المحررون بغداد وحيدة.. على أرصفة التاريخ فوزية محمد الجلال
|
كما في الدراميات الحادة، أسدل الستار على مشهد مفتوح النهاية، ليغرق العالم، كل العالم في ذهول السؤال: كيف؟ لماذا؟ ولماذا الآن؟. هاجس أخرس يقتحم المكان والزمان.. وكان الوجود غفا فجأة، تعالت من تحت الحطام صرخات آشور وسومر وبابل وسامراء وعمورية، وتساءل حمورابي من الذي يعبث بالقانون، وابتلع الخوارزمي غصة وفتش عن ملاذ، وصاح المتنبي: مرة أخرى يا هولاكو! مرة أخرى يا علقمي!؟ صب التاريخ لعناته وتوعد بالحساب، وتوارت ملكة بابل جزعاً خلف «عشتار».. «يعاود بغداد هواها القديم/ تسير وحيدة على أرصفة التاريخ/ يطاردها شبح هولاكو/ تهتف وامعتصماه.. لا تسمع سوى أصداء الصمت» كان السقوط مشهداً مفككاً اعتمد في اخراجه على القص واللصق، فحفل بالثغرات والنتوء والتشويه، وامتلأ بالصور الخيالية التي نهضت من أتون الأساطير، فاستعصى التصديق على المتابعين، واتهموا العرض بأنه خليط عجيب من الكذب والخداع والمناورة، وانفضوا من حوله.. «لا حربنا حرب ولا سلامنا سلام/ جميع ما يمر في حياتنا ليس سوى أفلام..» هل علينا أن نصدق يا «سياب» أن ما حدث قد حدث وبكل هذا التصوير الفج؟ من يستطيع أن يفعل دون أن يصهره الوجع والغضب ورغبة الثأر؟!
بغداد اليوم يا «شمس الدين الكوفي» تبكي الجحود وتشكو الغدر، سرق الغزاة نور عينيها وتركوها مرتعاً للخوف ونهباً للطامعين، بغداد المتنبي والجواهري والسياب وسعدي يوسف ونازك الملائكة وقافلة من النور والإبداع، أمست عراءً تفترشه الأشباح وقطاع الطرق. حل الظلام، وغيض الماء، وشكت بلاد الرافدين العطش.! «وردنا ماء دجلة خير ماء/ وزرنا أشرف الشجر النخيلا» أجل يا أبا العلاء بغداد دجلة عطشى وماؤها العذب الأجاج لوثه الحبر الكهنوتي الضال بالدم والسموم.
بغداد اليوم أكوام مبهمة من المجهول، وشراك ترتمي في الدروب، غابت ملامح الأشياء كل الأشياء وبقي هذا الشجن الذي يهيمن على تفاصيل الوجدان العراقي، هذا النسيج الفسيفسائي البديع، يبكي اليوم كما الأمس، رفات جديد يضاف لعشرات رحلت باتجاه المغيب، سكنت المكان، واستقرت في حضن التاريخ.. من دفع بغداد إلى سراديب الظلام؟!. «في كل عشرين سنة/ يأتي إلينا حاكم بأمره/ ليحبس السماء في قارورة/ ويأخذ الشمس إلى منصة الإعدام» أعرف أن السؤال يقود إلى دروب عبدتها الشراك والفخاخ. ولكن لا بد من التصدي لتدوين تاريخ هذه المرحلة ولو بعد حين، فهل سينجو من الإسقاطات وتأثير الكانتونات السياسية المهيمنة. وحتى يأذن الله بذلك، تعالي يا بغداد، يا عروس الرشيد وسيدة بابل، «يا بهية المساكن.. يا زهرة المدائن.. يا مدينة السلام»، غادري أتون المحن، لملمي أجزاءك، واغتسلي بطهر الفرات، افتحي ما بقي من شرفاتك الخضراء، الدنيا تنتظر إطلالتك يا جميلة الحسان، لتحتسي معك شاي المساء، وتنظم قصيدة عشق لعينيك:
«بغداد ما اشتبكت عليك الأعصر/ إلا ذوت ووريق عمرك أخضر/ مرت بك الدنيا وصبحك مشمس/ ودجت عليك ووجه ليلك مقمر/ وقست عليك الحادثات فراعها/ أن احتمالك في أذاها أكبر..».
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|