا.. ينتف شعري |
أحيانا.. يجلس في صدري |
وأخيرا.. يقصم ظهري) |
ماذا بعد قصم الظهر الا نهاية العمر.. لعله اغراق في التوصيف.. ومبالغة في مفردات التوظيف للجمل.. |
(قانون النشوة يوجب |
ان تشرب من حبب طائر |
نصف الكأس هواء |
والنصف الآخر وحش كاسر |
أو سم الأشياء باسماء |
ليس لها طعم.. |
واكتب فوق الماء.. |
لذة هذا اليوم امتزجت بالشبق الفاخر) |
مهلا يا عزيزي.. أدركنا معك كل الوان السأم.. الا شطرك الأخير حيث اللذة الممزوجة بالشبق الفاخر! |
أعد النظر في وصفه انه لا يستحق هذه الصفة.. قل عنه انه غادر.. أو جائر.. أو سادر.. أو عاثر.. لا تقل عنه أبدا انه فاخر!! |
قصائد الديوان حلوة رغم مرارة حنظلها وطعم معاناتها ومأساتها.. ولأن خط الرحلة ومسارها مع شاعرنا في مرحلته الأخيرة، سوف نمر مرور الكرام على مقطوعاته «همس الهوى» و«فوق المسرح» و«بكائية» و«قصيدة» دون ان نتوقف فأمامنا حجم اللحظة التي اعطت لنا شارة التريث.. |
(يقذف هذا البحر هواء احمر |
يتنفس. يلهث. يسعل لونا أصفر |
تختلط الألوان. الأصغر فالأكبر |
حجم اللحظة يمسي أجنحة |
تأخذ بُعد المأساة |
فيهمى صوت الناس الحيرى |
الرحلة تصبح أخطر) |
قطعة مليئة بالصور الجمالية والألوان القزحية تعبر عن موهبة شعرية عالية في رسم الخيال بكل ما يعنيه من أبعاد.. |
(كالسمان الداخل في جوف النخلة امضي |
نجار تهوي قبضته |
والراحل مثلي يبكي) |
مشكلتك انك تبكي.. وتشتكي.. لم أسمع لك ولو مرة «واحدة» صوت تحد وانت القادر على إسماعه لقد قتلك الصمت في شعرك النابض بالمشاعر.. أين صوتك؟! |
«الدوار» و«قاتل الله الحوار» شقيقان لوحنا بأيدينا لهما ونحن نمتطي الدرب الذي أوشك على النهاية.. كان هناك طيف جميل على هيئة طفلة تلوح لنا بيديها البضتين الناعمتين.. كحال بنته التي رغبت انصافها وإنصاف ابيها للاستماع. وللاستمتاع بنجواه لها، كما سبق ان حدث لوالده مع ولده في مقطوعة سابقة.. لم نجد من البد إلا ان نقف وقفتنا الأخيرة معها.. مع قصيدة ابنته.. «بنيتي» |
(بنيتي.. لغة تسكن قافيتي |
تنثال بين حنايا الوقت. وتمضي |
نسغا مهموما بالشوق |
لحالات مهمة كبرى |
تهمي عطرا شفافا |
يتواصل عبر حروف) |
ولأنه يحبها.. وهل فينا من لا يحب ثمرات قلبه؟ ادركها بنتا يخشى عليها من عاصفة الريح الهوجاء.. من قحط ينثر اوراقه.. من منجل يعجل بحصاده.. |
(الجرح النابت في ألقي |
ومصير العمر الدامع. في الفرحة |
ترسم فوق اللون الابيض لوحة |
دمعة انثى.. |
خفقة حزن الصمت.. |
الراحل نحو الصرخة |
تبكي بدموع الامل الاسمى.. |
يأتي من كل ضباب الأمس |
القابع فيها يحمل جرحه) |
وأنا بدوري أحمل أوراقي وأطويها على أمل ألا تكون دموعها دموع ألم.. كلنا نحب الحياة.. ونتمناها سعيدة لغيرنا ولنا.. فالحياة محبة.. |
|
الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 |
فاكس 2053338 |