مساقات مسؤولية القارىء د. عبد الله الفَيْفي
|
كثيرًا ما تثار قضية الغموض والوضوح إزاء كثير من الأعمال العلمية أو الفنّيّة. وليس من المفيد للقارئ فتح مثل ذلك السجال حول الغموض والوضوح في أي شأن من شؤون الثقافة؛ من حيث هي مسألة نسبيّة، لن يصل فيها المتحاورون إلى حلّ؛ بما أنها في النهاية رهينة اهتمام كل طرف ومشرب وثقافته. فمهما كانت مفاتيح اللغة والبيان والبلاغة سبيلاً إلى تسهيل المسلك وتيسير المدخل لفهم القارئ كما يحتج قارئٌ كسول فليس هنالك مفتاح يسهّل فتح كل المغاليق وييسر ولوج الأبواب ذاتيًّا، بل إن ما يُتوخّى منه من تسهيل وتيسير إنما يعود أولاً إلى استعمال مستعمله في عملية التأتي إلى الفتح.
ولعل ذلك القارئ المطالب بالسهولة واليسر فيما يقرأ لو رجع إلى قصة نشوء العلوم عموماً وهي مفاتيح المعرفة والنور لعرف أنها ليست مفاتيح سحرية، تُغني الإنسان عن التفكّر والتدبّر وبذل الجهد القرائي، ولرأى أن علم النحو على سبيل المثال وهو ما نشأ إلاّ ليفتح على الناس مغاليق التركيب اللغوي السليم فيسهّل المسالك وييسر المداخل قد نظر إليه عامة الناس في بادئ الأمر وربما إلى اليوم على أنه طلاسم، حتى جاء من قال قديماً، وقد سمع نفراً من النحويين يتناقشون مسائله: (أسمع كلاماً عن كلامنا، ليس من جنس كلامنا).
ثم لو أن ذلك القارئ عاد مثلاً آخر إلى كتاب ك(مفتاح العلوم) ليوسف بن أبي بكر السكّاكي (626ه 1229م)، ورأى ما بذل مؤلفه فيه من جهود لفتح مغاليق في دراسة البلاغة العربية وما البلاغة إلا وسيلة بيانٍ وبلاغ ثم ألفَى ما بَذَلَ لاحقوه من جهودٍ مضاعفة لفتح مغاليق (المفتاح) نفسه، لانتفى عنه وَهْم العادة، من أن المفتاح عادة يسهل المسالك وييسر المداخل.. آليًّا!
أقول هذا إقراراً بما قد يكتنف أي كتاب أو نصّ علميّ أو أدبي من غموض يحتاج إلى قراءة ومعاناة فهم. ولا سيما حينما يكون النصّ عملاً أدبيًّا يسعى إلى تخطّي السائد، أو كان الكتاب عملاً علميًا أكاديميًّا، هو للمتخصّص أقرب منه لغيره، وهو للقارئ الجادّ لا لقارئ التسلية.
ولقد درج كثير من القراء على إلقاء الأحكام الجزاف وتعميمها، دون أن يبذلوا مجهوداً يُذكر للقراءة الحقّة، ومن ثم شرعوا في تشريع سُبلٍ مُثْلَى من وُجَهِ أنظارهم للمؤلفين كي يتناولوا بها أطروحاتهم. وإنّ أحدهم ليطلق الحكم على كتاب نقديّ تماماً كما يطلقه آخرون على قصيدة حديثة وبمجرد التصفّح الأول، فإذا رأى إحصاء أو شكلاً تخطيطيًّا في الكتاب، أو أمراً خلاف ما تعوّد، ذهب يقول إن الكتاب الفلاني صعب الفهم على عامة المثقفين وخاصتهم. هكذا إذن نَذَرَ فريق مصادرة أي جهد يحاول أن يتخذ سبيلاً علميًّا يتجاوز كتب الشرح والإنشاء، مما تصدره المطابع العربية تحت عناوين الأدب والنقد.
كأن هناك نفوراً عربيًّا يعكس قِيَماً من الخمول الذهنيّ والفكريّ من كل ما يكلّف الذهن عناءً في القراءة، وكل ما يشق على النفس بالتفكير والتغيير. وإذا كُنا أحيانًا قد فهمنا الأدب على أنه محض تسلية تُمارَس كل ليلة قبل النوم لجلب النوم، فالدعوى الراهنة التي يطلقها بعضهم تريد للنقد العلمي كذلك أن يكون ضرباً من تزجية الوقت بسهولة، وأن يكون في متناول عامة المثقفين.
و(المثقفون) هذه كلمة مبهمة، مطّاطة، يمكن أن تنطبق على كل من يعرف شيئًا.
نعم، كل مؤلف يحلم لو كان كتابه في متناول المثقفين وغير المثقفين، بل المتعلمين وغير المتعلمين، ولكن هيهات، فلكل مقام مقال، ولكل قارئ كتاب، ولكل ميدان أهله، {ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها}!
ولا تتعلّق التهمة لدى ذلك الفريق من القُرّاء الكسالى بالمؤلّف حسب، ولكنها تتعدى ذلك إلى جهة النشر أحيانًا. فنحن نقرأ ذات تهمة من يتهم نادي جدّة الأدبي الثقافي على سبيل المثال المحلّي بأنه قد دأب على إصدار تلك الكتب التي لا يفهمها كل القراء بسهولة! لماذا؟ لأن نادي جدّة الأدبي الثقافي ربما يميّزه تبنّيه مشروعًا إنتاجيًّا لقارئ جديد، جادّ، ومختلف.
على أن للقارئ مطلق الحق في أن يقرأ ما يشاء، وأن يرى ما يرى، ومن (ألّف فقد استهدف)، كما فهم القدماء. أمّا حين يكتب هذا القارئ ويحكم على ما قرأ، فمن حقّنا عليه حينئذ أن يقول خيرًا أو يصمت! وما يُقصد بالخير هنا الموضوعية في الحكم، والتجرّد في الرأي، والإنصاف في القياس. ذلك أن بعض مواقف القرّاء لا تبدو على كل حال إلا صادرة عن موقف تحيّزي مسبق، فما أن يأنس ذلك القارئ من عنوان كتاب اختلافاً عن المعتاد، أو خروجاً عن الإلِف، أو ازورارًا عن تيارٍ أثير لديه، حتى يمتشق حسام الحكم الخشبيّ، قبل أن يمتشق ذهنه للقراءة فالفهم، أو ينصب ميزانه لحكمٍ عادل، انطلاقاً مما ينبغي للحكم من معايير وحيثيات.
وثالثة الأثافي تبرز حينما يتصدّر ذلك القارئ غير الكُفء محتجًّا على غرابة مصطلحاتٍ استخدمت في كتاب علميّ، فيطالب فيها بالمألوف من أدوات التعبير. ولا يكتفي بذلك بل يتمنى مع الإلف أن يكون المصطلح ذا طعم وجرس. فهو إذن لا يفرق بين علم وأدب، كما لا يرضى بتطلّب راحة البال من خلال: مسايرة العادة، وسهولة المسلك، ويُسر المدخل، بل يطلب فوق ذلك: (الطعم)، و(الجرس). مع أن القدماء كانوا قد أراحونا من خضم هذا المعترك، ولا سيما في مجال العلم والمصطلح، حينما أرشدونا أن (لا مشاحّة في الاصطلاح)! كما كانوا قد اتخذوا مصطلحات شتى عربيّة وغير عربيّة، لم يجدوا عنها بديلاً، ولم يتطلّبوا فيها بالضرورة توافر الطعوم والأجراس. وإزاء قارئ كهذا، لن يجد مؤلفٌ محيصًا من الاعتذار له عن تلبية كل هذه طلباته؛ لأن طلبات الزبائن ولا سيما في النقطتين الأخيرتين، حول الطعم والجرس غاية لا تدرك! فاختلاف أذواق الناس فيهما أشد تعقيداً من اختلاف أذواقهم في ما يقرؤون أو تباين عقولهم في ما تحسن فهمه.
وليس هذا الوصف لحالة بعض القراء بالوصف المتخيّل أو الافتراضي، بل هو وصف حالات حقيقيّة، دون حاجة إلى ذكر الأسماء أو تحديد الوقائع، فذلك خارج غرض هذه المعالجة.
مهما يكن من شيء، فإن الشبهة المثارة من قبل قارئنا النمطي ذاك حول كثير من مصطلحات النقد بالتحديد لا تثار غالبًا لولا الظنّ بها أو بصاحبها سوءًا، وأنها، مثلاً، خزعبلة من خزعبلات الحداثة، مليئة بالأحاجي والرموز، رغم أن الأحاجي تغري كثيراً من الناس في محيطنا الثقافي بالاطلاع وتستأثر بعقولهم للتأمل! بيد أن من المفارقة بعدئذٍ أن يقف قارئ موقفًا من هذا القبيل، جاهلاً أن ما يرتاب في أصله وفصله هو تراثيّ لا حداثيّ! ولعلي أسوق هنا مثالاً محدّدًا مما حدث لكاتب هذه السطور، حين كتب أحدهم يعيب عليه استخدام ما وصفه في أحد كتبه بمصطلحات غريبة. فقال صاحبنا: (الغريب أن مفاتيح القصيدة الجاهلية حتى في المصطلحات التي ظهر بها لم يكن بالمألوف من أدوات التعبير.. فالمقدمة في هذا الكتاب اسمها (فَرْش) وهي إن كانت ذات دلالة خاصة إلا أنها من (التعابير) التي لا طعم ولا جرس لها). ولو كان ذكر غير تلك الكلمة لكان يمكن أن يُلتمس له العذر. إلا أن مصطلح (فرش) من حيث لم يدر قارئنا العزيز ليس بالمصطلح الجديد، فضلاً عن أن يكون من اختراع مؤلف (مفاتيح القصيدة الجاهلية)، بل هو مصطلح قديم. ولو كان عرف كتابًا قديمًا كالعقد الفريد، لابن عبد ربه الأندلسي (246328هـ)، لوجده يكرّر استعمال مصطلح (فَرْش) خمساً وعشرين مرة للإشارة إلى مقدمة كل كتاب من كتب (العقد) البالغة خمسة وعشرين. بالرغم من أن مؤلف العقد هو الأندلسي، المؤرخ، الفقيه، العالم بالعربية، البارع في الكتابة والشعر، العروضي، صاحب المنظومة المعروفة في علم العروض وجرس الشعر، وهو الموسيقي الذي نَسَبَ إليه ابن بسام الشنتريني، والصلاح الكتبي، وابن خلدون، أنه أول من نَظَمَ في الموشح الأندلسي. ومع هذا فإن أحداً فيما نعلم لم يقذفه بالغموض، ولم يعترض على استعماله ذلك المصطلح، بحجة الطعم والجرس، كما فعل قارئنا المعاصر!.
وهذا يعيدنا إلى القول إن بعض النَّقَدَة يتصدّون لنقد الكتابات على اختلافها دون أن يقرؤوا ما يؤهلهم للنقد، لا في قديم ولا حديث. وتلك ملهاة حين يتصدّى للكتابة والنقد كاتبٌ لا يقرأ أصلاً!.
وتزداد إشكالية القراءة تعقيدًا حينما يتعلّق الأمر بالشعر. فقد اعتاد سواد القراء على ألا يميّزوا الشعر عن غير الشعر، إلا بوجود عنصر الموسيقى في الأول وانتفائه في الأخير. ومن ثَمّ فلا غرابة أن يلفي المتتبع كثيرًا من الحسّ النثري في فهم الشعر، مع الموقف المضاد من قراءته على نحو جديد، أكثر اقترابًا من طبيعته المائزة. يصدق هذا على معظم التعامل مع الشعر، قديمه والحديث. فلقد اعتادت معظم القراءات لشعر الجاهليين مثلاً أن تتناوله بالدرس وكأنما قاله مسلمون! مع أن الإنسان الشاعر بوصفه مخلوقاً عاقلاً متفكّراً، ومن حيث هو ضمير مجتمعه وعصره لا بد له من أن يلامس بإبداعه خصوصيّات أسئلةٍ وجودية تؤرق معاصريه، كقضية (الوجود)، (العدم)، (الحياة)، (الموت). وتلك كانت أسئلة ملحّة على ذهن الإنسان العربي ونفسه قبل مجيء الإسلام، غابت عنها لديه إجاباتٌ مقنعة. وسنجد في القصيدة الجاهلية تعبيرات عن تلك الأسئلة بطرائق شتّى، من تصوير الأطلال، والظعائن، والمرأة، والناقة أو الفرس، والماء أو المطر، إلى غير ذلك. ووراء كل أقنوم منها عالم من الإشارات، تحمل معادلات موضوعيّة لأفكار الإنسان الأولى، حول الحياة والكون والمصير. إلا أنه ما أن تطال يد القارئ الحديث مشارف قضايا شعرية ثقافية كتلك، حتى تهبّ في وجهه التهم التقليديّة بالسفسطة والهرطقة، وأقلها تحميل النصوص ما لا تحتمل.
aalfaify@hotmail.com
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|