علي أحمد باكثير رائد التحديث للقصيدة الجديدة (21) د. عبدالعزيز المقالح
|
ربما كان الوحيد المعترف له اجماعاً بريادة التجديد الشعري من رواد التجديد أنفسهم وفي طليعتهم بدر شاكر السياب ونازك الملائكة، وإن كان هذا الاعتراف قد ظل منسيا وبعيدا عن متناول قراء الشعر العربي الحديث. يقول السياب في حديث نشرته مجلة الآداب بعد إشارته إلى الاختلاف الذي كان دائرا حول أولية المتقدم في كتابة قصيدة التفعيلة: «وإذا تحرينا الواقع وجدنا ان الأستاذ علي أحمد باكثير هو أول من كتب على طريقة الشعر الحر في ترجمته لرواية شكسبير روميو وجوليت»(1)
ولا أجد حتى الآن تفسيراً واحداً لمحاولة عدد من النقاد ودارسي التحول الكبير في القصيدة العربية تجنب الإشارة إلى هذا الاعتراف وإلى الدور الرائد لباكثير في تأسيس هذا النمط الشعري القائم على التفعيلة بدلاً عن البيت. وقد كان هذا التجاهل واحدا من أشكال الظلم الذي لحق بهذا المبدع العربي وجعل حياته سلسلة من الآلام انتهت بوفاته وهو في ذروة قدراته على العطاء. «توفي عن ستين عاما 1901 1969».
شهادة يحيى حقي
كان شيخ القصة العربية القصيرة يحيى حقي يقول بعد رحيل علي أحمد باكثير ان حياة هذا المبدع العربي لا تقل أهمية عن إبداعه فقد كانت ملحمة طويلة خاض غمارها بقلب صبور ونفس راضية وعزيمة لا تعرف اليأس، وتلك حقيقة قلما توقف عندها النقاد، فقد ولد باكثير في إندونيسيا وعاش شبابه الأول، كما تلقى بدايات تعليمه في اليمن، ومارس كتاباته الشعرية في السعودية، وفي مصر درس الأدب الإنجليزي في جامعة القاهرة، وعمل مدرساً للغة الإنجليزية في مدارس المنصورة وانتقل للعمل في المجلس الأعلى للثقافة والفنون في القاهرة بعد ان ذاع صيته وأصبح كاتبا مشهورا وبعد وساطة من صديقه الأستاذ عباس العقاد، ولم تكن حياته سوى سلسلة في حلقات مضنية لم يتمكن من تجاوزها حتى ساعاته الأخيرة.
وقبل ان نقترب في هذه القراءة العجلى والملاحظات العابرة عن شعر باكثير وملامح ريادته في تحديث القصيدة العربية تجدر الإشارة إلى انه كان واضحاً مع بداية القرن الماضي «العشرين» ان العالم يستعد لانتقالة كبرى لا تقتصر على مجالي الصناعة والاقتصاد بل تتناول الآداب والفنون، وكانت الهوة تتزايد بين ما ورثناه من أشكال أدبية وما تقتضي الحياة الجديدة ان يطرأ عليها من تحديث حتى لا يضعها التطور الجارف موضع التصفية، وكان على محبيها ان يسارعوا إلى تطورها من داخلها وان يحتفظوا بعناصرها الأساسية، وكان الشعر هو أضخم وأهم موروث أدبي عرفه العرب في تاريخهم الطويل، وكان القلق قد بدأ يعتري كبار الشعراء تجاه عجز بحور الشعر في قوالبها القديمة عن استيعاب المتغيرات في الأشكال الفنية الجديدة كالمسرح وما تفرع عنه من أساليب حوارية. وهذا ما يوجزه باكثير في الصفحات الأولى من كتابه «فن المسرح من خلال تجاربي الشخصية» حين يقول: «كانت ثقافتي عربية خالصة وظلت كذلك حتى حضرت إلى مصر فعزمت أن أدرس الأدب الإنجليزي لما بلغني انه غني بالشعر الرفيع فقد كانت غايتي إذ ذاك ان أصقل موهبة الشعر عندي وأعد نفسي لأكون شاعراً كبيراً وعسى ان تفتح لي الدراسة آفاقاً جديدة في الشعر فالتحقت بقسم اللغة الإنجليزي في كلية الآداب بجامعة القاهرة، وما ان سلخت عاما فيها حتى وجدتني في بلبلة نفسية من حيث نظرتي إلى الشعر الذي كنت أنظمه وأنشره في الصحف فقد غيرت هذه الدراسة من نظرتي لمفهوم الأدب كله.. وقد نتج عن هذه الأزمة النفسية التي عايشتها من جراء تغير مقاييسي الأدبية ان انقطعت برهة عن نظم الشعر نمت في خلالها تجربة جديدة بالنسبة لي ثم تبين انها جديدة ايضا بالنسبة إلى مستقبل الشعر العربي الحديث وأعني بها محاولة ايجاد الشعر المرسل في اللغة العربية»(2)
ريادة باكثير
والتجربة التي يشير إليها باكثير في هذه السطور هي اكتشافه إمكانية الخروج على بنية القصيدة التقليدية بكل أنواع التجاوزات التي شهدتها من موشحات ومربعات ومسمطات ومبيتات فكلها تقوم على التشطير مع تجاوزات محدودة في تنوع البحر والقوافي، أما هذا الاكتشاف فيقوم على استخدام التفعيلة وإرساء نظام جديد للقصيدة على أساس سطري قد يتكون السطر فيه من كلمة أو كلمتين أو ثلاث أو أربع أو أكثر وهو ما شاع بعد ذلك وذاع على أيدي شعراء القصيدة الجديدة، وقد كان يرى ان «المرسل» هي التسمية المناسبة لهذا النوع من الشعر المتحلل من الشطرية والقافية وانه الأسلوب الأمثل لمن يريد ان يكتب المسرح الشعري، شارحا وجهة نظره في السطور التالية «وخلاصة ما سبق اننا إذا اردنا ان نوجد المسرحية الشعرية عندنا فإن أصلح؟ لذلك هو الشعر المرسل على الوضع الذي وصفناه من قبل وهو المستند على التفعيلة لا البيت كوحدة نغمية تتلاحق التفعيلات في الجملة المسرحية الواحدة متصلة مترابطة دون نظر إلى الحيز الذي تشغله، فقد تشغل ما كان يشغله بيت واحد أو أكثر أو أقل، شأنها في ذلك شأن الجملة النثرية. ولتوضيح ذلك سأورد لكم نماذج من مسرحيتي اخناتون ونفرتيتي: هذا اخناتون وهو محزون لوفاة زوجته الأولى «تادوا» يقص على والدته بعض ذكرياته معها:
فطفقت أقبلها قبلات الشهر الذي
غابته بايامه ولياليه في
ثغرها المعسول اللذيد وفي وجنتيها الورديتين
وفي شعرها الذهبي الجميل. وكانت
عليَّ وكنت أغالطها في الحساب»(3)
ويمضي باكثير في توضيح ما ذهب إليه بعد ان يورد عدداً من النماذج من شعره المسرحي المرسل إلى القول «في هذه النماذج ترون الجمل المسرحية في معظمها طويلة منسرحة يمكن ان يلقيها الممثل في نفس واحد لو استطاع وقد تبصرون فيها القافية أحياناً ولكنها لا تجري الصورة ولا تتلاحق في رتابة وجمود بل تظهر هنا وهناك في ومضات كالبرق الخاطف فتتضاعف موسيقية الجملة المنطلقة دون ان تحبسها أو تحد من انطلاقها وانسيابها حتى منتهاها»(4)
ويبدو اننا وصلنا إلى حيث ينبغي ان نتساءل عن شعر هذا الرائد أين هو؟ وأين دواوينه؟ وكيف انهارت العلاقة المتفاعلة بينه وبين هذا الفن الذي أحبه وتمنى ان يكون من كبار مبدعيه؟
كانت الجامعة المصرية وقسم اللغة الإنجليزية منها بخاصة قد جعلته يرتوي من ثقافات العصر ويعكف على القراءة الجادة من الأدب العربي والعالمي ويرتاد عوالم لم يكن يعرف عنها شيئاً وهو يتجول في الجزيرة العربية من جنوبها إلى شمالها، وكان كما سبقت إشارته قد أدرك ان الشعر ليس ما كان يمارس كتابته، ولا هو القصائد الموزونة أو الشكل المحفوظ في قوالب جامدة تنقلها الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة دون تغيير، لقد تحول الشعر بالنسبة له من مشروع كتابة إلى مشروع تساؤل وصار يعيد النظر في ماهية وظائفه ومكوناته واستغرقه التساؤل وأخذ منه زمنا طويلا. سواء قبل ان يهتدي إلى الشكل الجديد في كتابة القصيدة أو بعد ان اهتدى إلى ذلك الشكل وهو مستغرق به يطرحه على نفسه أولاً، ويطرحه على أصدقائه المقربين ثانياً، ثم يطرحه ثالثاً على القراء الذين رأى انهم بحاجة إلى مستوى من الشعر يختلف عن السائد الذي كان يكتبه كبار شعراء العربية في ذلك الزمان، وكان حافظ وشوقي ما يزالان ملء سمع الدنيا وبصرها عندما نزل باكثير إلى مصر كما كانت مصر قد شهدت بعد رحيلهما شعراء كباراً آخرين، وعرف لبنان وسوريا في نفس المرحلة عدداً من الشعراء المشاهير، لكن الشعر المطلوب الذي يحمل سمة العصر وايقاعه الشعر الذي يحلم بالدخول إلى عصور جديدة لم يكن قد ظهر إلى الساحة، وبعد ان ظهر هذا الشعر كان باكثير قد تفرغ للرواية والمسرح وعندما تنبه أخيراً ووجد الساحة قد امتلأت بأصوات شعراء يتوافقون مع رؤيته الريادية ويسعون إلى كتابة قصيدة تستمد عناصرها وبنيتها الثقافية من عصرها دون ان تتخلى عن جذورها اللغوية والبلاغية وفي أغلب الأحيان عن أوزانها أقول عندما تنبه أخيراً إلى ذلك كان الشعراء المجددون قد قطعوا شوطاً بعيداً وارتكب بعضهم قدراً من الشطط وبدأوا معه يكتبون القصيدة الجديدة بدوافع مغايرة لما كان يتصوره أو يتمناه، لذلك لم يتردد عن إعلان اسفه واستيائه لكنه ظل مؤمنا بالتجربة مدافعا عنها وكان آخر شعر كتبه قبل الوفاة ملتزماً نظام التفعيلة، وفي مقابلة له مع إذاعة الكويت اجراها الدكتور نجم عبدالكريم قبل وفاة باكثير بعام ونصف العام يقول موضحا الفارق بين تجربته في تجديد القصيدة وتجربة الأستاذ محمد فريد أبو حديد: «الأستاذ محمد فريد أبو حديد كان من أوائل الناس الذين جربوا هذا النوع من الشعر، ولكن تجربته تختلف عن التجربة التي قمت بها بعده بكثير، التجربة التي قام بها هي انه أرسل الشعر من القافية ولكنه التزم حدود الشعر القديم، كل ما هناك انه أرسل الشعر من القافية، أما الذي قمت به فهو التجربة الأم لهذا الشعر المرسل والشعر الحر الذي انتشر فيما بعد في العالم العربي واحتذاه الأستاذ بدر شاكر السياب ونازك الملائكة»(5)
هوامش:
1 مجلة الآداب: بيروت: عدد يونيو ص96 عام 1954م.
2 فن المسرحية:
3 المصدر نفسه: ص..
4 نفسه: ص ..
5 د. محمد أبوبكر حميد، علي احمد باكثير من أحلام حضرموت إلى هموم القاهرة: ص164.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|