استراحة داخل صومعة الفكر معاناة محمد الشقحاء سعد البواردي
|
المعاناة لدى الشاعر أشبه بعملية المخاض والولادة لدى المرأة.. عملية إيجاد يدفع الموجود الحياتي إلى احتضانه وتبنيه والقذف به في معمعة الحياة ككائن حي.. بدايته صرخة، ونهايته حصاد تجربة. ومعاناة..
أخي الشاعر محمد الشقحا أعطى لديوانه عنواناً لمعاناته.. ربما للمرة الأولى تأتي المعاناة أكثر ألماً وأكبر وجعاً وأقل تجربة وربما تأتي بصرخة عالية محملة بهموم مستقبل مجهول هو في حد ذاته صراع كوني بين الحياة والموت.. الأمل والألم.. الرغبة والرهبة..
ماذا قدم لنا شاعرنا عن معاناته؟ وإلى أي مدى أمكن له رسم صوره الشعرية وتحديد اطاراتها وأطرها دون خلل بين المضمون والشكل.. بين الكلمة والمعنى.. بين الإيقاع والإشباع.. والإبداع وهواهم مرتكزات العطاء الفكري..
«المظروف الأزرق» أول شيء أطل على حياته.. واستقبلته صفحات معاناته.. مطرزاً بألوان منثورة تحمل مضامين الشعر إلا أنها تفتقر إلى خصائصه ومقوماته وأطره الشكلية المعترف بها التي تمايز بين حدود الشعر.. وحدود النثر:
«تسألين ماذا غيرني
وأي أمر جلل سحق كبريائي
تحاولين اغتراف اعترافي
وشق ما تبقى من كرامتي
في مظروف أزرق
يفوح عطراً
يرقص جذلاً»
لماذا الغضب؟ إنها لم تجرجر خطواتك إلى القسم.. ولا إلى السجن.. ولم تشهر إفلاسك في الحب على صفحة صحيفة.. كانت لطيفة معك إلى حد أن اختارت لك مظروفاً سماوي اللون.. أو بحري الشكل ينضح بالعطر.. ويتراقص كالطيف الجميل الذي يحلم بالحب!
لا أرى مبرراً لتغيرك.. أو لغيرتك.. ولا حتى لطرح أسئلة لا تستحق اجابات لأنها مفتعلة ومنفعلة سابقة لأوانها..
أعد نظراً يا عبد قيس لعلما
اضاءت لك النار الحمار المقيدا
ومن مظروفه الأزرق الذي تكاثره على نفسه.. راح يرقب بعينين مملوءتين بالحيرة، أو الحسرة معالم وعالم ما حوله «قبل أن يخلو الطريق».. ويطبق الصمت بجناحه الثقيل فما تُسمع همسة.. ولا تُرى لمسة:
«ولا شيء ، معي يا أملي سوى أوراق
احترق..
احترق في ذكريات ماضيك البعيد
أهرق الدمع
املأ صمت الليل عويلا
امزق أوراق الورد.. وعهدكِ السعيد
استشف من الألم رؤية جديدة
قد تفيد»..
جمل متراكمة مشحونة بكتلة من الرفض.. والتباين الغريب بين اطروحات عقله وطموحات قلبه.. يرفض الوَرد، ويصطفي دون سبب غصناً عارياً لوعه الخريف.. ولوحت به أعاصير الشتاء.. يا للشقاء!
يبدو أن صدمات حب كثيرة ستواجهنا على غير رغبة.. كان الحلم الربيعي يراودنا كرفيق سفر.. إلا أن شاعرنا آثر أن تستمر صرخة ولادته الشعرية لعل.. وعسى.. أن يلقى حضناً يحتضنه وعلى مقاسه، ووفق مزاج هواه.. وإلا فإن «المطاف الأخير» ينتظر:
«تشتت فكري
حل في أعماقي اليأس
نزعت الأيام من ساحتي غرسة الأمل
وشنقت الطموح على جدران صمتي
سيدتي»
ماذا أبقيت لسيدتك كي تقنعها بأنك تسير على درب الحب.. لقد كسرت المجاديف.. ونزعت من دواخلك غرسة الأمل.. وشنقت الطموح مختاراً.. أحرى بك أن تلوذ بصمت دون صمت من لم ير للحياة نوراً.. يا شاعرنا المرهف لمَ هذه السوداوية؟ والبكائية المفرطة في تشاؤمها..؟ المظروف الأزرق المعطر برائحة الحب هان عليك رفضه..استسلمت ليأسك.. إلى أين ستأخذنا معك مسيرتك الشتوية برياحها وجراحها؟ هل هناك أمل في أن يجدد قلبك الرافض للحب خلاياه من جديد.. ويستعيد توازنه؟!
«وآخذ في التحدث من جديد
آخذ في سرد ما كان، وما أملت أن يكون!
وغرقت حتى هامتي فيما كنت أظن أني به سعيد
لم أكن أدري أنني معتوه
لم أكن أدري أني بهذا أغلف نفسي بسياج من التيه، يستدر الشفقة»
من فمك يا شاعرنا أدنت نفسك.. استشعرت غيبوبة.. وغياباً.. وفشلاً كان يأخذك إلى الأسوأ.. فهل أن هذا الاعتراف بداية صحوة لقلبك؟ وبداية تصحيح لمسار كلماتك النثرية كي تحولها إلى شعر يهز مشاعرنا ويستوطنها؟
يبدو أنه تجاهل الأسئلة هذه المرة دون رد لانشغاله مع «أبي زيد الهلالي»..
«لحظات تكبر.. وأنا أقف في مفترق الطريق
أبحث عن الأنوار القادمة عن رفيق
يأخذني.. ينتشلني..
فأنا منذ غادرني لم أفيق!»
حسناً تراجع شاعرنا إلى صوابه وأمسك بعصا الواقعية من وسطها مما يمنحه حرية الحركة إلى ما هو أقرب إلى شغاف قلبه.. وحبه.. وحسناً لو أنه صحح مفردة «أفيق» إلى «أفِق» لأنها مجزومة بحرف لم.. رسالته لم تنته:
«إلا زيد الهلالي.. أتذكر صخرتنا؟
أتذكر خيمتنا، والجميلات حولها؟
يرعين الغنم.. يشددن انتباهنا؟»
عودة موغلة في القدم.. والتاريخ اختارها في تساؤلاته.. يستذكرها.. ويسترجعها.. وربما يتعشقها، فالقديم الجميل لا أحد يرفض مواقعه.. وواقعه.. وذكريات صباباته، إلا أن أبا زيد الهلالي كان في عجلة من أمره.. بل في غير رغبة للإجابة.. لأنه رفات.. والرفات لا يخاطب الحياة.. بل تركها للشاعر في خطاب خطب!
«السفر.. السفر.. السفر
الذهاب، الذهاب، الذهاب.
واركض نحو المحطة
واسجل اغراضي حالاً
وفي الساعة العاشرة
بعد ثمان واربعين ساعة من لقائنا الفريد
غادرت المنطقة.. امضيت الليلة في القطار»
إلى آخر هذا الكلام المكرر، والممل الذي استكثر على شاعرنا رصده كشعر أو نثر لأنه خارج دائرة الزمن الفكرية:
«مرحى يا رفيق الصمت» و «يقال الربيع القادم» محطتان تجاوزناهما لنحط براحلتنا عند بوابة أبيات قصيدته «أنت مثلي بوح قلق»
«آزاد.. صحفنا لا تحمل جديداً..
وأعماقي تنفجر قيماً.. وصديدا
آزاد..
لا أدري ماذا أريد
أسأم.. يشل فكري»
ما دام هو نفسه يجهل ماذا يريد.. فلمن وعلى من طرح السؤال؟! أهي غيبوبة يستضيفها بين الحين والحين؟ أم شرود يلا زمه مرده حيرة لم تجد لها مدخلاً إلى اليقين.. ووضوح الرؤية.. هكذا البعض من الشعراء غيبيون أو غيبيبيون أسرارهم مغلقة.. وأوتارهم صامتة.. وأدبياتهم تفتقر إلى أديب متمكن يكتشف غموض زواياها.
تدع «العيون السوداء» إلى ما بعدها بعد أن قتلها الشعراء توظيفاً وتوصيفاً ونقف في مواجهة «مشرد صغير» استرعى انتباه شاعرنا.. وآثر أن يخاطبه.. أن يتحدث عنه:
«تعوي الريح
أمورك يا فتى في البعيد تستريح
تقدم الزاد لعمال التراجيل
تسرق البيض من تحت الدجاج
تبحث عن الشبابيك المعلقة في ضوء القمر ..تعبر»
يبدو أنه يتحدث بلسان قارئة فنجان.. أو كاشفة بخت.. أو عراف.. إن لم يكن كذلك جاء خطابه موحياً بذلك..
المقطوعة تجسد صورة صادقة من المعاناة أعمل فيها الشاعر ريشته.. وخياله فأشبع وأبدع..
«العالم الصغير» مقطوعة نثرية انتزع منها هذين البيتين:
«مد يده مسلماً..
أخذ يغمرني بحديث الذكريات»
يسترسل فيما يشبه الحدوتة عبر حديث عادي لا ترابط بين حلقاته خلاصة الفشل في العثور على خبر جديد يقرأه في جريدته التي بين يديه.. لتنتهي الحدوتة..
نستحث الخطوات مع شاعرنا الجيد الشقحاء.. «تمثال شمعة.. منتصب على قدميه في صمت» و«الطريق هجرته الأقدام» و«صوتها ارتعش كالغصون في ليل احلامه» ثم «ثورة الغضب» وقد حطمت المزهرية، ثم وقفت، وتساؤله مع «المحظوظة» وقد حسبت اطراءها لجماله أهانة ومهانة..
بعد كل تلك الاشارات الخاطفة والعابرة جداً يحلو لنا جميعاً أن ننصت مع شاعرنا وبكل جوارحنا إلى احدى الصور النثرية الممتعة.. «الضالة»..
«هذا انتِ.. فكل الدروب تؤدي إلى ساحتكِ
كل الكلمات المتنقلة معي من رسائلكِ.
من قصائدك المباحة
هذا انتِ.. هذا انتِ»
وما دام قد عرفها..استكشف هويتها..وربما هواها.. فإن طريقنا معه يبقى سالكاً دون حفر ولا نتوءات تحد من سير الخطوات وثباتها لولا تلك الانتكاسة الحسية والنفسية لما قاله الناس عنه:
«يقولون لم يعد لي قلب
لم أعد ذلك الشخص الذي يحب
كلماتي فقدت طعمها
أحاسيسي تلاشى عمقها
حتى ذلك الارتعاش في صوتي
أخذ في فقد مكانته»
كل هذا قاله الناس عنه.. وتأثر به.. ابدا يا صديقي لا تلق لما يقوله الناس بالاً.. انهم غاية لن تدرك..
قبلك جحا وابنه وحماره غلبوا وتذوقوا مرارة الغبن أمام تقولات غيرهم التي لا تستقر على حال لأنها مدفوعة بفضول طفيلي حاسد ومرفوض.. انفض الرعشة عن صوتك.. اعطه لنا شيئاً يستحق عناء الرحلة ووعثاء السفر.. «مغنية من فلسطين» كيف لا تستمع إليها..وتنصت إلى ايقاعات جرسها الحزين وهو يرجع لحون مأساة تراجيدية ما زالت قائمة منذ نصف قرن وأكثر.
«أغنياتكِ يا صغيرة.. تثير حنيني
أغنياتكِ ذلك البكاء النابع من تراب وطني المسلوب
تحطم ظلمات النسيان
تعيد إلى أعماقي أشياء متناثرة
نزعتها الأيام عنوة»
وما دام شاعرنا الشقحا بوهجه لم يحترق.. «ولن يحترق».. لنقترب منه أكثر وأكثر ولننصت:
«أفرغ ما في جعبتك من كلمات، وتعال
قلبي هنا.. هناك
أزرع في جسمي بقاياك
يا ويلي: أني ما زلت أهواك»
وليته أحل حرف «و» بين هذا وهناك.. وصحوة شاعرنا جاء صمود كلمات آثر أن يحطمها وألا يقول شيئاً لا يجدي فتيلا.. ثم ماذا عن الرغبة التي تعنق لسانه.. وتكمم جنانه؟
«بي رغبة»
لكن متى أجد الجرأة.. فأخلع هذا المسوح المزيف؟!» «الأمل» أمنية نعيشها في خواطرنا ونستبطنها في جوانحنا.. أما «القلب الحزين» وحتى لا يضيق شاعرنا ذرعاً بتطفلنا عليه، وكلنا مع «اشتياقه» نستبق الخطى إليه لا نخشى ضيقاً:
«اني اشتاق إليكِ
أشتاق إلى حديثكِ المليء بالرموز
بالتحدي.. بغريب الكلام..»
حتى غريب الكلام يثير ويستثير شوقه.. انه الحب المتسامح إلى درجة الاستلام.. ومن تسامحه إلى «هوسه» أعني هوس مشاعره:
«وتدق الساعة المليون
وترقص الدقائق فرق رأسي كطفل مجنون»
جميل ذلك الشبه بين رقص الدقائق.. وصرخات الطفل العابث.. وان كان للصرخات الصوت الأعلى والأقوى:
«وألتفت حولي.. وإذا بي في فراشي
وكل اذاعات العالم صامتة
ومذياعي الأخرس يثير فيَّ الحنق»
والسؤال: أليس مذياع الأخرس إحدى اذاعات العالم الأكثر تعبيراً وتصويراً للصدق؟ فلم أفرده وحده بالحنق؟!
ندع مقطوعة «النهاية» إلا أن النهاية ما زالت منتظرة لم يحن الوصول إليها بعد.. وحديثه عن الجراءة التي تنطنطه بين الجدران فراراً من أيدي الصغار بحثاً عن النجاة حبا في الحياة.. آخذين معه مطلع مقطوعته «مناجاة»
«وفي بحر اليأس اقعي. تأخذني موجة»
«اقعي» كلمة غير شاعرية.. أفضل منها «أغوص» ولأن الرحلة على أبواب نهايتها وكلها معاناة نعيش آخر مع معاناته التي اصطفاها واختارها عنواناً لمجموعته:
«بلى.. مضت ساعات الفجر
وشغلنا بلهيب شمس القدر
وغدونا أخي نجهل أيامنا
فنحن أقل من أن نكون الصفر»
منتهى الاسقاط والسقوط في لحظة اعتراف من المرارة الاعتراف به.. لأن الصفر له حساباته اذا ما وظف جيداً وأخذ مكانته في خانة اليمين وليس اليسار..
وبعد يا صديقي الكريم الشقحاء، ليس عيباً أن يتجاوزنا التوفيق في بعض خطواتنا.. وبالذات في بداياتها تماماً كالطفل الذي يحبو.. ويتعثر.. ثم يقف على قدميه.. لقد أجدت في البعض.. ولم تجد في البعض.. كلنا ذلك الذي مر بالتجربة فأصاب وأخطأ.. وأنا واحد ممن اخفقوا في الكثير.. واصابوا في القليل.. وحاولوا تصحيح اخفاقاتهم بقدر طاقاتهم المتاحة.. التي ما زالت تلتمس خطواتها في حذر.. وفي تواضع لا يخدشه الحياء..
أحييك.. بقدر ما استنفر تجاربك على درب الكلمة الشاعرة الموحية بجمالاتها.. وأنت الأهل لذلك ان تسمح للشعر..
أن تعطي له مكانته في معطياتك الجديدة.. الشعر في اصالته يعيش عصر اغتراب.. واقتراب من درجة النسيان.. ومثلك.. وأقرانك تقع عليهم مسؤولية الحفاظ عليه.. وليحفظك الله من كل سوء..
الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|