حالات حصار الأدب والهوية والصراع العربي الإسرائيلي! «1 - 3» سعد البازعي
|
أستمد عنوان هذه الورقة من مجموعة محمود درويش الأخيرة حالة حصار، التي كُتِبت بوصفها نصاً متصلاً، حسب تعبير الشاعر، خلال شهر واحد أثناء الحصار الإسرائيلي للأراضي المحتلة ومنها مدينة رام الله التي كتب النص فيها وذلك في يناير 2002 وفي حالة حصار، كما في الكثير من أعمال درويش الأخرى، تمثل الهوية بوصفها قضية مركزية.
وأطروحتي الأساسية في هذه الورقة هي أن الهوية قضية مركزية وإشكالية ليس في أدب درويش أو الادب الفلسطيني عموماً فحسب، وإنما في الادب المقابل له، في منطقة العدو، أي الادب الإسرائيلي، كما في الحياة الثقافية لليهود عموماً، وفي الانشغال بالهوية يبدو الحصار حالة عامة تزخر بالمفارقات.
في مقابلة أجرتها صحيفة «الغارديان» البريطانية «8/6/2002» مع درويش حدد الشاعر الفلسطيني عدداً من المفارقات التي تصله بالشاعر الإسرائيلي يهودا أميخاي دون أن يخفي إعجابه بذلك الشاعر اليهودي «شعره يخلق نوعاً من التحدي بالنسبة لي، لأننا نكتب عن المكان نفسه يريد هو أن يستعمل المشهد الطبيعي والتاريخ لمصلحته وعلى أساس من هويتي المدمرة. لذا فإننا في تنافس: من منا يمتلك اللغة والأرض؟ من يحبها أكثر؟ من يكتب عنهما أفضل؟ ومن الطبيعي ألا يعتري موقف درويش هنا أي نوع من التردد تجاه القضية التي تشغل حياته وأعماله كلها، كما قد يبدو من مقارنته لنفسه بأميخاي، إنه فقط يحاول أن يوسع من دائرة الرؤية لديه لكي يرى العدو دون أن تعميه الكراهية المتوقعة في حالته فهو يقول لصحيفة «الغارديان» إنني أؤنسن الآخر على الدوام، بل لقد انسنت الجندي الإسرائيلي.. وسأواصل أنسنة العدو».
تلك الأنسنة، أو محاولة النظر إلى العدو كإنسان، هي ما استرعى نظر الناقد والأكاديمي الإسرائيلي ساسون سوميخ، الذي يدرس الأدب العربي في جامعة تل أبيب، حين علق على قصيدة لدرويش حول منفذي الهجمات الانتحارية في الشبان الفلسطينيين، فقال:«إنها «قصيدة» تهدف إلى الجوار: إنها لا تتحدث عن الإسرائيليين كمجرمين، ولكنها تقول، لم لا يفهمون؟ ليس ثمة ما يشير إلى أن هذا الإنسان يكرهنا».
في أحد نصوص حالة حصار، يعبر درويش عن موقفه الإنسانوي تجاه العدو قائلاً:
«أنا آخر الشعراء الذين يؤرقهم ما يؤرق أعداءهم..» ويتسق ذلك مع رؤية تكرر كثيراً في ذلك النص، أو تلك المجموعة من النصوص، يظهر فيها العدو، على الرغم من قوته الغاشمة وعدائه الواضح، بوصفه ضحية لتلك القوة نفسها وذلك العداء في إطار من الإنسانية والمعاناة المشتركة، وحين يذكر العدو بما خاضه هو من صراع، فإن ذلك يزعزع الأهداف التي يسعى إليها من وراء عدوانيته:
«إلى قاتل:» لو تأملت وجه الضحية
وفكرت، كنت تذكرت وجه أمك في غرفة
الغاز، كنت تحررت من حكمة البندقية
وغيرت رأيك: ما هكذا تستعاد الهوية!
إن درويش هنا يعلم تماماً أنه يمارس واحدة من أكثر المناطق حساسية في التاريخ اليهودي، معتمداً على الشحنة العاطفية التي تفجرها تلك المنطقة، أي المحرقة أو الهولوكوست النازي، وذلك للضغط على العدو لكي يرى المفارقة في ما يفرضه من حصار وقتل وتدمير لكي يستعيد هوية سرابية في أرض موعودة.
غير أن درويش يعلم أيضاً أن استعادة الهوية ليس هدفاً مقتصراً على المساعي القومية للإسرائيليين أو اليهود عموماً، وأن استخدام العنف لتحقيق ذلك المسعى ليس حكراً عليهم، فالمقاومة الفلسطينية تسير نحو هدف مماثل، وإن تغيرت الزاوية واختلف المهاد، والعنف هو الوسيلة الفلسطينية أيضاً لاسترداد الحق، على ما بين مستوى العنف وأسلوبه في الحالتين من اختلاف كبير.
ما يلفت النظر هو ردة الفعل التي تركها العنف لدى المثقفين من الجانبين، لاسيما الفنانين والكتاب منهم، فهنا نلمس حدة الوعي بالمأساة المترتبة على الصدام بين الفئتين. الكاتب الإسرائيلي عاموس أوز عبر عن ذلك على النحو التالي:
المواجهة بين الشعب الذي يعود إلى صهيون وسكان البلاد من العرب.
ليست، كما يبدو لي، مثل أحد أفلام رعاة البقر أو ملحمة اسكندنافية، وإنما هي مأساة. والمأساة ليست صراعاً بين «النور» والظلمة» بين العدل والجريمة، إنها صدام بين عدل مطلق وعدل مطلق..
الكيفية التي ترك بها ذلك الصدام أثره في البحث عن هوية في الثقافتين العربية الفلسطينية واليهودية هو ما تبحث فيه هذه الورقة من خلال عدد من الأعمال الفكرية والإبداعية المنتجة فيهما.
من بين المجموعات العرقية على اختلافها كان اليهود ولفترات طويلة من أكثر المنشغلين بمسألة الهوية.
وكان للظروف الناتجة عن عزلتهم الاجتماعية والاثنية والثقافية وما لقوه من ضغوط عبر تاريخهم في أوروبا بالذات أثر حاسم في تطوير انشغالهم بتلك المسألة. ففي ما يعرف بفترة الشتات كان اليهود محاطين بمجتمعات لم يكن بوسعهم الانتماء إليها على الرغم من كونهم مضطرين للتعامل معها، ومع أنهم عاشوا ولفترات طويلة ضمن ما يعرف بالغيتو الذي فرض عليهم نوعاً من العزلة في بلاد اوروبية مختلفة، فإنهم لم يستطيعوا أن يتفادوا الضغوط الاجتماعية التي دفعتهم بدورها إلى التمسك بنوع من الهوية استمدوه في المقام الأول من موروثهم الديني، غير أن الهوية الثابتة، أو الساكنة، لما يعرف ب «الشعب المختار» لم تستطع تجنب الأزمة التي حدثت فيما بعد حين جاء ما عرف بالخلاص في نهاية القرن الثامن عشر فقد أدى اندماجهم بالمجتمعات الغربية ومجيء ما عرف بعصر التنوير وهما حدثان متزامنان إلى زعزعة الإحساس القديم بالهوية لاسيما بين المثقفين منهم. وكان من الطبيعي نتيجة لذلك أن تكسب مسألة الهوية أهمية غير مسبوقة، كما يقول الباحث اليهودي لورنس سلبر شتاين:
ما تزال مسألة الهوية ذات أهمية مركزية في الخطاب اليهودي العام والأكاديمي.
في كل عام يصدر العديد من الدراسات التي تركز على مسألة الهوية اليهودية.
وباستثناءات قليلة تفترض تلك الدراسات أن ثمة هوية جماعية يهودية معطاة.
وفي خلفية تلك المساءلات قلق حول ما يحوط الحياة اليهودية من مخاطر.
وهو ما يدفع بالكثير من الدراسات، التي تحلل ما يتهدد الهوية من حيث بقاؤها.
إلى رسم استراتيجيات لإيقاف الانهيار.
إحدى الاستراتيجيات الرئيسة التي اتبعت لإيقاف الانهيار كان المشروع الصهيوني لتأسيس وطن لليهود في فلسطين فبإمكان اليهود في إسرائيل أن يدعوا هوية تقارن في وضوحها وثباتها بتلك الموجودة في بلاد اخرى وكان الكاتب الاسرائيلي عاموس أوز Oz يقصد ذلك الوضوح نفسه حين أكد هويته بعد أشهر قليلة من حرب 1967:
إنني صهيوني لأنني لن أكون ولن أستطيع أن أكون مجرد كسرة من رمز في ضمير الآخرين، لن أكون مجرد رمز لمصاص الدماء الذكي الموهوب، ولا رمزاً للضحية الحانية التي تستحق التعويض والمكافأة، لذا ليس لي مكان في العالم غير بلد اليهود.
في تعليقه على رواية أوز مايكلي My Michael، كتب الناقد الأمريكي روبرت ألتر مشيراً إلى قدرة الكاتب الإسرائيلي الاستثنائية على تجاوز المأزق الذي يعيشه وإعادة تشكيل «صراعه مع العرب» في هيئة وجود إنساني متجاوز للسياسة».
غير أن الناقد الأمريكي نفسه يلاحظ أن لمشروع أوز الأدبي وجهين مختلفين: فبالإضافة إلى قدرته على تجاوز السياسة، يمكن النظر إلى ذلك المشروع بوصفه «وثيقة، ووثيقة مقلقة، لحالة الحصار التي تعيشها إسرائيل،«ولو تأملنا في ذلك الحصار لوجدناه يتخذ شكل الوقوع في كمين من السلوك الأخلاقي المثير للريبة في أفضل الأحوال، والشديد الخطورة في الوقت نفسه.
التحليل الذي قامت به الباحثة غيلا رامراس راوخ يسفر عن عدد من الأسباب الكامنة وراء حالة الحصار المشار إليها التي تثير أسئلة اساسية لجيل اوز من المثقفين الاسرائيليين، أهمها: انهيار المثل العليا التي جاء بها المهاجرون الأوائل، التي يتغنى بها الإسرائيليون الصهاينة كثيراً، وإدراك أن استقلال إسرائيل جاء بثمن عال من الدماء المراقة على كلا الجانبين من الصراع، وأخيراً اكتشاف أن للعرب حقاً مشروعاً في فلسطين.
تقول رامراس راوخ«إن العرب يشكلون تحدياً أخلاقياً للتركيبة الأخلاقية للإسرائيلي.«انه تحد للهوية الإسرائيلية نفسها، فإذا كانت فلسطين يهودية، كما يدعي الإسرائيليون، فكيف يمكن أن تكون عربية في الوقت نفسه؟ وكيف يمكن لغير اليهود من سكان فلسطين أن ينتموا إلى الهوية الإسرائيلية؟ الوضع الذي يولد هذه الأسئلة بما فيها من غموض ومفارقات يصير نتيجة لذلك سمة رئيسة للأدب الإسرائيلي المنتج في تلك المرحلة، كما يتضح لرامراس راوخ في دراستها للقصة الإسرائيلية في فترة ما بعد 48، ومن الطبيعي أن الغموض والمفارقة المشار إليهما لم يكونا ليتأتيا أدبياً لولا أنهما جزء من التركيبة النفسية للإسرائيلي، غير أن المدقق في الوضع ستبين أنه، في التجربة الأدبية الثقافية الإسرائيلية، لا يصدق على الإسرائيلي وحده وإنما يشمل العربي أيضاً، لأن هويتي
الاثنين، العربي والإسرائيلي في فلسطين المحتلة، متداخلتان.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|