قصة قصيرة رقصة العزاء سعيد الأحمد
|
أشعر أنني بليد جداً حيال أحزان الآخرين، لا خوفاً من أن تسقط مني دمعة متمردة على مقاييس الفحولة المبكرة، فأنا لا أخاف المجهول، غير انني لا أجيد ترويض الدموع البرّية!
لا أتذكر متى بدأ الجفاف يصيب محجري، وكل ما أعرفه انهم كانوا مهووسين بانضاجي قبل الأوان، والرجال لا يبكون: هكذا رددوا على مسمعي، فصدقت.. والله!
أوليس الكبار لا يأتون سوى بالحق؟
وحدها تعرف ان البكاء سر آخر لترطيب الحياة، واكسير يحفظ بريق الطفولة أطول وقت ممكن، لم تغب لحظة عن تعبي، ولم تتوقف عن حرث تربة أحزاني لتقلبها عارية لمطر العين، وكأنها تكهنت أن غيابها سيبكيني أعواماً بلا نياح أو مطر.
تتسلل إلى غرفتي بكل ليلة يزورني بها أسى عابر، هكذا كانت تفعل ولم أتم عشرُ الضربِ بعد، ولم تغب بعد العشر يوماً عن جسر سريري ان تلحّف بوجع صامت، مسندةً رأسي إلى صدرها لتستدرج البكاء. أزمّ عيني بشدة فأفيق بوسادة خالية من البلل: مجرد حلم هطول طفيف يغادر سريعاً!
جميعهم يحترفون مراسم الدفن، لا أعرف من أين لهم تلك المعارف، يستحضرون لياقتهم، أعرافهم، كذبهم ونبلهم، ويسنون سيقانهم استعداداً لرقصة عزاء فاخرة، وأنا فاشل حتى في استقبالهم عندما تكون منصة رقصهم القادمة منصوبة على مسرح أعصابي.
أذكر انهم أتوا جميعاً، ولم يتخلف فرد عن حفل إهالة التراب على جسد أبي، يصعد أولهم لأداء رقصة النبل على منصة فجيعتي، ويترجل، تاركاً المنصة لراقص عزاء جديد، لأرقبهم بعين جافة: يهمهمون، يرددون أذكاراً لا أفهمها، يقبّلون اصداغي ثم يغربون.
وحدها كانت هناك لاقتسام رغيف الفقد وقلبي، بالقرب من جسر سريري الحزين، تتزين لهمي، ماسحة جبيني بإصبعها لأغفو.
قالوا لي، عندما ركَلَ شعرُ ساقي البراءة خلفي وركضت، انها ماتت قبل أن أُخلق، ورغم تأكيد أخي وقَسَم أمي، غير انها لا زالت تزورني بكل ليلة حزن، تسحب الغطاء المورد على صدري وتمسح بتجاعيد إصبعها العجوز جبيني، مسندةً رأسي إلى صدرها لتحرضني على البكاء!
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|