الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 23rd May,2005 العدد : 107

الأثنين 15 ,ربيع الثاني 1426

الثقافة.. فعل تمرُّد
أمل زاهد
يلح وقتنا هذا بما يحفل به من متأججات ومتغيرات وتقلبات بسؤال يأبى إلا أن يفرض نفسه على المشهد الثقافي، وهذا السؤال الملح الذي يدور حولنا طالباً الإجابة يتعاطى مع تعريف المثقف.. من هو؟ وما هو دوره؟ وما الذي يتحتم عليه أن يفعله؟ وهل يجب عليه أن يمد يده إلى أعشاش الدبابير ويحاول كشف الأحجبة وتمزيق الأقنعة؟ وهز القناعات ليبصر الناس بالواقع السيء الذي يعيشونه وهل ستكون حياة الناس أفضل بالمعرفة؟ وهل ستتحسن بالإدراك؟ أم يؤثر السلامة ويتجنب التصادم مع منظومة المألوف؟ وينسحب هارباً إلى داخل نفسه، معتكفاً في كهفه الذاتي ومحيطاً نفسه بقوقعة متينة تحميه من مخاطر الاحتكاك بحراس الفكر التقليدي، وحماته العاكفين على تلميع تماثيله وصقل لوحاته.
يُعرف زكي نجيب محمود المفكر المصري الراحل المثقف بقوله: (هو رجل بضاعته أفكار يريد بها أن يغير وجه الحياة إلى ما هو أفضل). ويذكر امثلة لمثقفين ساهموا في تغيير ملامح الحياة، وتبديل الخرائط الفكرية، محاولين الارتقاء بالحياة إلى الأفضل.. مثقفون آمنوا بأن الفكرة قادرة على أن تحدث تغييراً بعيد المدى وشديد المضاء، كدميقراطس الذي قال: (إنه يفضل أن يظفر بفكرة تتقدم بها الحياة على أن يظفر بملك فارس)، وكالجاحظ الذي أحدث انقلاباً في موازين الثقافة العربية فعبر بها من وجدان الشاعر إلى عقل الناثر، وأبو حيان التوحيدي الذي خطا على خطاه، وإخوان الصفا في القرن العاشر الذين بدلوا وجهة النظر العربية وقربوها إلى العلمية الموسوعية، ومثقفو التنوير في فرنسا إبان القرن الثامن عشر، والجمعية الفابية التي غيرت ملامح التفكير في الحياة الإنجليزية في أوائل القرن العشرين، فأضرمت نيران التغيير وأججت شعلته.
والواقع يقول إن غالبية البشر تولد في مجتمعات معينة لها أنساق ثقافية واجتماعية وحضارية محددة، وهم غالباً ما يتشربون ثقافتهم ويمتصون أفكارها وينطبعون بلونها، ثم يصعب عليهم الخروج من أسار تلك الثقافة، ويفشلون في أن ينظروا لها نظرة الناقد والمتفحص، القادر على غربلة الأفكار لكي يختار منها ما يصلح للبقاء وما ينسجم مع متغيرات العصر ومستجداته. وذلك لأن تلك الأفكار صارت جزءاً من كيانهم وقطعة من تكوينهم الداخلي لا يمكنهم فصل ذاتهم عنه، وتعني عملية الفصل هذه بالنسبة لهم خيانة للأنا وعقوق للذات.. تلك الذات التي تتجه نحو الماضي البعيد تعب من مجده التليد كي يعطيها ويمدها بما يجمل حاضرها الفقير وما يحسن من صورته في نظرها، وهي حيلة نفسية تمارسها الأنا كي تحاول الحفاظ على ما تبقى من ماء الوجه المهدر والغارق في دوامة ابتلاع المنجزات الحضارية الحديثة مع عدم القدرة على خلقها أو حتى المساهمة في بناء لبناتها.
ويعرف الدكتور علي الوردي المثقف بأنه ذلك القادر بامتلاكه سلاح المعرفة على الخروج من القيود الثقافية والاجتماعية والحضارية إلى رحابة التعددية واحتضان الرأي الآخر وتقبله والتعاطي معه. وهو يفرق ما بين المتعلم والمثقف بأن للمثقف دائماً القدرة على كسر أطر التعصب والتحيز والسباحة في مدى لا يحده رأي معين ولا يندرج تحت ثقافة محددة تحبسه داخل جدران حقيقتها المطلقة ويقينها المعلوم الذي لا يخالجه شك أو مراء. بينما لا يستطيع المتعلم الانفلات من قيود التعصب والتحليق في سموات التعددية وتقبل ثقافة الآخر ويبقى أسيراً للتعصب ورهينا لتطرف الرؤيا.
يقول ادوارد سعيد: (إن إحدى مهام المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الآراء المقولبة والمقولات التصغيرية التي تحد كثيراً من الفكر الإنساني والاتصال الفكري)، ولا يكون ذلك بالطبع ممكناً إلا بالتخلي عن التعصب وشخصنة الأفكار، والقيام بالفصل بين الأفكار نفسها وما تنطوي عليه من حقائق وما بين صاحبها وعقيدته أو عرقه أو هويته.
كي يتمكن المثقف من التحرر يتحتم عليه أن يكون متمرداً على السائد، يتحرق شوقاً وقلقاً إلى الحقيقة، لا يركن إلى فكرة ما، ولا يطمئن إلى مصداقيتها الطمأنينة التامة، فينطلق ليضرم فيها النار إذا ما أحس ببوادر شك تتطرق في نفسه أو تضطرب بين جوانحه، وعندها لا يتحرج في أن يتبنى غيرها. فالمثقف الحر يكون دئماً غير منتم لا تعميه الأدلجة ولا تحكمه القولبة، لا يقدس الفكرة ويتجاهل الإنسان الذي وجدت الفكرة لتخدمه وتساهم في صنع عالم أفضل له، وهو يمشي في طريقه غير هياب ولا وجل، يمسك في يده بمعول هدم ولكنه في اليد الأخرى يحمل طوبة بنيان، فهو يهدم ليبني ويكسر القوالب النمطية ليستحدث أخرى جديدة، تقفز به وبمن حوله إلى سماوات التطور وفضاءات النهضة.
والمثقف مأزوم ومهموم بما يشغل الناس لا يتعالى عليهم ولا ينفصل عنهم، ينخرط في معاناتهم وينصهر في مشاكلهم محاولاً أن يجد ويخلق لها الحلول، ولذلك فهو دائماً داخل دائرة الفعل ويرفض الركون إلى برج عاجي يقصيه عما يحدث في الحياة وعما يدور فيها ويصطخب. يحاول دائماً أن يمعن النظر في ما حوله من ظواهر وأن تتوفر في رؤيته تلك القدرة على التحليل والتشريح الذي يشخص المرض ويحدد مكمن الداء، فالشفاء لا يمكن أن يتم إلا باكتشاف المرض والاعتراف به.
تبديل الواقع السيء وتغيير حيثياته يحتاج إلى الاعتراف بشجاعة بالحقائق مهما كان ذلك قاسياً ومؤلماً، وإلى نقد أوضاعنا بكل صراحة وبدون أي محاولة للإخفاء أو التعتيم. ولقد قال الكاتب الروسي انطون تشيكوف يوماً ما: (لقد أردت فحسب أن أقول للناس بصدق وصراحة: انظروا كيف تحيون حياة سيئة مملة. فأهم شيء أن يفهم الناس ذلك، وعندما يفهمون سيشيدون حتماً حياة أخرى أفضل.. حياة مختلفة تماماً لا تشبه هذه الحياة، وحتماً لن أكون شاهداً عليها).


amal_zahid@hotmailcom

الصفحة الرئيسة
أقواس
شعر
فضاءات
نصوص
تشكيل
كتب
ذاكرة
مداخلات
الثالثة
مراجعات
اوراق
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved