الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السياراتالجزيرة
Monday 24th July,2006 العدد : 163

الأثنين 28 ,جمادى الثانية 1427

صدى الإبداع
د. سلطان سعد القحطاني

حمزة شحاتة (1909 - 1972) (8-8)
عندما استقر حمزة شحاتة في القاهرة نظم قصيدته المشهورة (غادة بولاق) وسماها البعض (نفيسة)، ونفيسة اسم متداول في مصر، ولا يهمّ الاسم؛ فالمضمون أولى منه، فما لبث الدارسون إلا أن قالوا: إنه يقلد فيها الشريف الرضي في قصيدته المعروفة (ظبية البان)؛ لأنها اتفقت في الوزن والقافية، ومطلعها:
يا ظبية البان ترعى في خمائلها
يهنأ لك اليوم أن القلب مرعاك
وهي قصيدة معروفة لا تحتاج إلى تعريف. أما حمزة شحاتة فكانت قصيدته على هذا البحر، لكن مفرداتها تختلف في حداثتها عن قصيدة الشريف الرضي؛ فهي معاناة شاعر فقد الحب والحنان، فوجده في غير من كان يحلم به، وقد تكون غادة بولاق، ذلك الحي القاهري العتيق، رمزاً شعرياً قصد به مصر كلها ممثلة في فتاة جميلة:
يا فرحة النيل يا أعياد شاطئه
يا زهر واديه يا فردوسه الزاكي
يا ذخر ماضيه من فن وعاطفة
قيدته بهما لما تصباك
كانت ضحاياه في الماضي عرائسه
فهالني أن أراه من ضحاياك
ولعل شحاتة قد عبر عن مأساته في هذه القصيدة خير تعبير، فقد ذكر فيها كل ما كان يفتقده في المرأة وفي الصديق، بل في المجتمع كله من صفات الجمال الروحي المفقود. وفي قصيدة أخرى بل في عدد من القصائد يستعيد فيها ماضيه الجميل في الحب، لكنه يكتشف أن كل ذلك كان وهماً وسراباً يحسبه الظمآن ماء، وها هو يقول في قصيدة عنوانها (أنتِ):
أنت التي أيقظت قلبي
من عميق سباته..
وأنرت عمق حياته..
وسطعت كالفجر المورَّد
في دجى ظلماته
ودفعتِ تيار الشعور
فدب في خفقاته
ونثرت آلاف الزهور
على حقول مواته
وأزحت أستار الضباب
غفا على صبواته
وبالرغم من هذه النشوة يختم القصيدة بما يعانيه ويرى أنه هو الحقيقة في حياته وحياة أمثاله من البشر الذين خدعهم بريق الحياة وزيفها:
ما جدوى الكلام؟؟
ماتت عواطفنا
فليس يعيدها لحياتها
كل الكلام
وترمدت نار الهوى
بفراقنا.. وخبا الغرام
فعلاك ننفخ في رماد؟
وإلامَ نحلم بالمعاد؟
وهكذا يعود شحاتة إلى واقعه، وهذا دأبه في كل أشعاره يحلق في خيال كان يتمنى أن يكون حقيقة، لكنه يكتشف أن ما يحلم به رماد، لن تعود جذوته كما كانت، فيرضى بواقعه المرير، ويستسلم لظروف حياته رغماً عنه، وها هو يرثي نفسه في آخر عمره بمرثية يصور فيها خيبة الأمل في كل شيء، وخاصة الناس:
خيال أجاد الوهم نسج خيوطه
شقينا بما أزجى إلينا وأعقبا
أراني شريداً أنكرته بلاده
فشرق مسلوب القرار وغربا
وناضل يستبقي الرجاء فلم يجد
عدا اليأس نهجاً والمعاطب مركبا
وهو في هذا المنحى يلتقي بالشاعر حسين سرحان في طريق واحد اسمه (اليأس من الحياة والناس) ساق كلاً منهما إلى الانطواء والابتعاد عن الظهور والناس؛ لأن أحلامهما أكبر من واقعهما، وقد قدَّر من هو أقل منهما قدراً، فسبب ذلك لهما الإحباط، وليس ذلك بمبرر لهما على هذا السلوك، لكن هذا ما حصل، وسينصفهما التاريخ، ومن هو في مستواهما من المبدعين في يوم ما، فالسرحان يمقت حياته التي أضاعها في الوظيفة التي لم تكن همه ولا منتهى طموحه، فيقول:
فكيف قبلت القيد أرسف تحته
بخيلاً بإحساسي سخياً بأدمعي
وكيف أرى حريتي بعد محبس
مقيت الجنى، أبصر به، ثم اسمع
فضل سبيلي، وانتكست كأنني
طريد، رماه دهره وسْط بلقع
وقد حظي شحاتة ببعض الآراء في الدراسات العامة، ومما يدل على عمق فكره وثقافته، اختلاف الآراء حوله، فالدكتور محمد عبد المنعم خفاجي يرى أنه متأثر بأبي العلاء المعري في فلسفته نحو الحياة والناس، وبمذهب القوة الذي دعا إليه نيتشه، وهو يمقت الضعف ويزدريه ويحاربه، وله فلسفة خاصة يضمنها بعض قصائده، وشعره سواء منه ما نظم في ربوع الحجاز أو على ضفاف النيل مستوى الشاعرية متشابه السمات، ولا أشبهه إلا بالشاعر القديم النابغة الذبياني في نسجه وأسلوبه، وبالمتنبي في عمقه وقوته وجزالته.
وإذا انتقلنا إلى نثر حمزة شحاتة فسنجده نثراً متعلقاً بنقد الحياة، في سخرية ليست من طبع شحاتة الجدي، فهو يسقط ما في نفسه على المجتمع بالطريقة التي يرى أنها تشفي بعض غليله، وليس مقلدا في أسلوبه النقدي، وإسقاطاته على الحيوان الذي اختاره نموذجاً لحمل أفكاره - كما ذكرنا من قبل -، فهذا الحيوان الذي اشتهر بالصبر والعناد، كان مثار جدل في التراث العربي، منذ الجاحظ، والدميري، والشدياق، والحكيم، وسيبقى كذلك.
ونجد حمزة شحاتة يدافع عن الحمار؛ فهو - في نظره - مؤدب وصبور ودمث أخلاق وحسن الصوت، ويجد في الحمار فضائل ليست في الإنسان، ليس فيه أنانية الإنسان ولا تكبره ولا ظلمه، ويرى في حماره مزايا انفرد بها - حتى بين الحمير - .
فيقول عنه: (أما حماري فهو بدع بين الحمير، أقسم بالله أنه لو كان إنساناً لكان مكانه بين من تشتغل الدنيا بذكرهم من العظماء والفنانين ظاهراً مرموقاً)، ويعلق الدكتور غازي زين عوض الله على هذا القول :(وقد أراد حمزة شحاتة أن يجعل الحمار مجرد موضوع لنقد الإنسان)، ولم يكن حمزة شحاتة في مقارنته بين الإنسان والحيوان (الحمار) ليظهر فضائل الحمار، وهو الذي يفرق بين الرجولة والفضيلة، لكنه يهدف من وراء ذلك إلى بيان أن الحمار أوفى من كثير من الناس، فهو صاحب فضيلة لا توجد في بعض الناس، وهم الذين كان له معهم أقسى تجربة.
وقد رأى بعض الدارسين أن حمزة شحاتة ليس بالناقد، فهو فنان مطبوع، وليس محترفاً للنقد. ونحن لا نتفق مع هذا الرأي، فحمزة شحاتة يمتلك من الرأي النقدي، والفكر الثاقب ما لم يهيأ لغيره من الشعراء والنقاد، فقد عالج الكثير من القضايا بروح الناقد الحصيف، لكنه مقل في هذا الجانب.
أما وقد عرضنا لشيء من أدب حمزة شحاتة وفلسفته في الحياة، فنود أن نختم القول في هذه الشخصية البارزة في الأدب السعودي والعربي بوجه عام:
إن هذا الموضوع يحتاج إلى دراسة أكاديمية مقننة، لإظهار الجوانب الفنية والعلمية والاجتماعية في أدب علم من أعلام الفكر والأدب. وقد حاولت أن أعطي لمحة مضيئة عن أدبه، من خلال قراءة سريعة، قد لا تفي بالغرض، مما قاساه في حياته، من خيانات وغدر لم يكن مؤهلا لها، فسببت له صدمات هي مصدر إلهامه، ووقود عبقريته الشعرية والنثرية، وهكذا تكون مصادر المبدعين على مرّ التاريخ الأدبي في العالم كله. وفي هذه الفصول المختزلة من أدب شحاتة لمحة عما قاساه، أرجو أن تكون فاتحة علمية في دراسة تفيه حقه؛ فقد أخذ غيره حقاً زاد على قدرته، وهو الأحق بذلك، لكن الأمل معقود على طلبة الدراسات العليا في الجامعات العربية، وأساتذتها من الباحثين، وحسبي أنني حاولت في وقت لم يسعفني التوغل في أدب شحاتة وفكره العميق، فلم يفرد الدارسون له دراسة مستقلة، كما أنهم يعزون عبقريته إلى تقليد الآخرين من السابقين، وقد نختلف معهم في هذا الرأي، وإن اتفق وزن قصائده مع الآخرين، فهذا تناص وليس تقليدا، فمن يدقق في بناء قصائده يجد فيها روح الابتكار، في المفردات والرؤية الفنية، وكذلك في نثره العميق، وفكره المتألق ورؤيته للحياة والناس.. والله الهادي إلى سواء السبيل.
الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
مداخلات
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved