قراءة في رواية(سفينة وأميرة الظلال) «2» الرحلة..من رغبة (اللذّة)..إلى قيمة (الاكتشاف) سهام القحطاني
|
إن الروائي يدفعنا إلى الاقتناع بالعالم الذي يقدمه والشخصيات التي يصنعها) فورستر
لا تكمن قيمة العمل الأدبي فقط في نوع الرؤية التي يطرحها بل تكمن (وهو أمر هام) في الكيفيات التي من خلالها قدم لنا دوال المحكي الروائي.
قبل أن أتطرق إلى تحليل منهج السرد في هذه الرواية، لابد أن نفهم ما الذي نقصده بالسرد، يقصد بالسرد في البلاغة العربية، هي منهج التراتبية في صياغة الموضوع أي (الاستهلال السرد أو عرض الموضوع البراهين الختام) وفي النقد الغربي يقصد به، الخطاب الذي تقدم من خلاله الأحداث المختلفة المتبرهنة، أما كنيتليانو فيرى أن السرد عليه أن يسير بنفس الترتيب والنظام التي تحدث به الأشياء في حياتنا، أي أن الأحداث في العمل المحكي لابد أن تسير في مجرى تراتبي كما يتعايش الإنسان معها خلال الواقع.
لكن السرد يظل مفهومه العام والأيسر والأقرب إلى ذهنية المتلقي (طريقة قص الحكاية التي يختارها المبدع لتقديمها للمتلقي) متدرجة وفق نظام حكواتي معين ينفذ عبر تقنيات سردية متعددة الأشكال.
يعلم الجميع أن الخطاب الإبداعي عادة يمثل حالة احتمال أو عدة حالات احتمال والسؤال هاهنا، هل بالضرورة أن تتفق هذه الحالة أو تلكم الحالات مع علاقات الواقع المباشر على مستوى التجربة والتلاؤم الداخلي والخارجي لعلاقات اللغة والشخصيات والأحداث وخواصها التي نألف تكرارها وظروف المكان والزمان وما يترتب على ذلك من خصوصية في مجرى الحبكة الفنية؟؟
تتكون رواية سفينة وأميرة الظلال من 154 صفحة قسمت أحداثها على (22) جزءاً كل جزء يتتابع مع الآخر تارة، أو يتناوب معه، وهذا ما يملئ المحكي بالتفاصيل التي تتدافع داخل حركة السرد، التي تشكل مجموع المحكي في الرواية بين شخصيتي (سهل وسفينة).
إن النص الروائي في أساسه، عبارة عن علاقة حوار بين المبدع (المرسل) والقارئ (المستقبل) والروائي، هو من يحكي لنا حكاية، يهدف منها أن يقنع المتلقي عبر الوقائع التي يعرضها بصدق الرؤية، وهو من أجل تفعيل ذلك الإقناع، يعتمد على جلة تقنيات مختلفة وكلما تماسكت تلك التقنيات، خلقت فضاءً مترامياً من الصدق الفني الذي بدوره يصنع العالم المتخيل الخاص للمتلقي الذي ينفصل عن العالم المتخيل الخاص للمبدع، وحسبما أظن كلما كان العمل الأدبي قادراً على تكوين عوالم متخيلة منفصلة عن العالم الأولي لها أو مضافة فوق جداراته، استطاع أن يحقق أكبر قدر من المتعة الفنية.
إن الصدق الفني للعمل الإبداعي ينطلق من دائرة السرد والحوار من خلال العالم المتخيل الذي يتم استدعاؤه من مخيلة المرجع سواء الواقع، الشعبي، الأسطوري، حيث تتم شخصنة، الفكرة وفق المرجع المتخيل، الذي يسعى نهاية الأمر إلى التعبير عن نوازع الإنسان الكوني بجدلياته المختلفة، وهذا ما يفرق بين العمل المحكي الكوني المعتمد على مناقشة قضية الوجود الفلسفي عبر أشكال صراعاته إنه أشبه بالخروج من العالم المادي للالتحام بالعالم الروحي الذي يمنح المرء قيمة اكتشاف الذات، والعمل المحكي المعتمد على تجربة واقعية واضحة تناقش مسوغات تشكيل التجربة الواقعة لا أصولها الأولية لكنهما في نهاية الأمر يلتقيان عند عتبة (التطهير).
لاشك ان تنسيج السرد على فكرة تعتمد على المرجع الموروث الشعبي أو العجائبي، تحتاج إلى الكثير من الجرأة والمغامرة، لأن تكوين الأحداث كمكونات للسرد في هذا النوع من الرواية التي تعتمد على الموروث أو العجائبي تختلف عن الرواية التقليدية، التي تعتمد على حكاية ما، واضحة محددة تعبر عن الواقع تعبيراً رمزياً، لذلك تسعى إلى مناقشة تفاصيل الفكرة الجوانية، كفعل يقابل ردة فعل ناتج عن مسوغات اجتماعية لذا نجد إن الرواية التقليدية هي خطاب مفسر لحالة إنسانية متواجدة ومكونة وفق ظروف سابقة غالبا ما تصرح كخلفية عرض أثناء خلق الشخصيات وإن كانت هذه الخلفية لا تمثل قوة جذب للسرد، إنما توضيح معين لتكوين الشخصيات وهي بذلك تتطلب تراتبية السير السردي الذي يتدرج من البداية إلى النهاية عبر مجرى الأحداث وتوظيفاتها المختلفة من حوار وشخصيات زمان ومكان والذي يتمكن المتلقي من خلالها ان يتابع ذلك السير بهدوء ويتدرج معه، كما تتيح له تخمين افتراضاته وفق ما يستنتجه من أحداث، أما الخطاب المعتمد على المتخيل العجائبي، فيفرق بينه وبين التقليدية، نوع المعالجة، فهو يعتمد على تتابع وحدات سردية تجمع بينها دلالات غير تراتبية في تقسيم الأحداث، وقد تتخذ الشكل البسيط أو المركب في استمرارها، لتتبادل ناتج الأثر فيما بينها، من خلال فضائها السردي، وهذا التشكيل السردي قد يوحي للمتلقي حينا بعدم وجود ترابط مشترك بين الأحداث، أو فوضى الانتقال من حالة إلى حالة، لأن الحكي المتخيل يعتمد في سير سرديته على البناء العرضي لا التدرج الطولي، ونحن لو أدركنا هذا الأمر، لاستطعنا أن نتوصل بعد جهد تركيبي أن هناك ارتباطاً، وتوحدا بين مشتات الأحداث ، من خلال امتداد يصعب التماسه في البدء، نتيجة تفتيت وحدة الحدث الواحد ثم الاعتماد على تقنيات القطع والحذف والتناوب، وهذا ما يجعل ترتيب سلم السير السردي يواجه عقبة (التردد)، لذا فالقارئ يجد نفسه غير قادر على السير وفق خطوط مرسومة بشكل خطي فيدخل لعبة حكواتية تمتلئ بالحيرة والاستفهام أو ما نسميه (التردد) ومأزق الإدراك، الحاصل من خلال تعدد البنيات السردية وتشكلها في قالب نسيج الحكاية، فتخرج الحكاية عن نمطية السرد الخارجي لكن مجرد ان يعيد القارئ ترتيب الأحداث وفق فلسفة المضمون، أي من الداخل إلى الخارج سيدرك حينها الترابطات المنطقية لسير السرد.
(دلالة العنوان): لاشك أن العنوان أي نص أدبي يحمل داخله جل ترميزات رؤية الكاتب التي يريد ان يعبر عنها، إنه تمثيل تجريدي للإيديولوجية التي يؤمن بها أو يرفضها من خلال تفنيدها ومناقشتها، لذا يظل العنوان المفتاح الأول للدخول إلى عوالم النص الأدبي، لأنه الشاحن الكهربائي الذي يزود المتلقي بطاقة التأويل، ويبني أطر خارطة جغرافيته، الذي ستتحرك خلالها عوالم النص وتتفاعل وتتفكك وتصاغ لإنتاج العالم المتخيل الخاص بالمتلقي من خلال حيز متسع من الرؤية العامة لمضمونات العمل الأدبي.
لو تأملنا عنوان الرواية (سفينة وأميرة الظلال) وقارنا بين اسمي روايتي السيدة مها الفيصل (توبة وسلي) و(سفينة وأميرة الظلال) سنلاحظ ان الاسمين للرجل وامرأة (توبة الرجل الباحث عن منافذ التطهير، وسلي، الملهمة لتفعيل التطهير) والأمر كذلك في الرواية الثانية، (سفينة الرجل الذي تعلم من الحب قيمة الذات عندما تترفع عن حب المتعة، لمثالية الروح من خلال الحب كقيمة، وأميرة الظلال، الملهمة للبحث عن حقائق الوجود الروحية)، فهل الروايتان تناقشان حيثيات جدلية علاقة الرجل بالمرأة؟؟ (توبة) الرجل الباحث عن التطهير، و(سلي) المرأة الملهمة لتوبة في رحلة تطهيره، (سفينة) الرجل ما بعد مرحلة التطهير، و(أميرة الظلال) المرأة الملهمة لسهل في رحلة تنويره نحو المثال، (توبة، سفينة) النموذج المادي للفعل الإنساني المكتسب والمتأمل بتغييراته المختلفة، (سلي، أميرة الظلال) المرأة التي تشبه الخيال، تتجاوز مألوفية الشكل والفعل والعقل والاستناج، لتشك كثيرا أنهما حقيقة وقد تتوهم أنهما ضوء عرفاني ينبثق من داخلك ليدلك على الطريق.
الدلالة
أميرة الظلال الخيال،الضمير، الحكمة، الكذب، الاكتشاف
سفينة الفعل الإنساني المكتسب في جميع حالاته وتحولاته
إن العنوانين، يتجاوزان مساحة العلاقة الخاصة بين الذكر والأنثى، بدليل ان الحس العاطفي كعلاقة خاصة تبادلية بين الرجل (سفينة) والمرأة (أميرة الظلال) غير متوافرة هنا، بل إنهما لا يلتقيان أبدا خلال مشاهد الرواية، مع أن اسميهما مرتبطان منذ بدء العنوان، هذه العلاقة الحاضرة ضمنيا والغائبة شكلانية، ورغم أنهما يمثلان منطقتين متباعدتين في البناء الحكائي من خلال تقنيتي الاطمار والتنضيد (القصة التي تتوالد من خلال القصة) إلا إنهما مكملان لبعضهما كدلالة لخلق مفهوم متغاير عن المفهوم المألوف لعلاقات الاحتياج والصراع بين الرجل والمرأة، وتوليد حمولات إنسانية لهذه الجدلية التي تستمد حيثياتها من طبيعة الإنسان الكوني الشامل بصرف النظر عن النوع، وطرح هذا المفهوم الفلسفي العام، (لتخرج عن الواقع كمصدر لقول المبدع، للعودة إلى أبعد مسافة يمكن تتبعها، أو لشيء مكتوب سابقا لتتجلى مرجعية التناص، أو العودة إلى شيفرة مستقبلية) كما يذهب بارت.
في هذا العمل، يشحن العنوان بدلالة رمزية لمستويات أكثر عمقا، تتجاوز ما يفترضه الذهن، من أن الطرفين يمثلان علاقة ثنائية عاطفية، وهذا ما يتفاجأه به القارئ، إذا يحصد الحيرة من ايصال علاقة خطية بين العنوان ومضمون العلاقة المفقودة بين طرفي العنوان داخل النص فالعلاقة الخطية الثنائية العاطفية في النص تمتد بين (سفينة وهوى) لا سفينة وأميرة الظلال، وهذا بدوره يحرك حيرة المتلقي، إذا ما كان العنوان يقصد علاقة خطية مألوفة بين الرجل والمرأة فما المقصود بجمعهما دون علاقة؟؟ وهذا التساؤل يثبت أن العنوان يرمز إلى علاقة (خاصة وأخرى) بين الرجل والمرأة تخرج عن المألوف الثنائي وتخرج عن جدليتي الاحتياج والصراع بينهما، فتقديم اسم الرجل في العنوان (سفينة) على الأنثى (أميرة الظلال) يحمل ترميزا أن العلاقة بينهما في هذا النص تتجاوز الشكلانية لتسمو إلى ما بعد الشكلانية فالشكل لايمثل حقيقة هذه العلاقة بل هناك شيء آخر (هو ما يتحرك النص في ظله المخفي)، فقد ألفنا أن ننظر علاقة الرجل بالمرأة ضمن علاقة ثنائية بصرف النظر عن نوع هويتها لكن تظل تلك العلاقة تدور ضمن ثنائية التفاعل فلا تتجاوز الخطية إلى شبكة البيانات التي تجرد الطرفين من سقفية النشأة الأولى، والمعتقد الأول والعلاقة الأولى لتمثل المرأة دوراً آخر غير ما نسجت داخله ويتجرد الرجل من الدور الأول الذي نسخ داخله ليمثل دورا آخر وهكذا تجد أن العنوان يعمد إلى خروج كلا الطرفين من الدائرة السابقة له لكن الخروج لا يعني تبادل الأدوار أو التساوي بين الأدوار.. يعني شيئا آخر (هو ما يتحرك النص في ظله الخفي)، وهكذا فالعنوان يعيد لنا اكتشاف علاقة مختلفة بين الرجل والمرأة تتسامى وفق منطق حكموي وفلسفي.. توصلك إلى اكتشاف آخر للمرأة خلقا آخر لأنثى العقل والحكمة والمعرفة يغيب عنا، بجوار الصورة المألوفة التي لا تذكر، لكنها لا تعمم، واكتشاف آخر للرجل وفق التجارب التي يتعرض لها.
لقد اعتدنا أن تكون علاقة القلق هي ما تضم مركزي التكوين الإنساني (الذكورة والأنوثة) وهي التي تظل تثير التساؤلات والجدليات والصراعات انطلاقا من طبيعة حالة القلق التي لا تحدث (للإنسان إلا إذا أصبح واعيا بوجوده، وإن هذا الوجود يمكن ان يتحطم، وأنه يفقد نفسه ويصبح لا شيء وكلما كان الإنسان واعيا بوجوده زاد قلقه على هذا الوجود وزادت مقاومته للقوى التي تحاول تحطيمه) كما تذهب نوال السعداوي .
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|