الموسيقى.. وأهميتها في الحياة! «22» د. إبراهيم عباس نتُّو *
|
أخبرني أنمار بأن الفضل في هذا الإنجاز يرجع لوالديه اللذين يعشقان الموسيقى، ثم لمعلمه مدرس العود في معهد البحرين للموسيقى (فارس العود) سعد محمود جواد، وكلتا المرجعيتين ساهما بفاعلية في تنمية مهاراته وتسامي مواهبه وفي تعلقه بعالم الموسيقى بشغف، وبتشبث، بحيث صار يعبر الجسر إلى البحرين مرتين في الأسبوع لحضور دروسه ولأداء تدريباته.
لقد حرصت عائلته على تشجيع كافة أنجالها (5 أولاد وبنت) لدراسة الموسيقى، وجميعهم منخرطون في برامج المعهد (أربعة من الأولاد متخصصون في العود وواحد في القيتار، والبنت في البيانو).
وفاز أحد إخوان أنمار وهو في سن العاشرة بلقب أحسن عازف على العود في المستوى الثاني، وتمكن من عزف (العصفور الطائر) للفنان العراقي العالمي المرحوم منير بشير، وكذلك مقطوعة (شجن وعود) من ألحان معلمه سعد، ومقطوعة (ليت لي جناح) من تلحين شريف محيي الدين.
ومن الطريف واللطيف سماع الطالب (أنمار) يقول : لا أتوقع أن أصبح نجماً كبيراً في عزف العود، ولكن الموسيقى ستكون جزءاً محبباً عندي وملازماً لي ما حييت. وأضاف بأن تخصصه (الهندسة المعمارية) في الجامعة في الدمام سيمضي مع هوايته الفنية الفضلى (الموسيقى)، فهما فنان وتخصصان متلازمان على كل حال. كما لاحظت على أنمار اهتمامه بالطرب العربي القديم، وبخاصة التراث الحجازي الأصيل، فأخذ يجمع عدداً من المقطوعات المشهورة لطارق عبد الحكيم، وطلال مداح ومحمد علي سندي، وأخذ يتدرب على معزوفاتها.
الطرب في المقام الحجازي
(حجاز كار)
(كأنْ لم يكن بينَ الحُجون إلى الصّفا
أنيسٌ، ولم يسمر بمكة سامرٌ)
يشير الشاعر مبارك العماري، المستشار في الديوان الملكي البحريني (للتراث الخليجي) إلى فن (الصوت) في الأداء الغنائي بأنه تركيبة مبتكرة في أساس (الهيكل العظمي) للغناء العربي القديم، وأن نشأته كانت في مكة المكرمة، وأنه ورد ذكره في كتاب (الأدوار)، لصفي الدين الأرموي (مخطوطة في مكتبة الملك عبد العزيز في المدينة المنورة)، وأنه جاء ذكر هذا النوع من الغناء في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، وأن أصناف الصوت تشمل: (العربيات) (بإيقاع 4 على 6)، والشامي، والساحلي، والحري. كما كان من مشاهير الغناء المكي القديم، من الرجال : ابن مسجع، وابن سريح، وابن محرز، وابن طويس، ومن النساء في الغناء الحجازي (في مكة والمدينة) اشتهرت سلامة وجميلة.
أما في العصر القريب، في القرن الماضي، فقد كان من الرجال : حسن جاوة، الذي شارك بمجموعة أغان في مهرجان الغناء العربي الأول في القاهرة، 1923م، والشريف هاشم العبدلي الذي سجل عدداً من الأغاني على اسطوانات في القاهرة (توفي في 1926م)، وكان فيما بعد : طارق عبد الحكيم، ومحمد علي سندي، وطلال مداح، وفوزي محسون ومحمد عبده ومحمد أمان.. كما أن من النساء الشهيرات حالياً : المطربة الفنانة (توحة) (فتحية حسن يحيي)، و(عتاب) وابتسام لطفي.
ولقد ذاع عبر العصور صيت المقام الحجازي (حجاز كار)، فاستخدم في عدد من أشهر المقطوعات الموسيقية، فمنها ما كان من غناء المطرب العربي الكبير محمد بن عبد الوهاب :
مُضناكَ جَفَاه مرقدُهُ
وجفاهُ ورحّم عوَّدُهُ
حيرانُ القلب معذبه
مطروحُ الجفن مسهدهُ
وفي أداء كوكب الشرق السيدة أم كلثوم.. من كلمات بيرم التونسي :
أنا في انتظارك خليتْ
يدي على خدي وعديتْ
وفي منطقة الخليج، كان من أشهر المعزوفات.. في أداء الفنان الكويتي عوض الدوخي :
صوت السهارى.. يوم
مروا عليّ.. عصرية العيدْ !
أما صنف (العربيات) فهو نوع من الصوت العربي المتجذر في العصر العباسي، ومنها ما يؤدي بدون استهلال ولا (توشيحة) ولا تصفيق، ولا زفن (رقص). ومن (الحجاز كار) كان نوع (الحميني)، ومنه صوت (الحري) (بما فيه الغناء الحجازي النسوي).. وهو نوع ثابت الوزن والإيقاع ويعتمد على أربعة أبيات.. مع الرد عليها بنفس الوزن والقافية. واستمر هذا النوع (الحري) حتى أواسط القرن العشرين (بحسب الباحث الشاعر مبارك العماري، عن الكاتبة السعودية هند باغفار). واشتهر هذا الغناء الحجازي في منطقة الخليج، أيضاً. ومن المقطوعات المشهور :
يا مركب الهند، يا بو دقلين
يا ريتني كنت ربانه !
وكذلك كانت (الصهبة) أساسية في الغناء الحجازي، وهي تعتمد على التصفيق بدون استعمال أدوات الإيقاع، ومنها ما أنشده مطرب الحجاز المرحوم محمد علي سندي :
جس الطبيب لي نبضي
فقلت له.. يا سيدي، فقلت له..
.. إن التألم في كبدي، فاترك يدي
يا سيدي.. فاترك يدي !
وكانت (التوشيحات) تؤذن بنهاية أغنية الصوت.. ولكنها كانت تأتي أيضاً كنهاية لغير (الصوت) من الأغاني، وذلك في شكل بيتين ينمان عن نهاية الأغنية، ومن التوشيحات الخليجية التي كانت تتغنى بالحجاز:
والزين لمن عبر
بأرض (الشبيكة) تمخطر
يا طلعته كالقمر
كأنه بدر وسط شعبان..
وأنا المسيكين أنا ! !
(الشبيكة).. هي الحارة الأشهر في مكة المكرمة)
وفي صيغة أخرى غناها المرحوم الفنان الكبير محمد بن فارس آل خليفة :
من شفت سيدي عبر
وسط (الشبيكة) تمخطر
.. يا طلعته كالقمر !..
أتذكر أنه أثناء طفولتي في المرحلة الدراسية الابتدائية أن أحضر المرحوم والدي مرة إلى منزلنا (صندوق غُنا) (قراموفون) لتشغيل بعض (اسطوانات) الغناء، وأحضر معه عدداً من الاسطوانات المسجلة حديثاً.. مما وصل أيامها إلى سوق مكة المكرمة، (كان ذلك الحدث يشبه في وقتنا الحاضر تركيب القرص الفضائي (الدش) أول ما وصل إلى الأسواق، أو توصيل الكيبل إلى المنازل ليتمكن أفراد العائلة من مشاهدة البرامج المسلية السمعبصرية الخاصة.. وكذلك تنظيم عرض الحفلات والمهرجانات والمباريات العالمية مثلاً.
وأذكر كم كان الوالد ممتناً أنه اقتنى الجهاز وأحضره لمتعتنا العائلية في البيت، وأتذكر اتخاذ عدد من الاحتياطات لكي لا تخرج الأنغام إلى خارج المنزل، بتخفيف الصوت إلى ما يقارب كتمه، وذلك بسد الفتحات بشرشف أو ببشكير رغم أن الجلسة كانت في الديوان، وفي الجانب الخلفي من البيت. (السبب : في حارتنا كان مطوع يسكن ليس ببعيد عن منزلنا).
وكان الوالد يترنم في أوقات ارتياحه وانشراحه في محلنا التجاري في مكة المكرمة، على شارع السوق الصغير شاعر إبراهيم الخليل (كان موقع المحل في الحيز الحالي لباب فهد من الحرم المكي).. كان المرحوم يترنم بكلمات من أبيات (صوت) كان مطلعه :
يا من هواه أعزه وأذلني
كيف السبيل إلى وصالك.. دلني؟ !
أنت الذي حلّفتني وحلفت لي
وحلفت أنك لن تخون.. وخنتني !
وكما في الموسيقى والغناء.. فهناك الحركات المموسقة المعتمدة عليها، وهذا يعني ويشمل الأداءات الاستعراضية والحركات البدنية من الرقصات بأنواعها، الجماعية والشعبية والكلاسيكية والفردية، فبالرقصات تكتمل وتتماهى المعزوفات.
ليس ب(العرضة) وحدها
يرقص الإنسان
إن أداء الحركات المموسقة (الرقص بأنواعه) هو أداء طبيعي، وهو وسيلة للتعبير عند الإنسان في كافة أرجاء المعمورة وفي مختلف الأوطان.. التقليدية منها والحديثة. وما رقصة (العرضة) في أنحاء من شبه الجزيرة العربية إلا مثال حي ومستمر عبر حقب الأزمان، في الهضاب والبراري والسفوح والوديان.
ورقصة (العرضة) هي رقصة رجالية استعراضية حربية.. كانت في الأصل تؤدى للحماسة ولشد همم المحاربين قبل القيام بالغزوات والغارات، وأيضاً في أوقات الأزمات والملمات.. أو احتفالاً بالنصر بعد الإياب. وتستعمل فيها عدة قطع للإيقاع الموسيقي، كالطبلة والطار (الدف)، والجحلة (صغير الزير) والمرصاع، وتغنى معها أبيات حماسية تبدأ بال(بداوية) ثم (الشيلات). أما الآن فتقام هذه الرقصة الشعبية (الفلكلورية) في أجزاء من شبه الجزيرة العربية في مختلف المناسبات الوطنية مثل عيد الفطر وعيد الأضحى، وكذلك في اليوم الوطني، وفي الأعراس.
وكانت العرضة تقليدياً تؤدى في عدة مناطق في المملكة العربية السعودية عدا الحجاز وعسير (حيث تتوافر أنواع من الرقصات المحلية الفلكلورية في كل منهما، كما كانت تمارس العرضة أيضاً في أنحاء أخرى من شبه الجزيرة العربية (ما عدا اليمن القديمة وحضرموت، حيث فيها أنواع أخرى من الرقصات).
كما وتقام العرضة في البحرين (وفيها جمعية نشأت منذ سنوات لترعى هذا الموروث الشعبي من الرقص والإنشاد). كما تؤدى العرضة أيضاً في قطر، وفي الإمارات (وتسمى الرديف)، وفي عمان (وتسمى الردفة).
ثم هناك العديد من الرقصات في منطقة الخليج، مثل موسيقى ورقصة (الليوة)، وموسيقى ورقصة (الطنبورة)، وكلاهما جاء إلى الخليج من الساحل الإفريقي الشرقي، كما وتشتهر في منطقة الخليج ايضا رقصة (الكاسر أو الحربة) وأصلها من الساحل الشرقي للخليج (إيران). وهناك الرقصات النسائية مثل رقصة (النشل) التي تؤديها الفتيات على ساحل البحر احتفالاً بعودة الغواصين.
وكما في المدن والقرى على ساحل الذهب الأسود، فإن في مدن المناطق الأخرى أيضاً أداءاتها الاستعراضية المموسقة، بما يشمل قرى تهامة وجبال الحجاز، برقصاتها الشعبية المتميزة المتعددة، وأيضاً في مدن الحجاز مثل جدة ومكة، حيث تقليدياً كانت رقصة (المزمار) تؤدى في الحارات، في مختلف المناسبات.
وفي أنحاء العالم، لا تكاد منطقة ولا دولة إلا وتقام فيها رقصاتها الشعبية (الفلكلورية).. من جزر المحيط الهادي، وأرخبيل اليابان (أنواع الماتسوري الاحتفال) والفلبين وإندونيسيا شرقاً.. إلى أنحاء أوروبا، مروراً بدول الشرق الأوسط، وعلى رأسها الرقصات المشهورة ب(الدبكة).. بأنواعها اللبنانية والفلسطينية والأردنية والسورية.. حيث تتشابك أيدي الراقصين الراقصات، ومنها ما تؤديه النسوة حصراً في أداء مختلف رقصات الدبكة.. مثل تلك المخصصة للبذر والجني والحصاد.
فبالموسيقى وبالغناء تنتعش النفوس وبخاصة حينما يتم الجمع بين الغناء الجميل والموسيقى الرخيمة والأبيات الشعرية الجميلة، والحنجرة الصادحة الندية، فيأتي (الكورال) أو الأغنية النشيد، رائع اللحن شجي النغمات، فتهتز معه الأسماع وتطرب له النفوس لحناً ومعنى. فما الإنسان وما الأنسنة وما الأنس إلا رفاق في دروب عشق الحياة!
يا ليلة الأنس، ما تعودي لنا..
كل الناس مرتاحة، يا عيني ! إلا أنا!
وحينما يتضاءل دور الموسيقى تضمحل الحضارة، وتضمر القلوب، وتتصحر النفوس. لقد جاءت مقولة عن ابن خلدون بأن (أحد مؤشرات سقوط الحضارات كان تدني الحس الغنائي الموسيقي في المجتمع). وكما يقول الأخ جعفر الجمري : من لم تصبه الموسيقى بعافية الحب فلن يجد إلى العافية سبيلا.
إن الشعب الطروب لن يهن ولن يموت.. فدعونا نستعيد ولو بعض الهنا، وأن نبعد عن أنفسنا ولو بعض العنا، وأن نسعى إلى منع اغتيال البهجة في صدورنا، والفرحة من على شفاهنا.
وعلينا ألا نفقد الأنس (وكذلك الحب والحنان)، وألا نسمح بأن ندفع إلى نسيان إنسانيتنا، وإلى فقدان ابتسامتنا..!
* عميد سابق في جامعة البترول
natto@batelco.com.bh
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|