قصة الأفلاج نورة بنت سعد الأحمري
|
كنت أرى انوار قريتي تبتعد شيئا فشيئا.. تصغر.. يختفي بريقها.. تتوارى خلف جبال شامخة.. يبتلعها الغياب.. ظلت تصاحبني جبالها السمراء التي كانت تصيبني بالخوف كلما نظرت اليها، ووديانها غير المعبدة التي تثير الاهتزاز كلما مررت فوقها.. وخضرتها ومساحتها الشاسعة في دفائن ذاكرتي رغم تزاحمها بالكثير، وتشابك الصور لحظة الوداع.. كنت احاول ان تكون الصورة واضحة المعالم.. فاركز الخيال للقادم، واشعر بنسائم الجنوب تحيط بي مع انطلاقة المركبة في رحلة الاياب، لاهثة تطوي المسافات من الجنوب الى الشرق.. كان هدير محركها القوي يئن تحت وطأة عناء المسافة البعيدة.. كان يصلني بين الفينة والاخرى كمن يشتكي هول مراحل الطريق التي لا تكاد تنقضي منه مرحلة، الا وتبرز اخرى.. وكأنه سرمدي، لا تلبث تلك الشكوى ان تتضاءل باختلاط الاصوات من حولي، وهي الاخرى لا تلبث أن تغيب ليحل محلها هدير المحرك الصاخب.. كانت السهول والتلال والوديان تخترقها السيارة بصبر وجلد، كسفينة صغيرة تعلو بها موجة لتخفضها اخرى، وتتبدد تلك المشاهد حولي لتعود وكأنها تولد من جديد، اثناء ذلك بدأ الليل يزحف.. يلقي بأعماق ظلمته هنا وهناك.. لم يكن يقطع ذلك السكون في تلك الصحارى المقفرة المترامية، الا صوت هدير محرك المركبة في كل مرة يطرق سمعي، كأنه يعلن انه سيرفع للسماء احتجاجه بما ينوء به كاهل تلك المركبة من افراد ومتاع وطريق لا يكاد ينتهي.. اعود الى من حولي مبتعدة عن خيالي الخصب في حديثي مع السيارة والصحارى الممتدة من تثليث الى الرياض.. وقد هالني منظر الرمال المصفوفة بعناية إلهية، وسط تلك المساحات التي تغيب الشمس عنها ليغوص في عظمة الخالق.. انفلتت من شفتي ابتسامة لتلك الافكار الخصبة التي احاول مواراتها.. حتى لا اسأل عن سر ذلك التبسم الغامض.. الافلاج تحملها لي الذاكرة بشكل مختلف في تلك الرحلة الشاقة الطويلة ولا يكاد يطرق سمعي ذلك الاسم الا وينقلني لحادثة.. المبنى التعليمي فيها، الافلاج محطة استراحة والدتي التي ضايقها المكوث على هذا النحو الطويل فانطلقت آهة التذمر والضيق وانفلات صبرها الذي غالبته كثيرا.. قائلة:
يا جماعة لم اعد اطيق الصبر.. ساقاي اوشكتا على التجمد!!
وكانت بندائها هذا تطلق رغبة الجميع من عقالها، فالكل كان بحاجة الى مثل تلك الاستراحة الا ان اسباب عدم التصريح بذلك محرجة كالعادة.. البعض يخشى التأنيب، والآخر يخشى الرفض، والاخير بين هذا وذاك، تتجاذبهم نوازع شتى.. واخيرا تم لها ذلك.. كان الهزيع الاول من الليل قد انقضى والقى بعباءته السوداء على الضياء الذي توارى في كنفها عندما انحرف والدي بالسيارة ليتوقف قرب هذا المبنى معلناً عن وقت الاستراحة.. بعفوية اخرج ما طالته يده من صندوق الامتعة فكان لحافا، اخرجه ليفرشه بجوار المركبة، وبسرعة اجتمع افراد العائلة عليه كل يتحسس طرفا فيه ليستقطع له موضعا.. لم تكن سوى لحظات حتى غط الجميع في سبات عميق تحت وطأة الاجهاد والتعب.. لم يتبق في تلك الظلمة سواي واختي فقد زاد الليل والعتمة في اتساع احداقنا.. كأننا نريد ان نخترق كنف الظلام من حولنا او نفتش عن شي مفقود في وسط قطع الليل المظلمة.. كانت عيناي تقع على تلك اللوحة العريضة التي تحمل عبارة لاسم المبنى حيث كان ملاذنا القريب منها.. اني اذكر جيدا تلك اللحظات التي لم اكن فيها بحالة استلاب او فقدان للوعي.. فالقطط التي مرت بنا في ذلك الوضع كانت تخرج ألسنتها من افواهها بشكل غير عادي يبعث على الرعب والهلع.. نعم.. ليس خيالا بل كانت تفعل ذلك حقيقة.. كذلك كانت تفعل شقيقتي بعفويتها الصادقة بالرد عليها.. لقد كان منظر القطط مريباً جدا وكثرتها في مكان مهجور يبعث على القلق حقا.. لست اعلم حتى هذه اللحظة هل كانت براءتها وصفاء النوايا في ذواتنا وعفويتنا التي لا تدرك الكثير من اسرار هذا الكون، ام كانت رعاية الله تحيط بنا فتدرأ عنا وتبدد ما حولنا من الشرور؟؟ لست ادري.. الا ان الله هو الحافظ بكل حال.. لم يكد يمضي وقت طويل عندما كتمت رعشة انتابت جسدي.. لتسري الى عروقي ويتناهى الى مسمعي صوت قرع طبول وموسيقى تأتي من بين طيات الظلام لتصك سمعي مرات ومرات، اكذب ذاتي واعللها بأنه وهم قد دب في حواسي المرهقة في ذلك الوقت المتأخر من الليل، في اماكن منفردة موحشة منقطعة عن العمران، وطريق المارة، فبذلك لا تطرقها قدم انسان او حيوان.. حدثت ذاتي بهذا الحديث ليهدأ عنها ذلك الشعور الرهيب لسماع تلك الترانيم والاهازيج التي يحملها سكون الليل، وهنا قطع افكاري صوت والدي وهو يقول بصوت واجف سرى في جسدي كقشعريرة صقيع ليالي الشتاء:
اتسمعون ما اسمع؟؟؟
يا الهي اذن لم اكن وحدي من يسمع.. وما سمعته حقيقة؟؟ وهنا زاد الهلع عندما توحد الاعتراف الجماعي بالسماع وماهو من نسج الخيال او ايحاء من صمت الليل الرهيب.. عندها فقط تأكد الجميع ان هذا الموضع في الخلاء يشاطرنا فيه قوم آخرون.. لا نعرفهم بل ولا نريد ان نعرفهم.. اذن انه.. مكان مسكون.. وما ان تأكدت تلك الحقيقة التي ارتعدت لها فرائص الجميع من الرعب!!، وطارت الاوهام والخيالات.. وادركوا واقعهم، انهم في ضيافة الجن وكادوا ان يكونوا ضحية لموضع في خلاء الافلاج، بجوار مبنى مهجور، والدي عندما استدرك الحقيقة الفاجعة استحثنا قائلا:
انه لن يعوقني شيء منذ اللحظة.. الى ان اتوقف عند منزلي..!!؟
انطلق بالمركبة بعد ان تأكد من سلامتنا، لا يلوي على شيء سوى الهرب.. وحملنا مع هروبه بعيدا عن تلك البقعة التي آوتنا بضع لحظات من عمر الزمن.. اثناء تلك الانطلاقة المباغتة حانت مني التفاتة الى المبنى بلوحته العريضة، التي اخذت تتلاشى رويدا رويدا مع نهب المركبة للطريق، مرة اخرى وسط تلك الصحارى المخيفة.. حينها حان مني استفهام كبير.. كيف كان يعيش انسان العصر القديم وسط هذا الخوف والرهبة وهو يقطع مئات الكيلو مترات للسفر والتجارة والحج.. يا إلهي كم هي موحشة تلك القفار والصحارى المترامية الاطراف!!!
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|