ومن الواضح أن مفردة (القيمة) في القول المأثور وفي الأبيات متعلّق معناها بالجانب الماديّ أكثر من غيره. ففي قولهم (قيمة كل امرئ ما يُحسن) موازنة ماديّة بين أنواع الإنتاج الذي يتمخّض عنه العمل. وفي الأبيات إشارة إلى أن قيمة العلم أغلى من قيمة المال، الذي يطلبه الناس ويتحاسدون فيه. فالمعنى ما ينفكّ يدور في فَلَك المادة. حتى إن صفة (قَيِّم) في لسان العرب إنما تعني: (مستقيم). ففي الحديث: (أتاني مَلَكٌ فقال: أنتَ قُثَمٌ وخُلُقُكَ قَيِّمٌ)، أي مستقيم حسن3. وترد هذه المادة في القرآن الكريم في سياق الآيات التالية: |
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} (التوبة:36). |
{مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ، مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان. إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ، أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف:40). |
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً، فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا، لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ، ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (الروم:30). |
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ، يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} (الروم:43). |
{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، دِيْناً قِيَماً، مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} (الأنعام:161). |
وقد فُسّرت صفة (القَيمِّ) هاهنا على أنها: المستقيم الذي لا زيغ فيه ولا ميل عن الحق4. أمّا قوله تعالى: {فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} (البينة: 3)، فقال (الزجّاج): (أي مستقيمة، تُبيّن الحقّ من الباطل على استواء وبرهان. ) 5 |
أم تُرى أنّ الزعم بثبات القِيَم الذي قالت به (الموسوعة)6 قد استدعي كذلك الزعم بقيام مصطلحها هذا من القِدَم؟! |
إن مفهوم القِيَم حسب ما تطرحه مقدمة (موسوعة القيم) قد ظلّ يدور في فَلَك الدائرة الخُلُقية، وثنائية الخير والشرّ. وظلّت تقتبس كقول (كوتون C |
otton, W) 7 : ما دام الناس يضعون الأشياء والأفكار والأفعال طبقاً لمقاييس المرغوب والمسموح، ويتركون أفعالاً أخرى في مقابلها، طبقاً للمرفوض والمستهجن، فإن النتيجة هي أنهم يستجيبون لنسق قيميّ.) وهذا صحيح بالمعنى القيمي الضيّق، الأخلاقيّ، غير أن مفهوم القِيَم كما تقدّم أوسع من ذلك، وحوافزه أكثر تشعّباً من مجرد معيارية الرغبة والسماح أو الرفض والاستهجان. |
ولئن كان مفهوم القيمة يختلف من حقل معرفيّ إلى آخر، فإنه في السياق الثقافي العام يمتح من معادن مختلفة، منها الديني، والفلسفي، والنفسي، والاجتماعي، والاقتصادي؛ لأن دوافع القيمة الثقافية الواحدة قد تتشكّل من أكثر من واحد من تلك المعادن. |
فالميسر، مثلاً على ما قد يحمل قبل الإسلام من قيمة طقسية دينية كان |
يحمل قيمة اجتماعية، جعلتْ الشعراء يفاخرون به، حتى عادلت صفتا (ياسر) و(أيسار) لديهم صفتي (كريم) و(كرماء)، وذلك أيضاً لضرورات اقتصادية، تتجاوز الأسباب الأخلاقية المحض 8. حتى جاء الإسلام فأوجد البديل الاقتصادي عن الميسر. وكذلك قيمة الكرم العربي، وما كانت تؤديه من وظيفة اجتماعية تبادلية مسكوت عنها تَرِد على حواشيها قِيَمٌ معلنة، كالجود، والإيثار، والأريحية، ونحوها. |
وهذا البُعْد الوظيفي هو ما تتجه إليه المقاربات السيوسيولجية الحديثة في القِيَم، دون فلسفة القِيَم المعيارية، حسبما استقرّ التصوّر في الرؤية التقليدية، وبقي مهيمناً على معظم الأفكار في (موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق)، وإن كانت قد خلصت إلى تعريف اجتهادي للقيمة يذهب إلى أنها: (تعني الصفات والفضائل المرغوبة اجتماعيًّا في فترة معينة، والمؤثرة في سلوك البشر وأفعالهم. 9 غير أنه تعريف يتركّز كما هو واضح حول القيمة بوجهها المعياري الأخلاقي، وفي إطارها الإيجابي دون السلبي. |
ومع هذا فإن (الموسوعة) عند التطبيق وفي دائرتها الأخلاقية عينها لم تفِ بكلمات تعريفها الآنف، ولا سيما ما يتعلّق بالعامل الزمني، أو الوظيفة الاجتماعية الحقيقية للقيمة. |
(ولتفصيل ذلك ما يلحق من حديث). |
إحالات: |
1 على الرغم من الصعوبة التي يبديها الدارسون في تقديم تعريف شموليّ للقيم، فهذا التعريف محاولةٌ لتطويرٍ مفاهيميّ صياغيّ لما يُطرح من تعريفات للقيمة. وانظر مثلاً: كلاّب، إلهام، (1994)، (نسق القِيَم في لبنان)، مجلة المستقبل العربي، (مركز دراسات الوحدة العربية)، ع 183، ص91، نقلاً عن: بركات، حليم، (1984)، المجتمع العربي المعاصر: بحث استطلاعي اجتماعي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية)؛ الزلباني، محمد محمد، (1972 1973)، القيم الاجتماعية: مدخلاً للدراسات الأنثروبولوجية والاجتماعية، الكتاب الأول: الخلفية النظرية للقِيَم، (القاهرة: مطبعة الاستقلال الكبرى)، 19 |
2 موسوعة القِيَم، 1: 48، محيلة إلى: الماوردي، (1955)، أدب الدنيا والدين، تح. مصطفى السقّا (القاهرة: ؟)، 53. |
3 انظر: ابن منظور، لسان العرب، (قوم). |
4 انظر: م.ن.. |
5 م.ن.. |
6 انظر: 1: 19 |
7 انظر: موسوعة القِيَم، 1: 71، محيلة إلى: Cotton, W., (A Theory of Values), A. S.R. , Vol. , 2 June 1959 No. 3. |
8 انظر في هذا: ابن قتيبة، (1342هـ)، الميسر والقداح، عناية: محب الدين الخطيب، (القاهرة: المطبعة السلفية)؛ الفَيْفي، شعر ابن مقبل، 137 151 |
9 موسوعة القِيَم، 1: 72 |
|
aalfaify@yahoo. com |