قصة قصيرة حورية البحر.. خديجة الحربي
|
أحببتها منذ صغري.. كنت أترك اللعب مع أقراني لألعب معها.. لقد كنت أجدها في كل الحكايات التي كنت تحكينها لي، وأحب أن تكون بطلة الحكاية بدلاً من سندريللا.. فتنني شعرها الطويل وجسدها المرسوم.. وحدي أنا التي أراها تلوح بذيلها لترحب بي.. هكذا أراها وأحبها.. وعندما تختفي عن ناظري، كنت أبحث عنها.. أصرخ بجنون في الأعماق باحثة عن حورية البحر......
ذات ليلة، قررت الهرب.. حملت امتعتي وذكرياتي وحبك المدفون في أعماقي.. رحلت إليها.. حملتني على شعرها الطويل.. ذبت بداخلها.. أرى بعينيها وأحب بقلبها الكبير.. لقد اصبحنا روحاً واحدة.. لم نترك بحراً إلا وخضنا ماءه.. اسألي الأمواج عنا.. لعبنا على ظهرها كثيراً وحملتنا إلى حيث نشير.. كنا سعداء جدا لا يكدر صفونا شيء.. حتى التقيناه.. سفينة عريقة، تشق عنان البحر بكبرياء.. وهدير محركاتها يبعثر سكون البحر.. على متنها وقف شامخاً يتفحص كل ما حوله.. ومع أول خيوط الصباح المنبثقة من قلب السماء.. سقطت عيناه على تلك الصخرة التي كنا نحب الجلوس عليها، نغتسل بأشعة الشمس المنعشة.. التقت عينانا.. أثقلت الدهشة محياه الجميل.. لفّنا الصمت مرة أخرى.. لم أشعر إلا بحرارة دموعها تسقط على وجنتي.. احتضنت قلبها.. فضحها شوقها لحب قديم.. كان قلبي يخفق بشدة معها.. تأملتها جيداً.. لقد ذابت كل الفروق بينهما.. همست:
ربان البحر.. أطلت الإبحار..
أجابتها عيناه الدافئتان:
وها أنذا قد عدت..
لقد أبحرت بعد رحيلك.. لكن لم أجد في البحار كلها سوى طيفك يتبعني.. لم أجد غيرك رباناً لبحري.. وكنت أخشى أن تجد في كل بحر حورية غيري..
ارتسمت على وجهه الكبير.. الحنون.. ابتسامة أذابت كل الشوق والحنين.. وأحاطتنا جميعاً بشعرها الطويل المظلم.. سكنت الأمواج ليتناغم المد والجزر في مسار واحد.. ولم يتبق على صفحة الماء سوى صورتنا المنعكسة..
أصدقكِ القول.. لقد تحركت مشاعري نحوهما.. شعرت بذلك الإحساس الذي طالما حكيت لي عنه.. تلك المشاعر التي تزلزل الكيان وتجعلني أعيش كل تقلبات الطقس في لحظة واحدة.. تأملت ربان البحر.. هل كان يهمس لي أم لحورية البحر.. هل كان يعلم أني بداخلها وأتحدث بلسانها. شيء ما يمنعني من الحديث إليه.. أهو رهبة الموقف؟! مشاعر لم احدّد نوعها بعد.. كان الصمت يحتل جزءاً كبيراً من حديثنا.. كنت أشعر بثقلي.. أجدني مُحمّلة بأحاسيس تجعلني أغوص في الأعماق كثيراً.. تركتهما على السطح.. ترقص الأمواج لهما احتفالاً.. أعلم تماماً بأنني والحورية روحاً واحدة.. لكني لا أعلم إن كان شوقه وحنينه لي أم لحورية البحر..؟
افترقنا كما التقينا.. وعلى تلك الصخرة تركنا مشاعر بلا اتجاه.. وحنيناً لم نروه بعمق.. وأحاسيس قيّدناها بمتطلبات الحياة فلم نفصح عنها.. غلّفناها بالوقار والسكينة والاحترام.. ثم هرب كل منّا يعبث في تفاصيل حياته.. يبحث عمّا يشغله وينسيه ذلك الشوق.. ليقتصر حديثنا على بضع كلمات منمّقة.. مغلّفة لكي لا تفضح ما بداخلنا..
تمر الأيام ويعبر ذلك البحر ألف ربان وحورية.. الكل يسير حولنا بانسيابية.. بينما نبقى على تلك الصخرة كما التقينا.. يقف ربان البحر متأمّلاً حوريته.. يهمس لها بين الحين والآخر.. بينما تقف حورية البحر تستنطق صمته وتحاول أن تقرأ تلك الحروف التي ذابت على شفتيه.. وحينما تشعر بقلبها ينبض بجنون، تلف الكون بشعرها الطويل لتحيل نهاره إلى ظلام دامس..
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|