قصة قصيرة خفافيش الظلام ياسر أحمد علي
|
جلس على حطام أحد المنازل، وكانت الليلة مقمرة.. غير أنه لم يعكر صفاءها إلا تلك الطلقات الإسرائيلية التي تفرق جموع المقاومة هنا أو هناك، وأصوات الآليات العسكرية تدوس على كل أخضر ويابس.
امتدت أطلال الدور المدمرة بالجرافات تبكي ذكرى من رحلوا عنها ولم يسكنها غير شبح الموت وخيوط العناكب.
اعتلجت نفسه أحاسيس شتى تلاحقت بها أنفاسه.. شعور بالوحدة والوحشة يعتريه.. فمنذ أن مات والداه في ذلك القصف، وهو لا يركن إلى الهدوء.. يغلي صدره كرهاً وألماً وحقداً وثأراً.
تذكر فتاته (زينب) فابتسم في مرارة.. حدث نفسه بأنه لا معنى للحب من خلال هذه الفوضى.. لأن الحب يحتاج إلى استقرار وأمن وحماية.. يحتاج إلى شفافية الحس والمعنى.. إلى روح وجدانية رفيعة، وقلب صاف ينبض بالحياة.
ولكن تلاشت كل تلك القيم والمفاهيم الإنسانية، ولم يبق إلا الفراغ.. إلا الدمار.. أجداث الموتى وقعقعة الأسلحة والمدافع.. وأصوات الآليات الثقيلة التي يئن تحت وطأتها الثرى.. تخريب وانتهاك.. وغربة في وطن نازف يتلاشى.
ولكنه بالرغم من ذلك الفراغ العريض، لم يمنع نفسه من التفكير في أن يصنع لنفسه هدفاً وتاريخاً.. أن ينزع شعوره بهذا الضياع.. أن ترتاح دواخله من الأنين.. أن يصمت هذا الصراخ والعويل في جوفه الثائر.
فكر في المقاومة ومناهضة العدو.. في إزالة الرجس الذي دنّس طهارة المكان.
ولكن أي مقاومة؟ إنه يريد مقاومة خارقة للعادة، مقاومة يزلزل بها أركان الدنيا ويبعثها الفكر الحديث.
هذا هو التاريخ الذي ينبغي عليه أن يكتبه بأصابع من دماء؛ لأن بالتاريخ بطولات، ومهما عفا على مداده الزمن، فإن حروفه ستظل مشعة من نور، هي حروف تتلوها الأجيال ويهتدي بها كل تائه من أرجاء المكان.
تلفّت حوله، حتى أبراج الحمام أمست خالية وهاجرت إلى مدن الزحام.
إن الحرب والسلام نقيضان لا يمكن اجتماعهما في مكان واحد. هل هذا جزء من ثنائية الكون؟ ولكنه في هذا الوطن لا يرى إلا أحادية واحدة لهذه الثنائية، يرى ظلماً وقهراً وخوفاً واختزالاً للزمن الجميل في القبيح.
وعلى بعد أمتار قليلة رأى طفلاً هزيلاً رثّ الثياب، يجوس بين بقايا بيت دارس.. يبحث عن ماذا؟ عن والديه.. أم عن لعبة تحت الحطام.. أم ترى يبحث عن ذكرياته وشجونه.. أم عن فردوسه المفقود بين هياكل
الأعمدة والركام؟! وهزّ رأسه في حزن وأسى وتنفس بعمق.
وبينما يفكر في أبجديات لرسم خطته وأهدافه وصنع تاريخ يمجد بطولاته، أحسّ بشيء يغوص في جنبه.. بألم فظيع جعل الدنيا تدور في عينيه.. وكان ذلك إثر ركلة قوية من جندي إسرائيلي استنكر وجوده في هذا المكان والوقت.. إلا أنه تحامل على نفسه في إعياء ودخل معه في صراع مميت وارتمى فوقه. ولكن شعر بشيء يخترق رأسه.. شيء سمع له صفيراً وأزيزاً.. ثم بيد من حديد تلقي به بعيداً عن الجندي الذي أتى رفيقه لنجدته.
وأخذت المعالم تغيب أمام ناظريه.. وببصر واهن ورؤية ضبابية، رأى السلاح موجهاً نحو صدره.. وانطلقت الرصاصة مستقرة في موطن الحياة، وانتفض جسده بصوت متحشرج بالدماء وسكن إلى الأبد، في وقت كانت هنالك سحابة تنحني ببطء وتحجب ضوء القمر. ومع انطلاقة الرصاصة فرّت يمامة، كانت في خرابة بالقرب منهم فأفزعتهم، وتوالت طلقات عشوائية سقطت على أثرها (اليمامة) مهيضة الجناح. وعلى بعد أمتار كان الطفل يشهد التراجيديا على مسرح الظلام، فارتعدت فرائصه وهمّ بالهرب، ولكن جُبن العدو لم يترك له فرصة النجاة، فصُرع من ظهره مغدوراً وسقط على وجهه منكفئاً دون حراك.
وهكذا اغتيلت البراءة.. وماتت الآمال في العثور على الفردوس المفقود.. مات من يتلو التاريخ قبل أن يدوّن.. وخبأ شعاع الحرف قبل ان يشعّ.. وماتت (اليمامة) حتى قبل أن تهاجر.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|